رحيل آخر عناقيد عائلة بن باديس الصغيرة

بحضور شعبي ورسمي، ووري آخر عناقيد العائلة الباديسية الصغيرة، شقيق العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، الأستاذ عبد الحق بمقبرة العائلة، بعد زوال الأربعاء، وحضر الجنازة إضافة إلى أفراد العائلة وجمع من جيران الفقيد من وسط مدينة قسنطينة وجمهور من سكان المدينة، خاصة أبناء المدارس القرآنية، والي ولاية قسنطينة عبد الخالق صيودة ورئيس المجلس البلدي والمجلس الشعبي الولائي.
كما حضر الجنازة الدكتور عبد العزيز فيلالي وأعضاء من مؤسسة الشيخ بن باديس، وكانت التأبينية التي خطها رئيس مؤسسة بن باديس، عبارة عن رحلة في حياة الفقيد وأدعية للترحم عليه ووفاء للنهج الباديسي القويم، الذي أخرج المجتمع الجزائري من الظلام الذي أرادته فرنسا، إلى ضياء الحق والحرية، الحضور وقف أيضا على قبر الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي توفي منذ أكثر من 83 سنة.
وتوفي الشقيق الأصغر لرائد النهضة الأستاذ عبد الحق بن باديس عن عمر بلغ 103 سنوات، قضى 20 منها بجوار شقيقه في بيت العائلة، بحي القصبة بقسنطينة كتلميذ له، برفقة بقية تلاميذ الشيخ في الجامع الآخر ومنهم عبد الرحمان شيبان والشيخ أحمد حماني، بقسنطينة، ورفيقه في بعض رحلاته الفكرية، وأمضى البقية من العقود العُمرية، وهي أكثر من ثمانين سنة في العمل لصالح تراث باديس، إلى أن وافته المنية، وهو الذي حضر وبقوة في احتفالية ذكرى وفاة الشيخ الـ83 منذ بضعة أيام في 16 أفريل الماضي.
عشرون سنة بجوار عظيم الأمة
وُلد الأستاذ عبد الحق بن باديس في بداية سنة 1920 بقسنطينة، وتلقى أول هدية في حياته بتواجده برفقة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولم يبلغ سن الخامسة من العمر حتى ضمه الشيخ عبد الحميد إلى العائلة العلمية الكبيرة، فكان ينادي شقيقه العلامة كما أخبرنا بـ”سيدي حامد”، فكان ينهل منه علوم الدين وعلوم الحياة، فأصبح الشيخ عبد الحق بإجماع كل الذين عرفوه صورة طبق الأصل لشقيقه، ولا يعيش لشيء سوى وفاء لأخيه، وفي حضرة أخيه تعرَّف عبد الحق وهو يافع على كبار الجزائر ومنهم البشير الإبراهيمي بدليل أن الراحل عبد الحق، جمعته صداقة بابن البشير، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، كما بقي وفيا لعائلة مبارك الميلي إلى أن أتعبه السنّ، فما عاد يستطيع التواصل معهم.
ومن الصِّفات التي دأب عليها الأستاذ عبد الحق، حضوره كل الملتقيات الفكرية التي تعني شقيقه أو جمعية العلماء المسلمين، حتى بعد أن تجاوز قرنا من الزمن، وقد أجرى العديد من الحوارات الصحفية خاصة في أسبوعية “الشروق العربي” و”الشروق اليومي” وله حلقتان مصورتان عن حياة بن باديس في قناة “الشروق نيوز”، روى فيهما عن شقيقه الكثير من الأسرار، وطبعا الكثير من المواقف التي تدلّ على عظمة الشيخ عبد الحميد باديس.
الغريب أن السيد عبد الحق الذي ينتمي إلى عائلة قسنطينية، جذورها من المدينة العريقة، ومن ميسوري الحال، رفض مغادرة بيت العائلة العتيق الذي عاش فيه وتوفي فيه الشيخ عبد الحميد ووالدهما مصطفى، برغم قِدم البيت، وهذا في قلب حي القصبة العتيق بقسنطينة، ولم يهتم بتغيير البيت وكان بإمكانه فعل ذلك خاصة أنه التقى الرؤساءَ ومنهم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، في الكثير من المناسبات، كما أن ابنته السيدة فوزية بن باديس كانت عضوا في مجلس الأمة ضمن فريق الثلث الرئاسي في زمن بوتفليقة، الذي أهداه الأستاذ عبد الحق مصحفا تاريخيا كان ملكا للعلامة بن باديس الذي استقدمه معه من رحلته الشهيرة إلى الحجاز.
عبد الحميد تُوفي أمام عينيه
لم يعانِ الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته من أي وجع، لأجل ذلك عندما تعرض لوعكة صحية في 13 أفريل من سنة 1937، بُعثرت أوراق عائلته، فوضعت شقيقه الصغير عبد الحق الذي بلغ العشرين ربيعا في خدمته وتمريضه عندما يغادر طبيبه، وهو من عائلة الدكتور بن جلول، البيت، فكان عبد الحق لمدة ثلاثة أيام يخدم أخاه ومعلّمه في الوقت نفسه، ولم يتصوّر قطّ بأن هذا الرمز الذي يأتي لدروسه الناسُ من كل بقاع الجزائر ومن خارجها سيهز أركان البيت والجزائر برحيله.
بقيت تلك الفترة الغابرة زمنيا، راسخة في ذهن الأستاذ عبد الحق، الذي قال عنها: كنت أشاهد أخي مثل النحلة التي لا تتوقف عن الحركة، يصل أحيانا عدد الدروس التي يقدّمها أكثر من عشرة دروس في اليوم، كان تلامذته يصابون بالإرهاق وهو لا يتعب قطّ، وحتى وقته عندما يعود إلى البيت من أجل عمل آخر، مع سفريات إلى مدن وأرياف البلاد، وكنت ألاحظ خرائط التعب على وجهه إلى أن عاد ذات ربيع من صلاة الصبح فدخل فراشه ولم يخرج، ولم يتمكن من أداء أي صلاة أخرى جماعة في المسجد كما جرت العادة، فكان طبيب العائلة يدخل ثم يغادر غير متمكن من تحديد تشخيص دقيق لحالته، وأتولى بنفسي تطبيبه ووضع ضمادات على رأسه، إلى أن حل أكثر يوم في حياة السيد عبد الحق حزنا، عندما نهض كعادته مستشرفا استرجاع شقيقه لعافيته، ولكن البدن الهزيل للشيخ عبد الحميد بن باديس كان قد سلم روحه للخالق، فبقي الحزن يرسم صورة على وجه عبد الحق الذي كان يبكي بين الحين والآخر متذكرا ما جمعه بشقيقه العظيم من أمور عظيمة.
علاقة الراحل عبد الحق بـ”الشروق”
تمتد علاقة “الشروق” بالسيد عبد الحق بن باديس إلى ثلاثين سنة خلت تناولت سيرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد كان أول حوار للأستاذ عبد الحق مع “الشروق العربي” في ربيع 1994، اختار له الأستاذ عبد الحق مسجد العائلة سيدي قموش في قلب قسنطينة مقرا له، وتحدّث حينها عن أسرار، بدت في ذلك الوقت جديدة وغير معروفة، منها عن أسباب طلاق الشيخ من زوجته السيدة يامنة، في سن دون العشرين، والتي ربطها بكونه فضَّل العلم على أن يترك زوجته وهي أيضا ابنة عمه، تعيش مع رجل أرهقها بغيابه الدائم، وتحدّث عن كيفية تعامل الشيخ وهو في لحظة تقديم درس في المسجد الكبير بقسنطينة، مع خبر وفاة إبنه الوحيد إسماعيل الذي كان نور عينيه، بعد أن بلغ ربيعه السابع عشر، وقال عبد الحق الذي كان حاضرا في الجامع، بأن الشيخ عبد الحميد أكمل الدرس، ثم انزوى لوحده إثر المصيبة التي حلّت به، فبكى ولكنه رفض أن يترك تلامذته القادمين من أماكن بعيدة، من دون تعليم وتربية.
وقدمت “الشروق اليومي” في رمضان قبل الماضي أربع حلقات عن حياة الشيخ عبد الحميد، كانت من محتوى حديث الأستاذ عبد حق الذي التقته “الشروق اليومي” في العديد من المناسبات، كما كان له مرور في سنة 2018 في حلقتين عبر “الشروق نيوز” في حصة “أوراق من الذاكرة”، توقف فيها التصوير في الحلقة الأولى لمدة قاربت النصف ساعة، عندما تذكر تأبينية شقيقه ويوم دفنه، وبكى في صمت وعجز عن إكمال الحلقة إلا بعد جهد جهيد.
وبقي مدينا لـ”الشروق اليومي” التي كرّمته في احتفالية رمضانية في الجزائر العاصمة منذ خمس سنوات، إذ طار من قسنطينة برفقة رئيس جمعية مؤسسة الشيخ بن باديس الدكتور عبد العزيز فيلالي إلى الجزائر العاصمة، واعتبر ذاك التكريم وساما هو الأغلى في حياته.
أسرار من حياة بن باديس
ظلت الحياة الخاصة للشيخ عبد الحميد بن باديس مجهولة، فقد طغى جهاد الشيخ العلمي على حياته، فالرجل لا يعود إلى بيته إلا لينام ساعات قليلة، وحتى الكتاب الذي أصدره الدكتور عمار طالبي، في ستينيات القرن الماضي بعنوان “آثار بن باديس” برغم أجزائه الأربعة، لم يتطرق إلا سطحيا لحياة بن باديس الخاصة، فكانت “الشروق اليومي” تسأل بعد سنوات من الحديث عن معارف بن باديس وعلومه واجتهاده، عن حياته الخاصة، إذ عاش الأستاذ عبد الحق برفقة عائلته في مسكن في ممرّ أو نهج المكي بن باديس الذي يحمل اسم جدّه، وروى لنا الأستاذ عبد الحق كيف كان أفراد العائلة يقضون أيام رمضان في هذا البيت العتيق إذ يلتف عبد الحق وإخوته حول مائدة، بينما يجالس غير بعيد عنهم الشيخ عبد الحميد والده مصطفى برفقة شقيق عبد الحق، السيد العربي، وابن عمه أبو بكر شقيق يامنة زوجة الشيخ عبد الحميد، ويقول عبد الحق إنه كان في طفولته يقدّم لهم الماء في آنية مشهورة في قسنطينة باسم “الكفيتيريا والكيروانة” لغسل أيديهم قبل الطعام وبعده. ويتذكر دائما عبد الحق بأن أخاه الرمز، كان يتناول طعامه بملعقة من الحطب دون بقية أفراد العائلة، ويتذكر بأن الشيخ عبد الحميد كان مداوما في رمضان على احتساء الشربة الحمراء المسماة في قسنطينة “الجاري” بالكسرة أو خبز الدار.
ولم ينسَ عبد الحق أيام مرحه في طفولته إذ يجلس الشيخ بن باديس في الأماكن الخضراء وغابات قسنطينة تحت ظلال شجرة، يقرأ كتاب “العُروة الوثقى” لجمال الدين الأفغاني، ويلعب إخوته ومنهم الراحل عبد الحق كرة القدم، وبقي عبد الحق يتمنى الانتصار لفريق مولودية قسنطينة الذي ساهم شقيقه عبد الحميد سنة 1939 في تأسيسه ومنحه اسم المولودية واللون الأبيض الذي مازال الفريق يرتديه إلى حد الآن.
عاش عبد الحق مع شقيقه عشرين سنة لم يسمعه أبدا يشتكي من أي ألم، وحتى في أيامه الأخيرة رقد الفراش من دون تأوّه، كان في أسوء الأحوال يكحّ، ولكن التعب كان باديا عليه فهو لا يستطيع أحيانا حتى فتح عينيه، ويرفض المرحوم عبد الحق ما يقوله البعض من داخل الجزائر وخارجها، بأن الشيخ قد تعرَّض للاغتيال لأنه كان يقطن في شارع فيه الكثير من اليهود، فلم تمر سوى سنوات قليلة عن معركة قسنطينة التي أودت بحياة أكثر من ثلاثين يهوديا، إضافة إلى نشاطه المزعج للسلطات الفرنسية التي رفضت قطعا إمامة بن باديس للناس، إذ لم يصعد منبرا في حياته وأوقفت بعض صحفه وعلى رأسها “المنتقد”.
ومن خصوصيات الشيخ عبد الحميد بن باديس التي رواها المرحوم عبد الحق هي امتلاكه لغزالتين وضعهما في البيت، وتولى عبد الحق الاعتناء بهما، وكان ينوي إرسال بعثة من الفتيات للدراسة بالمشرق وإلى سوريا بالتحديد، لكن أمنيته لم تتحقق بسبب قيام الحرب العالمية الثانية في 1 سبتمبر 1939، وأصبح بن باديس رجلا جامعا لكل فئات الشعب بنسائه ورجاله وهو القائل: “نريد امرأة تلد لنا رجالا يطيرون، لا أن تطير بنفسها”، فكانت جنازته حدثا استثنائيا في تاريخ الجزائر كأول جنازة حضرتها النساء ضمن فرقة الكشافة الإسلامية.
قالوا عن الأستاذ عبد الحق
جمعت “الشروق اليومي” صباح أمس عددا من الشهادات من عائلة بن باديس عبد الحق ومن الذين تعاملوا معه لعدة عقود.
كريم بن باديس
هو في منزلة عمي، كان متواضعا يقف مع الجميع أشهد له بأنه يمثل شقيقه عبد الحميد أحسن تمثيل في جميع المناسبات العلمية والفكرية والوطنية والدينية، لا يتوقف عن الحكي عن الشيخ عبد الحميد، أنا أشتغل في مستشفى لخضر بن باديس وقد كنت إلى جانبه في أيامه الأخيرة، فسببُ وفاته لا يختلف عن سبب وفاة رائد النهضة الجزائرية وهو الإرهاق الشديد، إذ مكث بعض الوقت في قسم الأمراض المُعدية ثم تم تحويله إلى الانعاش الطبي، وأعيدَ إلى قسم الأمراض المعدية وهناك سلم روحه لله.
عمار طالبي / الرئيس الشرفي لجمعية العلماء
تعود معرفتي بالسيد عبد الحق إلى سنة 1964 إذ اتصلت به عندما ذهبت الى مدينة قسنطينة لجمع آثار رائد النهضة من أجل كتابة مؤلفي المعروف “آثار بن باديس”، بعد أن حصلتُ على رخصة من وزارة التربية للاطلاع على أرشيف العائلة.
صورنا حينها أشياء بن باديس وقبره والصور موجودة في المؤلف، اتصلت بالسيد عبد الحق والتقينا عدة مرات وابنته فوزية، وتكمن أهمية عبد الحق التاريخية في كونه عاشر الشيخ ودرس عليه وكان آخرَ إخوته، ويعطينا بعض الحقائق، ويصحح مغالطات، فقد كان شائعا بأن بن باديس سافر إلى الزيتونة في سنة 1908 ولكن المرحوم عبد الحق صحح التاريخ إلى 1910 وهذا ما تأكدت منه عندما اطلعت على دفاتر الشيخ، كما حافظ على بعض آثاره مثل محفظة أهدِيت له في تلمسان، وآمل أن يتم إهداء مكتبة الشيخ بن باديس الى المكتبة الوطنية.
الدكتور عبد الله بوخلخال / عميد سابق للجامعة الإسلامية
كنت أول رئيس لمؤسسة بن باديس وبقيت في منصبي 10 سنوات، أعمل بالتنسيق مع المرحوم، ساهمنا في بعث مؤسسة بن باديس في ديسمبر 1999 في قصر الثقافة مالك حداد وتم اقتراح الدكتور عبد الله حمادي ثم تحوّل الأمر إلى شخصي، وقد عملنا لمدة عشر سنوات وحضر غالبية الملتقيات الرئيسُ السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولم يحدث وأن اختلفت مع عبد الحق، وحتى عندما أفهمته مرة بأن المؤسسة ليست عائلية وتابعة لعائلة بن باديس فقط، بل هي وطنية ودولية صمت ثم قبِل كلامي ورحب به.
أعرف بأنه كان يحب أخاه حبا جما ويحافظ على كل التراث الباديسي الذي سلمه مؤخرا للمتحف الوطني للمجاهد.
الدكتور شوقي أبو حرم / إمام جامع الأمير عبد القادر
للسيد عبد الحق سمعة طيبة، فهو الذي يفتح لنا صدره من دون تردد، عندما كنت رئيس شعبة جمعية العلماء المسلمين، كان يفتح لنا المقبرة في زيارة علماء الأمة، ويلبي دعوتنا له في لقاءات جمعية العلماء المسلمين وفي تكريم العلماء، ويحضر باستمرار الملتقيات ويرافقنا، هو مشرّف فعلا لعائلة بن باديس ووفيٌّ لأخيه، ولم يحدث وأن تحدث عن تعب أو مرض يمنعه من الحضور، حتى وسنه كان فوق التسعين سنة في ذلك الوقت.
الدكتور عبد العزيز فيلالي / رئيس مؤسسة بن باديس
هو من الأوائل من الذين دعوا إلى بعث مؤسسة بن باديس، ظلت علاقتنا حميمية، كان من المواظبين على اجتماعات المؤسسة، لا يبخل قطّ بمعلوماته عن أخيه ولا يتدخل في عمل المؤسسة بل يؤيد دائما ما نقوم به لأننا نعمل لأفكار بن بن باديس أو الحركة الإصلاحية، طيبة المرحوم عبد الحق بن باديس لا حدود لها، وعلاقتنا به جيدة جدا، شخصيا كان يعتبرني ابنه، وتأثره بأخيه لصيقٌ به، فكلما تقرأ أمامه تأبينية محمد العيد آل خليفة يجهش بالبكاء.