بماذا توحي بادرة 1 نوفمبر 54 إلى الجزائريين؟
يتم تفسيره من وجهة نظر اجتماعية وعاطفية، على أنه انتقام من الاستعمار الفرنسي، وعمل من أعمال استعادة السيادة الوطنية. هكذا، تفكر الغالبية الساحقة من الجزائريين، الذين ينظرون إلى الأول من نوفمبر من منظور مزدوج: استعادة الاستقلال الوطني، وإعادة بناء الدولة الجزائرية على أسسها الأصلية، واستعادة الهوية الوطنية التي اغتصبتها فرنسا الاستعمارية في أثناء وجودها الذي دام قرابة قرن ونصف.
بحجة “حملة عقابية” ضد الجزائر على القرصنة، أنزلت فرنسا قواتها في سيدي فروش، في جوان عام 1830، وهي حملة عارضتها مقاومة شرسة بقيادة الأمير عبد القادر، ولم يتنازل إلا بعد مقاومة طويلة رفع بعدها رجال أول نوفمبر شعلتها.
ومن هذا المنطلق، يبدو الأول من نوفمبر بمثابة استمرارية وامتداد للمقاومة الوطنية الأولى، التي امتدت من جوان 1830 إلى ماي 1837 (معاهدة تفنا).
يرمز الأول من نوفمبر إلى المقاومة ضد الهيمنة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه، هو عمل من أعمال الكرامة والشرف، وهي قيم مقدسة داسها الاستعمار الفرنسي واستهزأ بها باستمرار، إنكارا للهوية الوطنية.
إن اللفتة البطولية في 1 نوفمبر تكشف أيضا عن نفسها، في نظر كل الجزائريين المليئين بالحب والتعلق بوطنهم، عمل انتقامي ضد النظام الاستعماري القمعي الذي أصر على إنكار الهوية الثقافية والدينية والتاريخية للأمة الجزائرية، ولا يزال الجزائريون يتذكرون الجرائم النكراء التي ارتكبتها فرنسا طيلة تواجدها في البلاد. ولن ينسوا أبدًا الجراح التي لحقت بالشعب الجزائري خلال مائة وثلاثين عامًا من وجوده في هذا البلد، الذي لم يتوقف أبدًا عن محاربته برفض ما يسمى بـ”العمل الحضاري”.
بعد أيام قليلة، يحيي الجزائريون الذكرى السبعين لاندلاع حرب الاستقلال ضد النظام الاستعماري الفرنسي، وهي المناسبة لمناشدة التاريخ والذاكرة ضد نسيان ما يسمى بـ”الحضارة”، و”التهدئة” التي فعلتها فرنسا في الجزائر…
كما أن إحياء ذكرى 1 نوفمبر 54 يعني بالنسبة للجزائريين علامة الولاء لذكراهم وتاريخهم.
إن استحضار وتمجيد البادرة الثورية لعام 1954 هو إظهار الولاء لأصولها، كما كتب فرانسوا بيداريدا، فإن الإخلاص هو فضيلة علاجية: “إن الإخلاص، وهو فضيلة نادرة، ضروري لكل كائن ليثبت انتماءه، ويضع معايير في ما يتعلق بالآخرين، ويكون، على حد تعبير القديس أوغسطينوس في الذاكرة، حضورا نشطا تجاه نفسه. الإخلاص مليء بالأمل أيضًا، مثل إرميا، الذي سجنه صدقيا واشترى من أعماق سجنه حقلا يقع في عناتوت، في اليوم السابق لاستيلاء البابليين على أورشليم: إنها صفقة عديمة الفائدة، وهي لفتة سخيفة من الناحية الإنسانية، ولكنها تظل على مدى قرون رمزا للأمل الذي لا يمكن لأي شيء أن يدمره”.
لكن ما الذي يميز الذاكرة عن التاريخ؟ هنا هو التوضيح:
“القصة تقع خارج الحدث، وتولد مقاربة نقدية تجري من الخارج، والذاكرة توضع في الحدث، وتعود إليه بطريقة ما، وتسافر داخل الموضوع. ويصبح معاصرا لما يحاول نقله، بدلا من أن ينأى التاريخ بنفسه عنه، بإدراك الحدث وتشريحه ومحاولة استخلاص الجوهر والمعنى معا- بالمعنى المزدوج للمصطلح الأخير، أي الاتجاه والمعنى. معنى هذا هو السبب في أن المسارات ليست هي نفسها. الهدف من الذاكرة هو الإخلاص والتاريخ والحقيقة”.
يتذكر الجزائريون جيّدا الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة الأول من نوفمبر. ومن هذه الأسباب نذكر أهمها: مماطلة فرنسا ووعودها بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية لم تحترم قط (خطة قسنطينة) لصالح “المسلمين”، يضاف إلى ذلك السياسة التمييزية بين الأوروبيين والمسلمين، مصادرة أراضي الفلاحين والمصادرة والضرائب والقمع متعدد الأوجه ضد الشعب الجزائري.. هذه، من بين أمور أخرى، هي المكونات الأساسية التي ساهمت في الانتفاضة الثورية في الأول من نوفمبر 1954. إن موقف الانتظار والترقب والتردد الذي أبداه الأب المؤسس للقومية الجزائرية مصالي حاج، الذي أجل التمرد إلى أجل غير مسمى، إلى جانب رغبته في الحفاظ على سيطرته على PPA وجميع الأجهزة المنبثقة عنه، كل هذا يفسر انفصال PPA-MTLD، وظهور “الناشطين” (مجموعة الـ21، المنظمة الخاصة، إلخ).
والتحضير لأول نوفمبر54، كما يوضّح ذلك محمد بوضياف في عدد “الجريدة” لـ”حزب الثورة الاشتراكية” الذي كان يترأسه.
وهذا ما أدى إلى قطع هؤلاء الناشطين علاقاتهم مع الرائد و”الأب الروحي” للقومية الجزائرية التي جسّدها الرمز المصالي في أثناء عقود طويلة من الزمن. وهنا تكمن «نقاط القوة» في نظرنا، التي أشعلت هذه الثورة المجيدة.
والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو معرفة ما هي القاعدة الاجتماعية لهذه الحركة الثورية التي جسدتها جبهة التحرير الوطني؟
كانت هذه القاعدة الاجتماعية مكونة من الفلاحين، وعمال المدن، وصغار الموظفين المسلمين من الإدارة الاستعمارية (محمد بوضياف على سبيل المثال)، وبعض الأعيان المسلمين الذين نشؤوا على حليب القومية الجزائرية (بن بولعيد)، والعمال المهاجرين الذين شكلوا الممولين الرئيسيين لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، التي قدمت قوات صاعقة ضد شرطة موريس بابون، قائد الشرطة المسؤول عن مذابح المهاجرين الجزائريين في أكتوبر 1961، في باريس. ويجب ألا ننسى تجار المدن، خاصة أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، الذين ساهموا في المجهود الحربي لجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، والذين لعبوا أيضًا دورًا مهمًا في نشر الأفكار القومية التي وصفتها، آنذاك، بـ”التخريبية”، السلطات الاستعمارية. سؤال آخر يستحق أن يطرح: ماذا كان رد فعل المستوطنين غداة إطلاق الرصاصة الأولى في الأوراس؟
كان مستوطنو الجزائر أكثر تعلقا بـ”الجزائر الفرنسية” من سكان فرنسا الأم وأقوى المؤيدين لبقاء فرنسا تحت أقدامها. وحتى صغار المستوطنين الذين لم يكن لديهم أراضٍ وعقارات كبيرة كانوا مرتبطين بشدة بالجزائر، وهو ما لم يكن بإمكانهم تصوره خارج أحضان فرنسا. وذلك، لأن الأرض الجزائرية لم تقدم لهم فقط “الشمس الجميلة”، و”الأزرق الكبير”، أي البحر، والمناظر الطبيعية الإيجابية، والمساحات الشاسعة والرائعة للصحراء ذات الشكل القمري، ولكنها قدمت لهم أيضًا وقبل كل شيء هذا الشعور الممتع بالعيش. يأمرون “العرب” ويكونون رؤساءهم “العنصريين”. وشكّل “البيض الصغار”، الذين قدموا من الألزاس واللورين، بعد احتلال بسمارك لهذه المناطق عام 1871، إحدى أكبر الوحدات الاستعمارية لسكان الجزائر. ويأتي في الخلف الإسبان والإيطاليون والمالطيون والكورسيكيون.
وفي اليوم الأول لاندلاع الثورة في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 54 (عيد القديسين)، تفاجأ كل هؤلاء المستوطنين ذوي الألوان المختلفة وشعروا في ذالك اليوم بصوت وكأنه رعد في سماء هادئة. لقد أصابهم الذعر الشديد وحث العديد منهم النظام العسكري على اتخاذ إجراءات صارمة ضد هؤلاء “الخارجين عن القانون”، و”المتمردين”، الذين يشوشون النظام “المتحضر”.
اعتنق العديد من كبار الضباط في الجيش أفكار المستعمرين الذين كانت الجزائر بالنسبة لهم ويجب أن تظل جزءًا لا يتجزأ من فرنسا. ألم يعلن جاك سوستيل، الحاكم العام للجزائر، مرات عديدة خلال الخمسينيات أن “الجمهورية واحدة لا تتجزأ”؟ وأن “الجزائر جزء لا يتجزأ منها؟” وكان روبرت لاكوست، الوزير المقيم، الذي خلف سوستيل، في نفس الاتجاه.
تشكيل لجنة السلامة العامة برئاسة الجنرال ماسو (13 مايو 1958)، أسبوع المتاريس في الجزائر العاصمة الذي نظمه نشطاء مؤيدون للجزائر الفرنسية (24، 59 يناير)، انقلاب الجنرالات في الجزائر العاصمة (22-25 أبريل) كان عام 1961 وكذلك ميلاد منظمة الجيش السري في العام نفسه، دليلا صارخا على ارتباط المستعمرين العميق بـ”الجزائر الفرنسية”، وبالتالي، الحفاظ عليها بشكل نهائي في الحظيرة الفرنسية.
وهذا التعلق يفسر كثرة الحنين إلى الجزائر الفرنسية وكثرة قوتهم في فرنسا ويحاولون بكل الوسائل الإبقاء على حالة من الخلافات والتوترات بين البلدين. إن محاولات التشكيك في وضع الهجرة الجزائرية، والإدانة المتكررة لبعض بنود اتفاقيات إيفيان، والتشويه المنهجي للجزائر من جانب ورثة جان ماري لوبان وجزء من اليمين الكلاسيكي، تشهد على ذلك. بقاء الفكرة الاستعمارية والاستعمارية الجديدة في فرنسا في أذهان كل من لم يهضم اندلاع الثورة الجزائرية، وبالتالي، الاستقلال الذي حصلت عليه عبر نضال شاق…
كشفت فرنسا الاستعمارية عن نفسها، أي من خلال الأعمال الهمجية التي ارتكبتها في الجزائر، مثل إبادة الظهرة ومجازر سطيف وخراطة، وغيرها.. كما استنكرت نفسها وأظهرت وجهها الحقيقي من خلال أفعالها المتمثلة في المذابح المرتكبة والمصادرة والسلب والاقتلاع وإنكار الهوية الثقافية والدينية للجزائر. إن ما فعلته ثورة نوفمبر هو تحطيم أسطورة القوة الاستعمارية، والتصدي لهذه القوة، التي قيل إنها لا تقهر، وأظهرت لجميع المتشكّكين في العالم أن شجاعة وتصميم شعب محب لحريته هما أمران أساسيان ويشكلان الشرط الأساسي للنصر النهائي.
وفي ما يخص الناشطين القوميين الأوائل والذين عرفوا ودرسوا فرنسا من الداخل والخارج، فقد اكتشفوا منذ زمن طويل أن الخطابات التي كانت تروج قرن التنوير والقيم التي انبثقت عنه (الديمقراطية، حقوق الإنسان، إلخ) تتناقض بصور مطلقة مع الوقائع التاريخية، ولم تكن سوى دعاية تهدف إلى التضليل والخداع… لأن الاستعمار واضطهاد شعب معين أو طبقة اجتماعية، لم يكن ذلك إلا نقيض التنوير وحقوق الإنسان…
قبل أن نختتم هذه الرواية التاريخية، يتبقى لنا سؤال أخير من الجيد الإجابة عنه: أين مؤرخونا وماذا يفعلون لكتابة أو إعادة كتابة تاريخ موضوعي، إن لم يكن محايدا، للثورة؟
في الحقيقة، ليس لدينا حاليا مؤرخون يستحقون هذا الاسم، أي مدربون وأكفاء بشكل كاف.
لم يعد المؤرخون المحترفون والمفكرون الصارمون والنقديون، مثل محفوظ قداش ومحمد حربي ومالك بن نبي وغيرهم، موجودين في الجزائر.
ليس لدينا مؤرخون متخصصون في الثورة، بل أساتذة يمتدحون الثورة من دون تفكير نقدي.
لا يوجد دراسة جدية حول الثورة، يشرف عليها مؤرخون محترفون من حيث الكفاءة والاستقلال الفكري والروح النقدية. ما هو موجود هو أقسام التاريخ في سائر الجامعات الجزائرية تقريبا، ولكن لا يوجد مؤرخون “محترفون” بالمعنى المهني للكلمة. من المؤكد، أن هناك مدرسين للتاريخ في كل مكان في مختلف تخصصات هذا الفرع، لكن تكوينهم وكفاءتهم ضعيفة جدا.
صحيح أن تاريخ الثورة الجزائرية، يدرس فعلا في كل جامعاتنا، لكن من قبل أساتذة غير متكونين تكوينا كافيا، لأنهم غالبا ما يجهلون أساليب ومناهج تدريس التاريخ بصورة نقدية ومستقلة. ومع ذلك، يتظاهرون بأنهم “متخصصون في ثورة نوفمبر”.
إن تعاليمهم، مثل كتاباتهم، تتم بأسلوب مزدوج: الحشو والتمجيد. إن هذين الأسلوبين في تدريس التاريخ وكتابته يسيران جنبًا إلى جنب ولا يتركان مجالا كبيرا للتفكير النقدي، الذي يؤدي على حسابه إلى تطوير سرد كامل للاحتفال وتمجيد الثورة الجزائرية وأبطالها، الأحياء والأموات. في حين أن الثورة وأبطالها، لا يحتاجون إلى المدح وهدايا، مثل تقديم «باقات الزهور»، بل يحتاجون إلى تحليل نقدي واضح، وواضح بالمعنى البناء والمحايد…
لكن مؤرخينا الشباب يميلون إلى الإشادة بثورة نوفمبر أكثر من إخضاعها للتدقيق النقدي من أجل رفع كرامتها ومصداقيتها في نظر التاريخ والعالم…