المصطلح العربي والمقامرة بتعميم اللغات الأخرى

مشكلة المصطلح العلمي باللغة العربية في ميادين المعرفة كلها مشكلة حديثة وليست مشكلة قديمة كما يعتقد البعض، هي مظهر سلبي لواقع سلبي، صاغته ظروف كثيرة تاريخية وذاتية. واقع يعاني من مشكلات كثيرة، تبدو مزمنة، نظرا لما يقدم إليها من حلول وأدوية على الدوام، من دون أن تكون هناك أي نتيجة إيجابية، مع الأسف الشديد.
يشير العلامة ابن خلدون (رحمه الله) -في “مقدمة” تاريخه- إلى نقطة جوهرية في تحصيل المعرفة، مفادها أن كثرة المصطلح والاختلاف فيه مدعاه للتواني عن تحصيل العلوم. وفي ذلكم ميزان راكز في معرفة مستويات المعرفة لدى الأفراد والأمم؛ فما معرفة كم من المصطلحات والمهارة في اجتراحها كاف وحده لبلوغ مستويات عالية في المعرفة، كما أن تعدّد التآليف وكثرتها ليس دليلا على بلوغ غايات سامية في الثقافة والعلم؛ ولعل هذا ما يجعلنا نقول إن الدوران حول قضية المصطلح وكثرة الاستشكال فيه مما يجعل الباحثين يراوحون مكانهم في البحث العلمي.
كما يؤكد هذا الرجل إلى توصيف لا يقل أهمية عما سبق ذكره، يهدي الباحث المعاصر إلى تكييف واضح لمشكلة المصطلح التي يعاني منها. فالمعرفة لديه مراتب: رموز الكتابة، وألفاظ تصاغ من خلال الرموز، ومعان تحتضنها تلك الألفاظ، ومنطق يحكم تلك المعاني، وفتح رباني يحمل هبات معرفية، يكرم الله، تعالى، بها الباحثين المخلصين. في تراتبية منسجمة تبدأ بالكتابة وتنتهي بالفتح الإلهي. ولا يقام دور من تلك الأدوار إلا مستندا على سابقه وداعما للاحقه، حتى إذا استوت الأدوار كلها اكتملت المعرفة الحقّة عند الإنسان.
ولقد رأينا كيف افتقد الأتراك هذه التراتبية الموروثة في تاريخهم الثقافي لما تعلمنت الحياة عندهم، فانتكست المعرفة لديهم إلى الدرك الأسفل منها، فاستبدلوا أبجدية لغتهم التي كانت تتمثل الحرف العربي الخالد باللاتيني المتبدل، ووقع بعض الأمازيغ في المطب ذاته لما استعاروا للبربرية رموزا أوروبية؛ وغدا الجدل عقيما مزمنا بين البربر: أي كتابة نختار لهذه للغة؟ وأتاحوا للاستعمار التدخل في هذا الشأن الخاص بالأمة الجزائرية ليثأر ويصفي حسابات، من دون أن يلتفتوا إلى ما هو مهم في المعرفة، أقصد باقي الأدوار التي تحدث عنها ابن خلدون انتهاء بربط المعرفة بمصدرها وهو الله، سبحانه وتعالى.
الحاجة إلى بنية ثقافية مزدوجة للباحث المعاصر
عندما ندرس البناء الثقافي للعلماء في العصور الذهبية للأمة الإسلامية، نجد أن المعارف الإسلامية كانت هي أساس بنيتهم الثقافية، وتأتي اللغة العربية تبعا لذلك، وهي، وإن كانت مكتسبة سليقة، إلا أنها لدى الكثير من العلماء مكتسبة تعلما، حتى إذا مهروا فيها صاروا من أبنائها، بل وسبقوهم فيها.
وإن رام هؤلاء الباحثون إبداعا معرفيا وجدوا عقولهم وقلوبهم قد انبنت وفق تلك الثقافة الإسلامية، وطاوعتهم اللغة إلى أبعد الحدود أسلوبيا ومعجميا… ولم نلف أحدا منهم عانى من الألفاظ أو استغلقت عليه المعاني، بل نجد هؤلاء قد انتظموا في دار الحكمة مولين شطر الثقافات الأخرى مترجمين وناقدين. في ترجمتهم، ترى المصطلح ثرا متراقصا، وفي نقدهم، تلفي الأصالة والرصانة. وظل الأمر على ذلك الحال حتى حملة نابليون على مصر، وهي حملة استعمارية مدمّرة وليست نهضة كما يحلو للبعض أن يراها.
المفتاح السحري لحل مشكلة المصطلح في هذا الباب هو العودة الجادة إلى المناهج الثقافية التي سادت في القرون الذهبية شكلا ومضمونا، وبناء الحياة العقلية على أساسها، مع مراعاة العصرنة كما نراها نحن لا كما يراها الآخرون. وجعل البنية المعرفية للباحثين بنية مزدوجة: إسلامية بلسان عربي مبين، وإنسانية بلسان أجنبي شهير، هذا إن كنا نتحدث عن ميادين العلوم الإنسانية، ومثل ذلك يقال أيضا في ميادين العلوم الكونية.
من الخليل إلى العلايلي والحاج صالح
الشيخ عبد الله العلايلي، رحمه الله، تجربة معاصرة في فك طلاسم الموازين الصرفية والاشتقاق وتعريب الدخيل. وقد استرعت تجربته الباحثين في مجال العربية والترجمة منذ صدور كتابه اللطيف “مقدمة لدرس لغة العرب” عام 1938. ويبدو أن جنون الاهتمام باللغات الأجنبية والتعلّم بها، وهوس اللحاق بالنموذج الغربي في القرن الماضي، ران على العقول وأعمى البصائر، فلم تحفل المؤسسات ومن ورائها السياسات بأقوال العلايلي وأمثاله، من الغيورين على مقومات أمتهم الثقافية، ومنها اللغة، التي تعتبر عند الأمم المتحضّرة ركيزة من ركائز وجودها.
نشير هنا، بناء على ما قاله الشيخ العلايلي، إلى أن الجذر الثلاثي بتقليباته الست، مضروبا في ثلاثمائة صيغة من الميزان الصرفي؛ يحصل لدينا ألفا وثمانمائة كلمة، على الأقل. وإذا استحضرنا أن كاتبا مجيدا في لغة ما يحتاج إلى متوسط من الألفاظ يعادل أربعة آلاف كلمة، وأن جذرا واحدا من العربية يوفر شطر هذا المعدل؛ ندرك ساعتها كم هي العربية ثرية وغنية، وكم هم تعساء أهلها وخاسرون جراء التنكر لها!
لقد حفل كتاب العلايلي “المعجم” بتطبيقات موّفقة وزاخرة لقاعدة الموازين، وقد عاجلت الشيخ المنية فلم نستمتع طويلا بعبقريته الخليلية، وإن كنت أدرك أن ما نوى فعله لتنوء بالعصبة أولي القوة، ولكني أجد في ما خطه لنفسه من طريق كان خير درب للاحقين على خطاه.
ولبعد ما ذهب إليه العلايلي وجرأته في ذلك، غير مبال بما سينتج عنه من استغراب، وصف الدكتور صبحي الصالح تجربته بأنها تجاوزت كل الحدود، موردا بعض الضوابط التي تخفف من “غلواء” هذه الجرأة.
لم يكن الدخيل إلى العربية قديما ليبقى دخيلا والقرائح التي ارتوت بمعين العربية، قرآنا كريما وحديثا شريفا وشعرا أصيلا ونثرا جميلا، عاجزة عن استيعابه، بل إنك تعدم -في ما نعلم- كلمة أجنبية باقية على أصل لغتها لم تخضع لموازين العربية، مضمنة في كتاب من كتب العربية في القرون الذهبية، شأن الكتابات اليوم، التي أشبهت ألسنة أصحابها، فلا هي عربية صرفة ولا هي أعجمية محضة، والدخيل فيها يملأ الأسطر والصفحات. بل تكاد تجزم أن الباحث اليوم يتعمد إدراج هذه الكلمات في كتاباته كما هي في لغاتها دلاليا وصوتيا ومعجميا، وكأنه يتباهى بذلك أو يدّعي معرفته بلغتها التي وردت منها؛ وهذه ظاهرة غريبة جدا في تاريخ الكتابة بلغة القرآن الكريم، وأحسبها -بلا مبالغة- مرضا نفسيا لا علاج له في الطب النفسي الحديث.
بقي أن أنبّه إلى مشروع الذخيرة اللغوية، الذي اقترحه الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح، وهو مشروع العمر بالنسبة للأمة الإسلامية، وأحسب أن ما دعا إليه من جمع لألفاظ العربية وحوسبتها وصيغها واستعمالاتها ومقاماتها وترجماتها… يعد نواة فكرية جيّدة للبناء عليها، وبما أن مشروعا كهذا لم ير النور بعد رغم إمكاناته المتوافرة نظريا، لكن للأجيال القادمة إمكانية استلهامه والبناء عليه، في جهد متواصل لا أراه ينتهي بزمان أو يحد بمكان، ومرجع ذلك كله إلى سمة تتميز بها مثل هذه المشاريع العملاقة.
الكتابة الإبداعية في التعامل مع ثقافة الآخر
أغلب ما يكتب من دراسات تدّعي الحداثة هو صورة مشوهة عن ثقافة الغرب، التي أصابها الفتور والعجز في السنوات الأخيرة، وأصبحت تدور على نفسها بعدما وصلت إلى منتهاها، نظرا لانغلاقها على العالم المادي المحدود، فلم تستطع أن تنفذ منه إلى عالم الروح اللامحدود؛ فانكفأت على نفسها، فتآكلت وشاخت. يقال هذا على كل الميادين تقريبا، سوى ما يوسّعه المنهج التجريبي في عالم الكونيات الفسيح، وهو توسّع بطيء جدا إذا ما قورن بما لو توسّع على هدي من الوحي والنبوات.
أما قضايا الإنسان، فقد استغلقت وارتدّت بأصحابها إلى نقطة البداية، وعالم الاقتصاد خير شاهد على هذا، وقضايا التربية لا تبعد كثيرا عما نقول.
قد يتأتى ذلك بنصب فردي، ولكن مشكلة المصطلح مشكلة أمة بأسرها، فلا مناص، إذن، أن نتوسل بالتربية والتعليم لبلوغ هذا الهدف النبيل؛ فنبني مناهج التعليم على أسس إيمانية ومعرفية صالحة، تماما كما كانت في القرون الإسلامية الأولى، ثم علينا أن نفعّل كنوز العربية، ونعتكف على دراستها، ونتعامل معها بخصوصيتها التي تعامل بها العلماء الأقدمون، مستحضرين دوما أن العربية جرت في لفظها لغة السماء.
الكتابة الإبداعية بلغة عربية مقرأنة، والقناعة بجدوى ذلك مستقبلا، في ظل تراجع لغات الغرب القهقرى، يقدّم مفاهيمنا المتجدّدة بمصطلحات جديدة إلى الآخر، ومن ثمّ، الاستثمار في ترجمتها إلى لغاته… كل ذلك أولى من هدر الأعمار في جلب مفاهيم الآخر إلينا ونحت مصطلحات مقابلة لها في لغتنا.