كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى؟

لم تكن الصين مجرد مستعمرة بريطانية فاشلة فقط، في ظل حكم التاج الإمبراطوري الذي خضع لتاج آخر وظف الأفيون والعصا لشعب يعادل ربع سكان العالم آنذاك، بل كانت كذلك جمهورية ناشئة مضطربة، ثم جمهورية جديدة ماوية شيوعية اشتراكية تعج بالفقر والبؤس الاجتماعي، وتعيش في ظل سياسات متناقضة تجعل التقدم حلما مستحيلا، وسط عالم يوظف كل أدوات النهضة والمدنية للهيمنة في القرن الماضي.
ثاني أكبر قوة اقتصادية عالميا
شهدت الصين منذ إصلاحات 1978 تحولا جذريا جعلها ثاني أكبر اقتصاد عالمي، إذ ارتفع ناتجها المحلي من 14.7 تريليون دولار في 2020 إلى 18.7 تريليون في 2024 بعد الولايات المتحدة، أي تضاعف بأكثر من 125 مرة بالدولار و367 مرة باليوان منذ بداية الإصلاح والانفتاح، كما بلغ متوسط النمو بين 1979 و2010 نحو 9.91 بالمائة، مع ذروة 15.2 بالمائة في 1984، واستقر منذ التسعينيات قرب 9 بالمائة، قبل أن يتباطأ إلى 2.99 بالمائة في 2020 بفعل الجائحة، ثم يعود للارتفاع إلى 5.2 بالمائة في 2023، متجاوزا اقتصادات الدول المتقدمة.
فقد تحولت الصين من اقتصاد مركزي موجه إلى اقتصاد حر ومنفتح، مستفيدة من مواردها البشرية والبنية التحتية الضخمة، وجذب للاستثمار الأجنبي ومطورة لصادراتها، وهو التحول يجعلها مرشحة لقيادة الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، فكيف بدأت وكيف غيرت وجه الاقتصاد العالمي؟
الصين والجزائر… وفجوة النمو
في عام 1978، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للجزائر حوالي 26.4 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل حوالي 17.6 بالمائة من الناتج الصيني البالغ حينها حوالي 150 مليار دولار، وبذلك كان الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الجزائري بحوالي 5.7 مرات.
في عام 2020، كان الناتج المحلي الإجمالي للجزائر حوالي 145 مليار دولار، بينما بلغ الناتج الصيني 14.7 تريليون دولار، مما جعل ناتج الجزائر يمثل أقل من 1 بالمائة من حجم الناتج الاقتصادي الصيني.
وفي عام 2024، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وصل الناتج الصيني إلى حوالي 19.2 تريليون دولار مقابل 269 مليار دولار للجزائر، مما يجعل الاقتصاد الصيني أكبر من الجزائري بحوالي 71.4 مرة، ويمثل اقتصاد الجزائر فقط 1.4 بالمائة من الاقتصاد الصيني، وعلى الرغم من أن الجزائر حققت نموا يزيد عن 10 أضعاف منذ عام 1978، فإن نمو الصين كان استثنائيا، حيث تضاعف أكثر من 128 مرة، ما يعكس اتساع فجوة النمو بين البلدين على مدى أربعة عقود، وفق بيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
من التمزق إلى التقدم
مرت الصين بتحولات كبيرة بدأت بما أطلق عليه “قرن الإهانة“، بعد هزيمتها أمام بريطانيا خلال حرب الأفيون الأولى (1839-1842)، التي فرضت عليها معاهدة نانكينغ التي أنهت نظام الكوهنج، الذي كان ينظم التجارة مع الأوروبيين ويحصرها في موانئ محددة، حيث أدى هذا الانفتاح القسري إلى تغلغل النفوذ الرأسمالي الغربي بشكل غير متوازن، مما تسبب في انهيار الاقتصاد الصيني خلال فترة قصيرة، وجعلها دولة تعاني من الفقر والاضطرابات، وشبه محمية أجنبية، ليدفع هذا الوضع الشعب الصيني إلى الثورة، وأسقط نظام أسرة تشينغ الملكي بعد ثورة 1911 التي أفضت إلى قيام الجمهورية عام 1912 برئاسة صن يات صن.
وازداد الوضع سوءا مع تصاعد الصراع بين الأقاليم، واندلعت الحرب الأهلية، ومع بداية عهد الاستقرار، غزت اليابان منشوريا عام 1931، تلا ذلك اندلاع الحرب الصينية-اليابانية الثانية بين عامي 1937 و1945، وبعد هزيمة اليابان، بدأت معركة أخرى بين الحكومة الوطنية و”ميليشيات” الحزب الشيوعي، والتي انتهت عام 1949 بانتصار الجيش الأحمر التابع للحزب الشيوعي بقيادة الزعيم التاريخي ماو تسي تونج.
خلال حكم ماو، اعتبر المعلم الأول والزعيم الأوحد، وكانت قناعاته الشيوعية وأطروحاته السياسية والإيديولوجية تعتبر تعاليم تتبع، وتُنفذ وفق قواعد الاقتصاد المخطط والموجه مركزيا، حيث ارتكزت رؤيته على بناء مجتمع شيوعي صناعي حديث من خلال مشروع “القفزة العظمى للأمام“، الذي كان يهدف إلى تطوير شامل لكل القطاعات وتشجيع اللامركزية الإدارية.
في عام 1962، وبعد فشل سياسة “القفزة العظمى للأمام“، تصاعدت الانتقادات ضد ماو داخل الحزب الشيوعي الصيني، حيث استغل خصومه من القادة الإصلاحيين مثل ليو شاو تشي ودنغ شياو بينغ هذا الفشل لمحاولة تهميشه وتنحيته عن السلطة التنفيذية، وجراء الضغوط الداخلية، تنازل ماو عن منصب رئيس الدولة لصالح ليو شاو تشي، لكنه احتفظ بقيادة الحزب الشيوعي، مما مكنه من الحفاظ على نفوذه السياسي رغم الخسائر الجسيمة التي تكبّدها الاقتصاد والمجتمع.
بدورها، شكّلت الثورة الثقافية (1966-1976) مرحلة معقدة في تاريخ الصين، فعلى الرغم من تعزيزها لبعض جوانب النمو، كانت هذه الثورة وبالا جديدا على البلاد، إذ شُحن شباب الصين بسياسات التطرف الإيديولوجي التي استهدفت محاربة التوجهات الرأسمالية وقوى “الانحراف” داخل الحزب والمجتمع، مما أدى إلى إغلاق شبه تام للبلاد أمام التجارة العالمية، رغم استمرار بعض التبادلات المحدودة مع الدول الاشتراكية، هذا الصراع الداخلي أدى إلى فوضى واضطرابات اجتماعية وسياسية وأودى بحياة مئات الآلاف وربما أكثر من مليون شخص حسب تقديرات مختلفة، حيث تعرض المثقفون والطلاب والأساتذة للاضطهاد والقتل بدعوى معاداة الثورة والقيم الوطنية السائدة.
عهد جديد.. للإصلاح والانفتاح
بعد وفاة ماو عام 1976، شهدت الصين فترة صراع سياسي استمر نحو عامين بين الإصلاحيين بقيادة دينج شياو بينغ وعصابة الأربعة، وهي مجموعة من القيادات المتشددة بقيادة زوجة ماو، جيانغ كينغ، التي كانت المسؤولة عن الثورة الثقافية، وفي عام 1978 تمكن دينج من الوصول إلى سدّة الحكم، ليبدأ مرحلة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية، أين كانت الصين شبه معزولة اقتصاديا، مع غياب الاستثمارات الأجنبية الكبيرة، ومساهمتها في التجارة الخارجية ضئيلة جدا ولا تتناسب مع حجمها وإمكاناتها الاقتصادية (الاستثمارات الأجنبية منعدمة، فيما بلغت الصادرات 8.27 مليار دولار والواردات 7.64 مليار دولار).
شرع دينج في فك العزلة الاقتصادية تدريجيا من خلال إطلاق سياسة “الإصلاح والانفتاح-Reform and Opening“، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والتجارة الخارجية، مما مهد الطريق لنمو اقتصادي سريع وتحول جذري.
في ذلك العهد، لم يكن الغرب مطمئنا للطموحات الصينية النهضوية، إذ كانت الصين دولة تنتمي إلى المعسكر الشيوعي المعادي لتوجهاته الإمبريالية، بعد أن طلب دينغ، طرح رؤية جديدة للإصلاحات في البلاد، تمثلت أساسا في فكرة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، حيث ركزت هذه الرؤية على ضرورة التحول نحو اشتراكية السوق، أين تكون وسائل الإنتاج مملوكة للعامة، لكنها تعمل من أجل تحقيق الأرباح التي تُستخدم في توفير وتحديد أجور العمال، إضافة إلى اعتبار هذه الأرباح مصدر تمويل عام للدولة.
وخلال انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني، أطلق جملة من التوصيات التي ركزت على عدد من الأولويات التنموية والسياسات الاقتصادية الجديدة، شملت العمل على الانضمام إلى الهيئات المالية والتجارية الدولية.
كما جرى إعطاء الأولوية للزراعة، ثم الصناعة، يليهما البحث العلمي والدفاع، لبناء قاعدة اقتصادية قوية ومستدامة، إضافة لجعل الاقتصاد الصيني أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية، مع الانفتاح التدريجي على الاقتصاد الدولي، فضلا عن منح المؤسسات الإدارية حرية أكبر بعيدا عن البيروقراطية التقليدية للحزب، بهدف تحسين الكفاءة الاقتصادية والإدارية، مع تشجيع تطوير القطاع السياحي، وفتح أبواب الصين أمام العالم، لزيادة التبادل الثقافي والاقتصادي.
بالمقابل، أكدت التوصيات على ضرورة إعادة هيكلة قطاعات الإنتاج، والسماح بوجود مشاريع خاصة إلى جانب المشاريع الحكومية، مع سيطرة الدولة على الصناعات الثقيلة، الطاقة والتعدين، التي تعتبر استراتيجية وحيوية للأمن الاقتصادي والسياسي.
التكنولوجيا، الرأسمال والتعلم من الخبرات العالمية
تركزت رؤية دينغ على ضرورة حصول الصين على التكنولوجيا ورؤوس الأموال التي كانت الدولة بحاجة إليها لتحقيق نهضتها الاقتصادية، وكان من أولوياته الأساسية الانفتاح على العالم الخارجي لجذب التكنولوجيا الحديثة والمتقدمة، بالإضافة إلى دراسة التجارب الناجحة في مجالات الإدارة والتخطيط الاقتصادي لدى الدول المتقدمة، كما أكد على أهمية تشجيع مؤسسات الدولة على المشاركة في السوق الدولية والمنافسة في الأسواق العالمية، إلى جانب تنفيذ الإصلاحات الداخلية وتطوير التنمية الاقتصادية بشكل مستمر.
سنغافورة نموذجا
تذكر روبين ميريديث في كتابها “الفيل والتنين – صعود الهند والصين ودلالة ذلك لنا جميعا” أن زيارة دينغ، لسنغافورة في نوفمبر 1978 وانبهاره بالتطور الاقتصادي السريع الذي حققته، حيث يروي لي كوان يو في مذكراته، أن دينغ قال له “إن سنغافورة أصبحت نموذجا لمستقبل الصين، وقد قرر الاستفادة من تجربتها”، التي استندت إلى نموذج شامل يجمع بين الاستقرار السياسي، والإدارة الحكومية الفعالة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، والاستفادة من موقعها الاستراتيجي في التجارة العالمية، من خلال الانفتاح الذكي، والإدارة الحذرة للموارد، وتشجيع المنافسة داخل إطار اشتراكي موجه.
وتم وضع استراتيجية تنموية شاملة تُعرف بـ”رؤية 2049” تمتد على مدار 70 سنة منذ بداية الإصلاحات، لتحقيق أهداف الإصلاح والتحديث في الصين، شملت الخطوة الأولى توفير كافة احتياجات المواطنين خلال عشر سنوات، وهو ما تحقق في أقصر من المخطط له، أما المرحلة التالية فركزت على تحقيق نمو اقتصادي سريع، حيث شهد الاقتصاد الصيني تضاعفا كبيرا في الإنتاج خلال العقود اللاحقة.
وكانت بداية عهد الانفتاح الصيني بتوقيع اتفاقية الصداقة مع اليابان عام 1978، وعودة العلاقات مع الولايات المتحدة عام 1979، إضافة إلى تحسن العلاقات مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، وشجعت الصين طلابها على الانفتاح على العلوم والجامعات الأجنبية، لجلب التكنولوجيا والخبرات العلمية بعد انتهاء دراستهم.
ولتطوير الزراعة، ألغيت الكومونات الشعبية، ووزعت الأراضي على العائلات الفلاحية، ومنحهم حرية اختيار نوعية المحصول المزروع، مما أدى إلى مضاعفة الإنتاج. وفي عام 1984، أطلقت الصين إصلاحات جديدة ترتكز على اللامركزية في إدارة المشاريع، وفتحت المجال أمام القطاع الخاص لإقامة مشاريعه الذاتية أو المشتركة مع رأس المال الأجنبي، مما ساهم في دفع عجلة التنمية ورفع معدلات النمو.
جمود الإصلاحات … ثم وثبة إلى العالمية
في أواخر الثمانينيات، واجهت الإصلاحات الاقتصادية في الصين تحديات كبيرة، أبرزها التضخم المتزايد والفساد الناتج عن الاحتكار، مما أدى إلى تباطؤ في وتيرة الإصلاحات، فقد أدى الوضع الاقتصادي الصعب والقيود السياسية، في تصاعد التوترات الاجتماعية، وتفجر احتجاجات ميدان تيانانمين الشهير، حيث تظاهر آلاف الطلاب والعمال والموظفين في بكين مطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية وتعزيز الحريات المدنية، واستمر الاعتصام لأكثر من سبعة أسابيع، ثم انتهى بـ “قمع عسكري” في جوان 1989، مع امتداد الاحتجاجات إلى مئات المدن الصينية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، واحتدام المنافسة الاقتصادية العالمية، عاد دينغ إلى دفع الإصلاحات عام 1992، من خلال جولته الشهيرة في جنوب الصين، حيث أكد على أهمية التنمية الاقتصادية بغض النظر عن النظام الاقتصادي، قائلا “لا يهم لون القط، أبيض أو أسود مادامت تصطاد الفئران“، في إشارة إلى أن النتائج العملية والتنمية هما الأهم، بغض النظر عن كون السياسات اشتراكية أو رأسمالية.
إطلاق الإصلاحات من جديد … والمارد الصيني يكتسح العالم
في عام 1992، عمقت الصين إصلاحاتها الاقتصادية مع الحفاظ على الملامح الاشتراكية ودمج العناصر الرأسمالية بما يتوافق مع متطلبات السوق العالمية، وقد شكلت الجولة الجنوبية الشهيرة التي قام بها دنغ في ذلك العام لحظة فارقة، حيث أعاد خلالها تأكيد التزام الحزب والحكومة بسياسة الإصلاح والانفتاح، رغم التحديات السياسية التي أعقبت أحداث تيانانمن عام 1989.
في 1995، وقعت الصين اتفاقية تجارة ثنائية مع الولايات المتحدة، والتي مثّلت خطوة محورية مهدت الطريق لانضمامها الرسمي إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، حيث تطلب هذا الانضمام من الحكومة الصينية القيام بتعديلات هيكلية وضغوط كبيرة لتكييف اقتصادها مع المعايير الدولية، فعلى الرغم من هذه التحديات، فقد أفضى الانضمام إلى فوائد كبيرة، من أبرزها استقرار العلاقات الاقتصادية الخارجية، وتوسيع برامج الإصلاح، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي.
من الإصلاح والانفتاح …إلى الريادة العالمية
بحلول عام 2010، أصبحت الصين أكبر دولة مصدرة في العالم، وثاني أقوى اقتصاد عالمي، ويُعزى هذا الإنجاز إلى عوامل متعددة، أبرزها إعادة توجيه النظام الاقتصادي إلى مزيج فريد بين الاشتراكية الموجهة والرأسمالية السوقية، الاستثمار المكثف في البنية التحتية، ونجاحها في الحفاظ على نظام اجتماعي متدرج لم يتأثر بحدة الرأسمالية، إضافة إلى الاستثمار في التكنولوجيا والتعليم العالي من خلال إرسال مئات الآلاف من الطلاب إلى أفضل الجامعات العالمية، مع توفير بيئة ملائمة تشجع عودتهم والمساهمة في دعم مسار التنمية الصينية.
ولم يكن هذا التحول وليد الصدفة أو نتاج وفرة في الموارد الطبيعية، بل ثمرة استراتيجية طويلة المدى جمعت بين الانضباط السياسي، والعقلانية الاقتصادية، والتحديث التدريجي، أحد أبرز أركان هذه النهضة تمثل في الابتكار والارتقاء التكنولوجي، فالصين اليوم تعد من بين الدول الرائدة عالميا في تصدير السلع الإبداعية والتكنولوجيا العالية، ما يعكس دينامية حقيقية في منظومتها التعليمية، وقدرتها على تحويل البحث العلمي إلى منتجات صناعية وتكنولوجية قابلة للتصدير والمنافسة، ويعود هذا النجاح إلى ضخ استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، وبناء منظومة جامعية وتقنية موجهة لخدمة أهداف الدولة.
على الصعيد الاجتماعي، حققت الصين إنجازا غير مسبوق في محاربة الفقر، فمنذ إطلاق سياسة الإصلاح، تمكنت من إخراج حوالي 800 مليون شخص من دائرة الفقر، أي ما يمثل أكثر من 75 بالمائة من إجمالي انخفاض الفقر العالمي، وبحلول عام 2020، أعلنت بكين القضاء على الفقر المدقع وفقا لمعاييرها الوطنية، وهو ما يؤشر على نجاعة السياسات الاجتماعية والتنموية المرافقة للنمو الاقتصادي.
اقتصاديا، نجحت الصين في تحقيق والاحتفاظ بـ “الصدارة الصناعية”، كـ “أكبر دولة صناعية في العالم” من حيث القيمة المضافة، إذ تُسهم الصناعة بنحو 36.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتنتج الصين ما يقارب 20 بالمائة من الإنتاج الصناعي العالمي، متفوقة بذلك على قوى تقليدية مثل الولايات المتحدة، اليابان، وألمانيا، كما تحتفظ بصدارتها في المجال الفلاحي، حيث يعمل به نحو 176.6 مليون شخص (2024)، وتُعد بذلك أكبر قوة زراعية من حيث الإنتاج، رغم التحولات الحضرية التي قلصت تدريجيا عدد الفلاحين مقارنة بما كان عليه في العقود السابقة.
وفي مجال التجارة الخارجية، سجلت الصين صادرات قياسية بلغت 3.58 تريليون دولار (2024)، وهي بذلك تحتل المركز الأول عالميا في حجم الصادرات، وتشكل هذه الصادرات حوالي 26 بالمائة من ناتجها المحلي، كما تصدرت العالم في تصدير السيارات بعد أن تجاوزت صادراتها 5.8 مليون مركبة، متقدمة على ألمانيا واليابان.
وقد رافقت هذه الدينامية الاقتصادية طفرة في مستويات المعيشة، حيث بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد نحو 13306 دولار أمريكي في نهاية عام 2024، مقارنة بـ 12959 دولار في 2023، مما يعكس نموا مستقرا ومستداما.
ومنذ التسعينيات، حافظ الاقتصاد الصيني على نمو سنوي يقارب 10 بالمائة في المتوسط، ما أدى إلى مضاعفة حجم الاقتصاد تقريبا كل سبع سنوات، رغم التحديات الجيوسياسية العالمية، إلى جانب ذلك، واصلت الحكومة الصينية تعزيز الرقابة الإدارية ومكافحة الفساد، حيث وصلت العقوبات في بعض الحالات إلى الإعدام، ما ساهم في تحسين كفاءة الإدارة العامة وتعزيز الثقة في مؤسسات الدولة، وكان مبدأ “الصين أولا” قاعدة استراتيجية واضحة، تقوم على التنمية الذاتية وتجنّب التورط في صراعات دولية مكلفة، على عكس ما حدث مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا.
إن التجربة الصينية لم تكن مجرد مشروع تنموي ظرفي، بل رؤية شاملة سعت إلى استيعاب أحدث ما بلغته الحضارة البشرية وتكييفه مع الواقع المحلي، بعيدا عن الاستنساخ الأعمى للنماذج الغربية، وقد شكل التوظيف الذكي للموارد، والانفتاح الاقتصادي المدروس، وإعادة هيكلة الدولة والمجتمع، أبرز ملامح هذا المسار الفريد الذي مكن الصين من التحول من بلد نام إلى قوة عالمية مركزية في غضون أربعة عقود فقط.