“شيخ زاوية” يبعث حركة إصلاحية جديدة

على أطراف مدينة سيدي عيسى، وفي المدخل الشمالي تتراءى بناية حديثة، يغلب عليها اللون الأخضر، أنجزت بهندسة خاصة على ربوة صغيرة، تسمى الحجرة الزرقاء، التابعة إداريا إلى ولاية البويرة، لكنها محاذية لمدينة سيدي عيسى… هي زاوية الشيخ بلعموري التي تشهد خلال السنوات الأخيرة تحولا عميقا لمسه كل من زار الزاوية وتجول في أقسامها واطلع على نشاطها وتحدث إلى شيخها محمد بن يوسف نذير، واستمع إلى حديثه وخطبه التي تدور كلها على واقع الأمة وآلامها وآمالها.

هي زاوية عريقة في المنطقة، أسسها الشيخ محمد ساعد بلعموري سنة 1895، ليخلفه في المشيخة الشيخ بن يوسف بن حاج النذير سنة 1920، وفي سنة 1950 استلم المشيخة فيها الحاج محمد بن يوسف إلى أن توفاه الله سنة 2010، وقد سيق لـ “الشروق” أن تناولت جهوده في العمل الخيري وإصلاح ذات البين في عدد سابق، وآخر شيوخ الزاوية هو الشاب المثقف الموسوعي الشيخ بن يوسف محمد، الذي انتقل بعمل الزوايا إلى شكل جديد غير مألوف من خلال اعتماد عمل مؤسساتي داخل الزاوية بدأ بإجراءات قانونية تمثل في التنازل عن ملكية الزاوية وملكية بيته الشخصي الذي ورثه عن الوالد- رحمه الله- كما أقنع بعض مقربيه بالتنازل عن عقاراتهم وجعلها تابعة للأملاك الوقفية. وفلسفته في ذلك أن الزاوية وما أنجز فيها ملك بالأساس للفقراء والمحتاجين لأنها أنجزت بأموال الصدقات، ولا بد من إعادة هذا المال إلى أصحابه.

ولعل هذا هو سبب اختيار الشيخ الحالي وتزكيته خليفة للشيخ محمد بن يوسف رحمه الله، حيث كتب وصية سنة 2004 يشير فيها إلى تحميل الأمانة إلى الشيخ الحالي بن يوسف، لما لمسه فيه من إخلاص في العمل واجتهاد ومثابرة، وهو الذي كان يتولى شؤون المسجد بتكليف من والده منذ سنة 1987، فأكسبه ذلك قدرة عجيبة على الخطابة والوعظ يجمع فيها بين الرقائق وتزكية النفوس مع الخطاب العقلاني الواقعي. ولأن الرجل ذاع صيته إماما وداعية، فقد انتدب سنة 2006 من قبل وزارة الشؤون الدينية للإمامة في فرنسا غير أن والده طلب منه عدم السّفر والبقاء في الزاوية والقيام بشؤونها بسبب عجز الوالد ومرضه آنذاك.

رؤية جديدة للسلطة الروحية في الجزائر

هي رؤية جديدة لعمل الزوايا في الجزائر، تجاوزت تلك الخصومة التاريخية التي تتحدث عن كتب التاريخ في العلاقة بين الزوايا في الجزائر وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد تجسدت هذه الرؤية في أن نشاطات الزاوية الاجتماعية والدعوية والعلمية التي تنهل من نموذج الإمام عبد الحميد بن باديس في الإصلاح كما أن أنشطة الزاوية كلها تجري بتزكية ومتابعة من قبل الشيوخ الكبار من أمثال محمد الطاهر آيت علجت، الذي أعطاه في 2010 ما يشبه التزكية، وبعد ذلك بسنوات أذن له بتأسيس الجمعية الخيرية الإحسان للإشراف على عمل الزاوية، كما كان لشيخ زاوية الهامل دور كبير في توجيه عمل الزاوية وإرساء دعائم العمل الخيري والاجتماعي والعلمي.

الابن يجسد حلم الوالد

يقول الشيخ بن يوسف إن حلم والده هو أن تصل الزاوية إلى مستوى تخدم فيه الأمة في كل المجالات، وهو ما عمل عليه خلال السنوات القليلة الماضية على أربعة محاور، هي الوقف الخيري والوقف الإصلاحي والوقف التعليمي، ووقف الخدمة، ففي الوقف التعليمي تم تسخير كل الإمكانات التي بحوزة الزاوية، لتعليم القرآن والعلوم الشرعية، وكانت البداية بانتداب مساعد لشيخ الزاوية من مدينة فاس المغربية، وهو محمد الحسن الإدريسي، حيث مكث بالزاوية عامين ونصفا، كما تم تأسيس مكتبتين بالزاوية، إحداهما لطلبة الزاوية مزودة بأجهزة الإعلام الآلي، والأخرى مخصصة للبحث العلمي، تحتوي على أمهات الكتب في كل الفنون والعلوم، بما فيها كتب الطب، وقد وقفت “الشّروق” على أهمية النفائس العلمية الموجودة في هذه المكتبة التي استقطبت عددا كبيرا من الدكاترة والباحثين الذين وجدوا فيها ضالتهم. وأثناء زيارتنا إلى المكتبة وجدنا بها عددا من الباحثين من بينهم دكتور بجامعة باتنة، أخبرنا بأن ما تحتويه المكتبة لا نجده في الكثير من مكتبات الجامعات. ويشير القائمون على المكتبتين إلى أن الهدف هو خلق تفاعل بين طلبة الزاوية وطلبة الجامعات، ليكتشف الطرف الأول طرق البحث العلمي ومناهجه، ويكتشف الطرف الثاني، الجانب الروحي وما يتعلق به.

وزيادة على النشاط العادي للمكتبة هناك الندوات الفكرية والمحاضرات، التي غالبا ما توجه الدعوة فيها إلى كبار المفكرين الدكاترة، من أمثال الدكتور عمار طالبي، والأستاذ محمد الهادي الحسني، والمفكر صالح عوض، إلى جانب أطباء باحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. 

ولأجل تشجيع الطلبة ومريدي الزاوية تم استحداث جائزة زاوية بلعموري للقرآن الكريم، تمنح للفائزين في مسابقة جهوية بين طلبة الزوايا القريبة، حيث تمنح لهم جوائز قيمة بينها أربع عمرات.

خصومات طويلة تنتهي عند عتبة الزاوية

وللزاوية دور كبير في المناطق القريبة من الزاوية، حيث يقصدها المتخاصمون لفك النزاعات بطريقة ودية، في إطار منهج الزاوية في إصلاح ذات البين، وغالبا ما تنهي الزاوية خصومات طويلة بين الأهل والأقارب والجيران، وقد صادف وجودنا هناك الكثير من الحالات لأزواج على أبواب الطلاق تمت المصالحة بينهم، وأشقاء متخاصمين غادروا الزاوية بعد أن عالجوا خلافاتهم فيها، كما أن الزاوية تمد العائلات بمساعدات كبيرة من خلال المساعدة في إصلاح البيوت إما بالدعم المادي وإما بالمساعدة بالعمال المتطوعين.

أما الجانب الأساسي في عمل الزاوية، الذي يثير الإعجاب فعلا فهو الجانب الاجتماعي والخيري، أو ما يطلق عليه القائمون على الزاوية الوقف الخيري، ويتمثل في السلة الغذائية التي بدأت في سنة 2013 بـ 230 سلة لتصل حاليا إلى 3000 سلة غذاء تسلم للعائلات الفقيرة وبعض أفراد الجالية السورية في الجزائر، وتتعاون الزاوية في ذلك مع جمعيات المجتمع المدني التي تتولى توزيع المساعدات الغذائية على المحتاجين، كما يتم توزيع جزء منها مباشرة على المحتاجين. 

وقد زارت “الشروق” مكاتب الجمعية الخيرية ووقفت على النشاط الدؤوب للشباب المتطوعين الذين يشرفون بأنفسهم على استلام المساعدات والهبات من المحسنين.

طلبة الزاوية.. إجراءات صارمة للقبول

ليس من السهل الانتماء إلى زاوية بلعموري، حيث حددت اللجنة المشرفة على التعليم في الزاوية مواصفات وشروطا أساسية في المترشح للانتساب إلى الزاوية، على رأسها الاستعداد النفسي والأخلاق الحسنة، حيث تجري اللجنة المشرفة مقابلة مع المترشح لمعرفة مدى استعداده وقدرته على المواصلة.

وقد سألت “الشروق” طالبا من ولاية البليدة عن البرنامج الذي يتلقونه في الزاوية، فقال إنه يرتكز على حفظ القرآن وتلقي العلوم الدينية. كما حضرت “الشروق” درسا في اللغة الفرنسية ألقاه أحد الأساتذة المتطوعين، ولوحظ اهتمام كبير من قبل الطلبة.

مسجد الصّراط المستقيم.. المنارة التي ينتظرها الجميع

ينتظر مريدو زاوية بلعموري بشغف كبير اكتمال أشغال مسجد الصراط المستقيم الملحق بالزاوية، حيث أطلق عليه اسم محمد بن يوسف النذير، وهو مسجد كبير يتكون من ثلاثة طوابق ويتسع لـ 1300 مصل، خاصة أن المسجد الحالي أصبح لا يتسع لجموع المصلين الذين يقصدونه يوم الجمعة قادمين من المدن والولايات القريبة، وقد بدأت الأشغال في شهر رمضان الماضي ويتوقع أن يسلم المسجد في سنة 2020.

مخازن للغذاء والصدقات..

دخلت “الشروق” مخازن الغذاء التابعة للزاوية، ووقفت على سير عملية الجرد والتخزين، كما اطلعت على ملفات العائلات الفقيرة التي تستلم المساعدات الغذائية وحتى الألبسة، كما اطلعت على عدد كبير من ملفات الجالية السورية في الجزائر، حيث تستلم العائلات مساعدات من الزاوية بصفة دورية. وهنا قال شيخ الزاوية إن ما يصل الزاوية من هبات وتبرعات، يعاد توجيهه كله إلى العائلات الفقيرة، وينفق جزء منه في التكفل بمعيشة طلبة الزاوية القادمين من عدة ولايات، الذين يمكثون فيها لسنوات يحفظون القرآن ويتلقون علوم الدين. 

ومن بين المشاريع الواعدة التي تحضر الزاوية لإطلاقها، مشروع عيادة وقفية لتصفية الدم والفحص العام، حيث إن مخطط المشروع جاهز ويتم اختيار الأرضية حاليا على أن يكون المشروع في الخدمة سنة 2022، لتتحول الزاوية بذلك إلى مجمع للعديد من الهياكل الدينية والاجتماعية والعلمية والصحية، وهو مشروع متكامل يعمل عليه شيخ الزاوية بمساعدة السلطات المحلية والكثير من الخيرين والمانحين.

الزاوية تحولت إلى ملتقى للمفكرين والمثقفين

ما لاحظناه خلال زيارتنا إلى الزاوية وما علمناه من خلال الدردشة مع القائمين عليه هو الدور الكبير الذي تقوم به شعبة جمعية العلماء المسلمين بسيدي عيسى في التحضير لأنشطة الزاوية، لما لمسه مسؤولو الجمعية من تحوّل عميق في زاوية بلعموري. والملفت للانتباه أن رواد الزاوية أغلبهم من المثقفين والأطباء وأساتذة الجامعات، الذين بدأوا يتجاوبون مع التوجه الجديد للزاوية الذي استهدف النخبة، وقد انعكس ذلك على المستوى العام لخطبة الجمعة التي لم تعد تدور على المواعظ وإنما أصبحت تتناول قضايا فكرية وحضارية وتعالجها بأسلوب عال، كما أن القائمين على الزاوية غالبا ما يبرمجون محاضرات بعد صلاة الجمعة، تتناول قضايا فكرية معاصرة. 

وقد صادف وجود “الشروق” بالزاوية برمجة محاضرة لدكتور من جامعة باتنة بعد صلاة الجمعة تناولت إشكالية التخلف في العالم الإسلامي، انطلاقا من فكرة أن المسلمين ناموا في النور بينما استيقظ غيرهم في الظلام، حيث حاول المحاضر تشخيص واقع العالم الإسلامي وأسباب تخلفه، ولوحظ اهتمام كبير من الحاضرين الذين لم يغادروا بعد صلاة الجمعة واتضح أن الكثير منهم من الأساتذة وطلبة الجامعات والمثقفين الذين يتابعون نشاطات الزاوية التي غالبا ما تقوم بتكريم العلماء وآخر من كرمتهم الشيخ الجليل محمد الصالح الصديق، كما سبق أن كرمت محمد الشريف قاهر وغيره من العلماء.

الجمعية الخيرية “الإحسان”.. أمل الفقراء والمحرومين

منذ أن تأسست الجمعية الخيرية الإحسان، أصبح نشاط الزاوية أكثر تنظيما وبات العمل الخيري أكثر اتساعا وشمولا، خاصة بعد أن أخذ طابعا إداريا صارما، حيث إن العائلات المحرومة لها ملفات موثقة تؤكد وضعها الاجتماعي، وغالبا ما يتم استهداف اليتامى والعائلات التي لا معيل لها، كما يتم استهداف العمال البسطاء في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وكل هؤلاء مقيدون في السجلات على مستوى الجمعية ليستفيدوا ببرنامج الكفالة المستدامة، أي يكونون ضمن المشمولين بالمساعدات الدورية التي تقدمها الجمعية التي تصل مساعداتها إلى الولايات القريبة.

.. وللمرأة اهتمام خاص

تحظى المرأة باهتمام خاص في الزاوية، ويمكن ملاحظة ذلك في بهو الزاوية المزين بلافتات كبيرة تتحدث عن إصلاح المجتمع من خلال إصلاح وضع المرأة، وواضح أن تلك الشعارات والمبادئ مستلهمة من أدبيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أولت اهتماما خاصا بالمرأة وجعلتها ضمن الأولويات في العملية الإصلاحية، فإلى جانب استفادة المرأة من كل الأنشطة التي تقوم بها الجمعية من محاضرات ومسابقات، هناك برامج خاصة بالنساء الزائرات كما قد تمت الاستعانة بنظام للسمعي البصري يسهل على النساء متابعة كل الأنشطة المنظمة بالمسجد.

الجمع بين رقائق التصوف ودقائق الفقه

المستمع إلى الخطاب الذي تعتمده زاوية بلعموري، سواء من خلال خطب ومداخلات شيخها، أم مداخلات الأساتذة الذين ينشطون الندوات والمحاضرات، يخرج بنتيجة واحدة أن الزاوية استطاعت أن تدمج موروث الزوايا الذي يتمحور على تزكية النفوس ومعالجة أمراض القلوب، وموروث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن قبلها الموروث الفكري والعقدي، وكانت النتيجة خطاب متكامل يجمع بين رقائق التصوف ودقائق الفقه والعلوم. 

تجربة الزاوية في حاجة إلى تعميم

تجربة زاوية بلعموري في نشر الوعي والإصلاح في حاجة إلى تعميم على باقي الزوايا عبر الوطن، وهنا لا نشير إلى الزوايا الكبيرة المعروفة بنشاطها العلمي والفكري، وإنما إلى بعض الزوايا التي تخلّت عن وظيفتها الأساسية، وغرقت في بعض الممارسات البعيدة عن المفهوم الصحيح للإسلام، وليس عيبا أن تراجع هذه الزوايا أوضاعها وتصحّح بعض أخطائها، التي جعلت الكثير من الناس يتخلون عنها، وبهذه الطريقة يمكن أن تستعيد دورها في المجتمع كسلطة روحية لها تأثيرها على الناس.