غزة.. من معركة الحرية إلى قضية إنسانية!
الفلسطينيون جوعى وعطشى ومرضى في غزة، يقتلهم العدو الصهيوني في طوابير الطعام وتحاصرهم الأوبئة الفتاكة والأمراض المتنقلة، جرّاء تراكم الأوساخ وغياب الصرف الصحي وقضاء حاجاتهم في الخلاء، وسط تلاصق لخيم ملايين النازحين.
الأحرار في أرض الرباط لا يجدون ما يأكلون، فيستعيضون عن الدقيق والقمح بأعلاف الحيوانات من الشعير والذرة، ويضطرّون إلى طحن الأعلاف المخصّصة للطيور والدوابّ، حتى يسدّوا رمق فلذات أكبادهم.
الشرفاء في أنحاء القطاع لا يجدون دواء ولا غذاء ولا ماء، فيشربون مياها مالحة وأخرى غير صالحة صحيّا، بينما يقطع عنهم الاحتلال طريق المساعدات إلا في نطاق محدود جدا.
لقد تجاوزت مظاهر الإبادة الجماعية والحرب ضد الإنسانية في غزة جرائم القصف بالطيران والمدافع والأسلحة الفتاكة المحرَّمة دوليّا، لاستهداف المدنيين والمشافي والمساجد والمدارس، وكل شيء على وجه القطاع، حتّى يخلو من المقاومة الوطنية، تجاوزت إلى القتل الممنهج، عبر حصار خانق يمنع عن السكان كل مقوِّمات الحياة.
تحدث تلك المشاهد المروِّعة أمام مرأى ومسمع الأنظمة العربية والمجتمع الدولي بكل أجهزته، من دون أن يتحرك أي طرف فاعل لوضع حدٍّ لغطرسة الكيان الصهيوني الذي بات يتصرَّف خارج كل القوانين والأعراف والمواثيق.
إنّ الهدف الواضح من الإمعان في قتل الفلسطينيين بوحشيّة ودم بارد، وتعذيبهم ماديّا وبدنيّا ومعنويّا هو دفعُهم للاستسلام الطوعي أمام العدوّ، وإحراج قيادات المقاومة سياسيّا وأخلاقيّا في التشبُّث بقرارها الشجاع لمواصلة معركة الشرف في الدفاع عن الأرض مهما اختلّت موازين القوى مع جيش الكيان، بتواطؤ ودعم من القوى العالمية ودول عربيّة مطبِّعة.
يُراد في نهاية المطاف تحويلُ القضية برمّتها من معركة حرية مصيرية إلى مسألة إنسانية في أحسن الأحوال، تتعلق بسكان يعانون الجوع والأسقام والتشرّد، ما يستوجب، وفق المخطط الإسرائيلي، انسحاب قوى حماس من غزة تحت الإكراه، ثمّ تنصيب سلطة عميلة للتكفُّل بالحاجيات المستعجلة للمدنيين، في خطوة مرحلية لاستكمال التصفية النهائية للملف الفلسطينيّ، مثلما كان المشروع الصهيوني-العربي قائمًا قبل اندلاع شرارة طوفان الأقصى المبارك.
من اللافت جدا تزامن التصعيد الإنساني الخطير في حق الفلسطينيين مع جولات وزير الخارجية الأمريكية مؤخرا بالمشرق العربي من جهة، وتصريحات قيادات الكيان الصهيوني من جهة أخرى، إذ يتقاطع حديثهم المتواتر عن مستقبل “غزة ما بعد الحرب”، في موقف ابتزازيٍّ صريح، لا شكّ أنه يحظى بدعم عربي سرّي من جهات إقليمية في المنطقة.
كلُّ همّ قادة “إسرائيل” وحلفائها الأمريكيين والأوروبيين والعرب المطبِّعين الآن هو تحييدُ المقاومة عسكريّا على الأقل، بعد ثبوت استحالة تصفيتها جذريّا في هذه المرحلة، لذلك أطلقوا المقترحات بخصوص سلطة فلسطينية “مهادنة” عمليّا للاحتلال، تتولّى بعد نهاية الحرب المرتقبة إدارة الحياة اليومية في القطاع، على غرار ما يجري في الضفة الغربيّة، من دون صداع رأس للإسرائيليين، خاصّة بعد ما أقضّت عملية السابع من أكتوبر التاريخيّة مضاجعهم الآمنة وهزّت قلوبهم بالرّيبة الوجوديّة.
ما يريده الصهاينة وشركاؤهم الدوليون والإقليميون حاليا هو تتويج عملاء لهم على ظهر الدبّابات، ليكونوا ممثلين للاحتلال في غزة بعنوان فلسطيني، وهي مرحلة أخرى لتجميد القضية الفلسطينية قبل تصفيتها نهائيا، حالما تتوفر الظروف المثاليّة، طالما أنه من غير الممكن وضع القطاع تحت الولاية الدوليّة بأي شكل من الأشكال، رغم مناورة الإسرائيليين في هذا الاتجاه.
لذلك جاء موقف الجزائر قويّا ومحذرا في الآن نفسه عبر أعلى سلطة تنفيذية بالأمم المتحدة، حيث صرح وزير الخارجيّة، أحمد عطاف، أمام مندوبي مجلس الأمن، الثلاثاء الماضي، أنه “لا يمكن العودة إلى ما قبل غزة، كما لا يمكن إعادة القضية الفلسطينية إلى الأدراج لتبقى حبيسة فيها لأجل آخر غير مسمى”، مثلما رفضت بلادنا بنبرة عالية “حصر الجهد الدولي في التكفل برواسب الحرب وتوابعها ومخلفاتها، وغضّ الطرف عن أسباب الحرب ذاتها”، أي تحويلها من قضية حق في بناء الدولة المستقلة إلى مسألة لاجئين ونازحين وضحايا حروب.
وعليه، فإنّ الجزائر تدفع، عكس إرادة الاحتلال الصهيوني وحلفائه، لتكون “طوفان الأقصى” بداية التحرير الشامل، بإعادة الحق الفلسطيني إلى أهله وفق قرارات الشرعية الدولية المجهَضة منذ 1948، وليست مبرّرا لطيّ الملفّ.
وما زاد وضوحًا تفصيليّا في اعتراض الجزائر على مخطط تدجين القطاع، هو ما ورد على لسان صالح قوجيل، رئيس مجلس الأمة، خلال استقباله رئيس برلمان كوريا، الأسبوع الماضي، إذ شدّد على أنّ “الجزائر لن تقبل وضع الشعب الفلسطيني تحت الوصاية أو التسلّط بأيّ شكل كان”، بمعنى أنها مع ضرورة احترام إرادة الفلسطينيين في المقاومة الوطنية وفي اختيار من يمثلهم، من دون أي دور للعدوّ وأزلامه في العملية السياسية الداخليّة.
ولعلّ مثل هذا الموقف الجريء من الدولة الجزائرية، في ظل المناورات الجارية والانبطاح العربي، يوجب عليها مستقبلا مراجعة علاقاتها بـ”السلطة الفلسطينية”، فقد أثبتت الوقائعُ المتعاقبة أنها ضد مشروع المقاومة المسلحة.
صحيحٌ أن الجزائر رفضت تاريخّيا لعبة المحاور والاصطفاف والولاءات الإقليمية لحركة التحرُّر الفلسطيني، إذ لم تطلب يومًا من أي فصيل الانخراط في أجندة قُطرية خاصة، لكن إذا تواطأت هذه المرّة سلطة رام الله مع الاحتلال في غزّة تحت أي غطاء، فسيكون من العبث مواصلة دعم القضيّة المركزيّة عن طريق سلطةٍ وظيفيّة.