-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سليم كلالشة

سليم كلالشة
الشروق
جانب من حفل تكريم كلالشة بمقر الشروق

يتعرّف الإنسان في حياته، طالت أو قصُرت، على كثير أو قليل من الناس.. وبتوالي الأيام وتعاقب الأعوام يسقط كثيرٌ من أولئك الناس من ذاكرة الإنسان، التي لا تحتفظ إلا بالقليل الذين تميَّزوا وامتازوا بمزايا حسنة أو سيئة، و:

عن المرء لا تسل، وسل عن قرينه   فإن القرين بالمقارن يقتدي و”كل يعمل على شاكلته”. 

وقد عرفتُ –كغيري ممَّن خلق الله من البشر- كثيرا من الناس لا أحصي لهم عدّا ولا ذِكرا، والقليل منهم هم الذين “فرضوا” أنفسهم على ذاكرتي، فلم تسدل على أسمائهم وعلى رسومهم ستائر النسيان. 

وممن قدر الله –عز وجل- أن أعرفهم، وأسعد بمعرفتهم، وتأتلف روحي مع أرواحهم الأخ العزيز، الصديق الكريم سليم كلالشة، الذي كان سليم القلب، حسنَ الخلق والخلق.. لا يتعدى عدد الأعوام الذي عشناه معا – مع انقطاعات فرضتها الأقدار– تسعة عشر عاما، حيث تعارفنا في عام 1970 على مقاعد الدراسة، في قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة الجزائر، وانتقل من الفانية إلى الباقية في 5-9-1989، وهو تاريخ لا يُنسِنيه كرّ الجديدين، لأن هذا التاريخ إذا قدّره الله –الذي خلق كل شيء بقدر– أن يكون هو يوم وفاة الأخ سليم، فهو اليوم الذي قدّره الله لي أن أولد فيه.. ولذا فأنا لا أنسى الأخ سليما إلا إن نسيتُ “يوم مولدي”. 

لقد جمعت بيننا مقاعد الدراسة في جامعة الجزائر كما أسلفت، ولكن الذي ألّف بين قلبينا وعملينا وروحينا هو ذلك المبنى الصغير، الذي كان “مشرحة” للأموات، فصار مكانا للدعوة إلى “الحياة”، مصداقا لقوله -عز وجل– “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”، ذلكم هو “مسجد الطلبة” بجامعة الجزائر.. الذي أؤكد أن ما أصبح يُسمَّى “الصحوة الإسلامية” إنما بدأت فيه، وانطلقت منه.. وسلام على تلك الأيام الخوالي بحلوها ومُرِّها، ورحم الله روَّادَه.. 

قبل أن أسجل بعض ما تختزنه ذاكرتي عن الأخ سليم كلالشة –رحمه الله– أودّ أن أشكر “الشروق اليومي” التي أشرقت على الجزائر، فبدَّدت جزءا من ظلامها، وكشفت بعض فاسديها ومفسديها، وسنّت سُنَّة حسنة، وهي إحياء ذكريات بعض “الشموس الشارقة”، من علماء وأساتذة، أناروا الجزائر وأضاءوا ما حولها.. ومنهم الأخ سليم كلالشة الذي دعت إلى تكريمه من عرفوا قيمته وفضله، فكان ذلك التكريم يوم السبت 1 أكتوبر 2016.. 

لقد حضرت أكثر تكريمات العلماء والأساتذة الذين كرّمتهم “الشروق اليومي”، أمواتا وأحياء، فما رأيتُ يوما كيوم تكريم الأخ سليم كلالشة، حيث اكتظت تلك القاعة، بل ضاقت على الحاضرين الذين بقي كثيرٌ منهم وقوفا، ولم يغادروها إلى نهاية التكريم. 

لقد كنتُ آخرَ متدخِّل في الذين تعاقبوا على منصَّة الكلام، واستمعت وأنصت لما قاله الإخوة الكرام عن أخلاق الأخ سليم وشمائله، فأشهد -بما علمت– على أن الأخ سليما كان ذلك الذي وصفوه.. طلاقة وجه، تبسُّم ثغر، طلاوة حديث، حلاوة خُلق، عفاف نفس، جواد يد على عوز، ذكاء عقل، رشاد عقل.. سمّو همة، وفاء ذمة، شجاعة موقف، ولم يبدِّل ذلك إلى أن لقي ربه فكان كما قال المفكر محمد إقبال: 

آية المؤمن أن يلقى الرّدى  باسم الثغر، سرورا ورضا. 

ومما أذكره للأخ سليم أن أستاذ “تاريخ الحضارة الفرعونية” سليمان أيوب، وهو أستاذٌ ضليع، ذو بِسطة في العلم والجسم، وهو من السودان الشقيق، كان ميَّالا إلى “الخرافة الداروينية”، معجبا بصاحبها، مرددا لدعواها بقوله: “كان أجدادُنا القردة..”، وكنا ننكر عليه ذلك، ونكتم نكراننا.. لقلة زادنا المعرفي وخوفا من “صرامته”، فقد كان يردد على مسامعنا: “يا تنجح بامتياز، يا تسقط بامتياز”. 

ذات يوم قال لي الأخ سليم في جدِّية: سأنهي “مهزلة” الدكتور سليمان أيوب، خاصة أن طلابا وطالبات “ناقصي وناقصات عقل ودين” – انبهروا وانبهرن به.. فقلت له في لهجة إشفاق وخوف عليه: “فماذا أنت فاعل؟”. 

أمسكني من يدي، وتوجه بي إلى “المكتبة القومية” في شارع العربي بن مهيدي، واشترينا كتابا عنوانه “الإسلام ونظرية داروين”، لأستاذ يسمى أحمد باشميل، وكان عندي كتابٌ يسمى “الإسلام يتحدى”، لعالم هندي مسلم اسمه وحيد الدين خان، وهو يناقش ثلاث نظريات أضلّت جِبلا كثيرا من الناس، هي الداروينية، والماركسية، والفرويدية، نسبة إلى الطبيب النفساني فرويد.. وانكببنا على دراسة الكتابين في الحي الجامعي بالقبة.. 

وذات يوم كنا في مدرج البناية الجديدة في الجامعة المركزية، وبدأ الدكتور سليمان أيوب يلقي محاضرته، ثم قال “لازمَتَه”: “كان أجدادنا القردة..”. فإذا بصوتٍ يقطع كلام الأستاذ قائلا: “أجدادُك وحدك..”. وفغرنا أفواهنا، ونحن نرى الأخ سليم بدأ يناقش الدكتور في “أجداده القردة..”.. 

وضرب لنا الأستاذ سليمان أيوب مثلا في الحِلم، واحتمال “طيش” طالب.. حتى انتهى الأخ سليم من كلامه.. 

وانتقل إعجابنا من “الطالب” إلى “الأستاذ”، ذلك أن الدكتور وجَّه كلامه إلى الأخ سليم قائلا: أشكرك على شجاعتك الأدبية، وعلى معلوماتك.. ومنذ ذلك اليوم لم يذكر الدكتور سليمان أيوب “أجدادنا القردة”. 

بعد التخرُّج في الجامعة، وأداء الخدمة الوطنية، انضممت إلى ما تهوى نفسي من الأعمال، وهو ميدان الكتاب، ممثلا في “الشركة الوطنية للنشر والتوزيع”، وعُيِّنت فيها مسؤولا عن قسم الكتاب العربي في مديرية النشر التي كان مديرا لها المناضل الأستاذ عبد الرحمان ماضوي، وكانت تقع في 51 شارع العربي بن مهيدي.. قرب البريد المركزي، وغير بعيد عن الجامعة.. 

بعدما ائتلفت “قلب” الأستاذ عبد الرحمان ماضوي اقترحت عليه على فترات توظيف أربعة أشخاص، فوافق عليهم، وكان الهدف هو إيجاد “لوبي” في مديرية النشر.. 

أما الأربعة الذين اقترحتهم على الأستاذ عبد الرحمان ماضوي –رحمه الله– فهم: 

الأخ علي رميته، رحمه الله، وهو من مدينة القل، وقد زاملته في ثانوية الشويخ في منتصف الستينيات، ودرس الحقوق، وكان مسجد الطلبة ملتقانا.. ثم ترك الشركة لبُعده، فقد كان يسكن في مدينة المدية، ولأمر آخر ليس هذا مكانَه.. وقد فتح “كشكا” يعتاش منه إلى أن أتاه اليقين… 

الأخ حسين برومه، وكان زميلا في قسم التاريخ.. ثم أنشأ في المديرية قسم “كتاب الطفل” فتولى تسييره. 

– ولا أذكر اسم الثالث، لأنه كان “ذكرا” ولم يكن “رجلا” وينطبق عليه تماما قول أبي الطيب المتنبي:

إن أنت أكرمت الكريم ملكته  وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا..

– وأما الرابع فهو الأخ سليم كلالشة، رحمه الله، وكنا ننوي أن نقترح على الأستاذ ماضوي –رحمه الله– أن يُنشىء قسما للكتاب الإسلامي، يتولاه الأخ سليم، الذي كنا نسميه “الشيخ عبد المعين”، وهو عالمٌ أزهري في مسلسل كان يعرض أيامئذٍ. 

أشهد -بما علمت– على أن الأخ سليما كان ذلك الذي وصفوه.. طلاقة وجه، تبسُّم ثغر، طلاوة حديث، حلاوة خُلق، عفاف نفس، جواد يد على عوز، ذكاء عقل، رشاد عقل.. سمّو همة، وفاء ذمة، شجاعة موقف، ولم يبدِّل ذلك إلى أن لقي ربه.

في أحد الاجتماعات في الشركة وُجِّه لي انتقاد بسبب الأخ سليم باعتباره يعمل في القسم الذي كنت أتولى تسييره، ولم يكن الأخ سليم حاضرا، ولكنه علم ولست أدري من أنبأه، فإذا به يستقيل من الشركة، وهو يقول “إنني على استعداد لأخسر أي شخص وأي شيء ولا أخسرك”.. وعبثا حاولت ثنيه فما أفلحت.. 

وهناك ذكرياتٌ عنه عندما كان مسجونا ظلما.. فسليم أبعد الناس عن التآمر على الجزائر، وهو لا ينفي اقتناعه بأن مشاكل الجزائر والمسلمين ليس لها من دون الله كاشفة.. وقد اتَّصل بي قاض عهد إليه بملف الأخ سليم، وسألني عن علاقتي به.. لأن بعض كتبي كانت عنده وأُخِذت في جملة ما أخِذ.. فأكدت لهذا الأخ القاضي أن الأخ سليما أبعد الناس عما يسمى “التآمر” على الجزائر.. ولا أنفي عنه كرهه ومقته للذين يخرِّبون بيت الجزائر، وهم يأكلون غلتها، ويلعنون ملتها.. الذين أخرج الله –عز وجل– ما كانوا يكتمونه.. 

وهناك ذكرياتٌ أخرى مع الأخ سليم عندما جاء إلى فرنسا للعلاج، وكنت والأخ محمد زايدي –نائب رئيس بعثة الجامعة العربية في باريس– نزوره في المستشفى، ونخرجه للتفسُّح والتخفيف عنه.. 

إن الأخ سليم كلالشة لم يعش ما عاش لنفسه، وإنما عاش لفكرة هي الإسلام، ولوطنٍ هو الجزائر ولم يكن ممن عناهم الشاعر بقوله: 

ولا تك من قوم يديمون سعيهم   لتحصيل أنواع المآكل والشرب 

فهذي إذا عدّت طباع بهائم   وشتان بين البهيم وذي اللب 

أنزل الله شآبيب رحمته على عبده سليم، ولقيه بقلب سليم.. ورحم الله والدته الذي كان برا بها.. ولقاهما نضرة وسرورا، وأفرحهما بلقاء أبيه وزوجها الشهيد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عمر كلالشة

    رحمك الله عمي و أسكنك فسيح جناته و ان يسكنك بجوار الصالحين و الأنبياء