الهجرة.. معركتُها لا ترتبط بالمكان

ينبغي ألا نستمر في التَّبَاكي على هجرة الأدمغة بدون البحث في كيفية التعامل الإيجابي مع هذه الظاهرة التي أصبحت عالمية بامتياز. لقد بات واضحا اليوم أننا بصدد اتجاه وليس ظاهرة تخُصّ البحث عن فرصة عمل في الخارج، ومن غير الممكن مَنع هذا الاتجاه من الاستمرار، على الأقل في المدى القريب والمتوسط، الأمر الذي يستلزم إيجاد بدائل للتَّكيف معه والتَّعامل معه بما يخدم مصلحة الجميع.

لقد بيَّنَتْ إحصائيات الأمم المتحدة الأخيرة أن التحويلات المالية من بلدان الوجهة إلى بلدان المصدر بلغت 626 مليار دولار في سنة 2022، تَصدّرت الهند جميع بلدان العالم باستقبال 100 مليار دولار من مهاجريها خلال هذه السنة بما يعادل 3% من ناتجها الخام، وقاربت 2 مليار دولار ببلادنا، وفاقت حدود 10% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض البلدان مثل لبنان، بما يعني أن هناك على الأقل عاملا إيجابيا يُمكِن تكييفُه لصالح بلد المصدر يتمثل في تسهيل التدفقات المالية نحوه. تبقى العوامل الأخرى غير البارزة للعيان ينبغي الإشارة إليها إذا ما كُنَّا بصدد البحث عن أساليب للتَّكيف مع هذا الاتجاه المتزايد يوما بعد يوم بدل إلقاء اللوم على أصحابه أو تأنيبهم أو محاولة إقناعهم للعدول عن قراراتهم.

لقد أصبحت الهجرة المنتقاة اليوم، موضوع تنافس عالمي حادّ. الدول الصناعية الكبرى التي تعرف شيخوخة مستمرّة تسعى لاستقطاب الكفاءات الشابة من جميع أنحاء العالم لتعزيز قدراتها الاقتصادية والحفاظ على توازنها الديمغرافي وتفوُّقها العلمي، والدول النامية يُفتَرَض أن تتعامل مع هذا الواقع بما يخدم مصالحها هي الأخرى. ولا يكفي الاقتصار على السعي لزيادة تدفُّقات المهاجرين المالية نحوها، رغم أهميتها، بل ينبغي التفكيرُ في أساليب أخرى لتثمين دور مهاجريها في الخارج، ذلك أنَّ الدول المستقبِلة أصبحت اليوم، في الجانب المالي بالذات، تسعى بكل الوسائل لكي يتم استهلاك مداخيل المهاجرين بأسواقها بدل إرسالها نحو الجنوب.

ومن بين هذه الأساليب، الإسراع في سن تشريعات تُسهِّل عملية نقل المعارف والتكنولوجيات إلى بلداننا بما في ذلك أساليب التسيير والتدريب، وتقديم مزايا جبائية وعقارية للمهاجرين من أجل الاستثمار في بلدانهم الأصلية أو المشاركة في الاستثمار دون حاجة إلى الإقامة الكاملة بها.

لقد لاحظنا اليوم أنه لا توجد سياسة واضحة لتشجيع الكفاءات المهاجرة لتساهم في الرفع من مستوى التعليم بجامعاتنا مثلا إذا استثنينا بعض المبادرات الفردية، كما لا توجد عملية استثمار في المخابر الأجنبية التي يشتغل بها جزائريون لنقل خبراتهم إلى الوطن وتحويلها إلى قطاع الإنتاج، وقس على ذلك باقي القطاعات.. هناك نوع من القطيعة التي تكاد تكون مفروضة بيننا وبين أبنائنا في الخارج إذا استثنينا الروابط العائلية.

هذا الواقع ينبغي أن يتغير، وإذا ما كُنَّا لا نستطيع منع أيٍّ من كفاءاتنا أو أيِّ مواطن آخر من الهجرة، باعتبار ذلك من حقوقه الأساسية، بغضِّ النظر عن مدى ملائمة الظروف من عدمها، فإنّ علينا أن نمتلك إستراتيجية واعية لربطه بوطنه الأمّ قائمة على التكامل البنَّاء ومن دون مزايدات أو لَوم.

إن مهاجرينا هم حلقة الربط بيننا وبقية العالم في جميع المجالات إذا كُنَّا نرمي إلى التقدم والازدهار، وليسوا أبدا فارِّين من أرض المعركة كما يحاول البعضُ وصفهم. المعركة اليوم التي نخوضها ضد التخلف لا ترتبط بالمكان، ومن أي مكان يمكن للمرء خدمة بلده، وبلا مزايدات نستطيع أن نُقدِّم شيئا لهذا البلد، بل ويُمكننا أن نتقدم.