-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مناطق الظل.. هل تبعث الروح في التقسيم الإداري المجمّد؟

نبيل عاشور
  • 246
  • 0
مناطق الظل.. هل تبعث الروح في التقسيم الإداري المجمّد؟
أرشيف

 يكاد يصبح مشروع مناطق الظل هو العنوان الرئيسي لنشاط الحكومة في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، ذلك أن الاهتمام بهذه المناطق المنسية تصدّر الأولويات وأخذ نصيبا معتبرا من الإنفاق العمومي (02 مليار دولار)، كل ذلك بهدف استدراك عقوداً من الإهمال الذي أنتج هذه الظاهرة السوداء، هي مناطق لا زالت تعيش في مستوى من التنمية متأخر بربع قرن على الأقل. لكن ما نلاحظه أن السلطات العمومية في خطابها التنموي تركّز على إزالة آثار التخلّف من دون إخراج أسبابه العميقة إلى النقاش العام، فتشريحُ هذه المشكلة هو السبيل الوحيد لكشف أسبابها واجتثاثها من جذورها دون تكرارها مع الأجيال القادمة.. ولنبدأ من البلدية الخلية الأساسية في الدولة الجزائرية.

ربما يُفاجَأ القارئ بحقيقة صادمة وهي أن عدد البلديات  قبل الاستقلال كان أكثر من عددها اليوم، فإذا كنا نحصي اليوم 1541 بلدية، فقبل الاستقلال كان عددها هو 1574؛ أي أكثر بــ33 بلدية عما هو موجود اليوم، في حين كان عدد السكان قبل الاستقلال زهاء 10 ملايين نسمة، أما اليوم فالعدد تجاوز 44 مليون نسمة، فهل هذه الوضعية سليمة ومنطقية بعد نصف قرن من الزمن؟.

دون الخروج عن قواعد المنطق والعقل، هل تساءلنا في يوم ما عن المعدل المقبول لعدد سكان البلدية حتى يكون التسيير سلسا ويحقق أهداف التنمية المسطرة من الدولة الجزائرية؟ لقد طال الحديث عن الفساد وسوء التسيير لعقود من الزمن كأهم معرقل للتنمية، لكن إلى متى نركز عن هذا الجانب فقط ونهمل الجوانب الأخرى المتفق عليها في الدول الناجحة؟

 في فرنسا مثلا يبلغ المعدل 1800 مواطن لكل رئيس بلدية وهو النموذج الأمثل في الاتحاد الأوروبي، معدل هذا الأخير هو 4000 مواطن لكل رئيس بلدية، مع تسجيل بلديات لا يتعدى عدد سكانها 100 نسمة، أما في الجزائر فالمعدل العامّ هو 28 ألف مواطن لكل رئيس بلدية، أو بعبارة أخرى فإنَّ حجم المسؤولية الملقاة على عاتق رئيس بلدية واحد في الجزائر يعادل ما هو ملقى على عاتق 16 رئيس بلدية في فرنسا.. هذه الأخيرة تحصي 36 ألف بلدية لتعداد سكاني قوامه 67 مليون نسمة.

ونتساءل من دون أي خلفية: كيف نسينا أنفسنا منذ أن كنّا 10 ملايين نسمة بعد الاستقلال ولم نستدرك الوضع وعددنا اليوم تجاوز 44 مليون نسمة؟ هل ذلك له علاقة بمسلسل عدم الاستقرار السياسي؟ لقد تضاعفنا وتضاعفت همومنا 4 مرات ولا يزال التقسيم الإداري يراوح مكانه، لقد فاضت بلدياتُنا بالسكان حتى أصبحت أشبه بالمحاشر، فماذا يعني ذلك على أرض الواقع؟

أرض الواقع ينطلق من الأحياء السكنية، فحيٌّ تنجزه الدولة بضربة حظ في برنامج سكني من 1000 وحدة سكنية سيحتضن 6000 مواطن على الأقل، إذا أخذنا كل مسكن يضم 06 أفراد (الزوج والزوجة وأربعة أبناء)… ومعناه حي سكني من 1000 وحدة يوازي ثلاث بلديات في فرنسا من حيث الكتلة البشرية، يعني أن هذا الحي وُلد “منطقة ظل” لحظة تدشينه، يضاف إلى مناطق الظل التي سبقته والتي تراكمت منذ الاستقلال.

إن معدَّل 28 ألف مواطن لكل رئيس بلدية يضرب ميزة الخليَّة الأساسية في العمق ويصيبها في مقتل، فقد أصبحنا أمام واقع مرّ وهو رئيس بلدية لا يعرف مواطنيه، ومن لا يعرف مواطنيه يستحيل أن يحقق العدالة في توزيع الريع، وتحقيق التوازن الجهوي والمناطقي في التنمية.

رئيس البلدية سواء كان مواطنا جيّدا أو سيّئا فهو في الأخير ليس “سوبرمان”، وفي مثل واقعنا حتى لو استقدمت شخصا مثاليا ونزيها فيستحيل عليه معرفة أحوال 28 ألف مواطن ومتابعة شؤونهم وخدمتهم، فلو كان العدد  في حدود 5 آلاف مواطن  حتى لا نقول 1800 حسب المثال الذي ضربناه، فسيكون الأمر أقلّ سوءاً وتتحسن الأمور تدريجيا ويستطيع الناس تدبير أمورهم وتنظيمها شيئا فشيئا على قاعدة العمل الجواري.

 آخر تقسيم إداري عرفته الجزائر كان سنة 1984، أي قبل 36 سنة، فهل يعقل أن ننتظر أكثر؟ البلدية أصبحت رمزا للفوضى في الجزائر، وإصلاحها يبدأ من إعادة النظر في التقسيم الإداري ولو بشكل تدريجي، فعدد السكان في تزايد مضطرد، والأمور تزداد تعقيدا، والبلدية أصبحت بيئة متعفنة تنفر منها الكفاءات وتستقطب أصحاب المصالح الضّيقة المستفيدين والمستثمرين في هذه الفوضى، ولا ينفع في كبحهم التعديلات المتعاقبة لقانون البلدية.

صحيحٌ أنَّ الأمر ليس بالسَّهل من ناحية الإمكانات المالية والبشرية المطلوبة، لكن كلَّما انتظرنا كلما ازدادت الأمور تعقيدا، لكن من جهة أخرى ألا يحق لنا أن نتساءل عن الجدوى من الفائض البشري الذي قوامه 350 ألف إطار جامعي لشباب عقود ما قبل التشغيل أغلبهم يعمل تحت وصاية وزارة الداخلية والجماعات المحلية؟ هؤلاء معنيون بالإدماج في برنامج الدولة الحالي، وقد قضوا سنوات عديدة مكّنتهم من اكتساب خبرة يمكن استغلالُها في تأطير أي تقسيم إداري جديد بدل تركهم يتزاحمون الكراسي في مكاتب بالية، هؤلاء لا يجوز احتقارُ إمكاناتهم بسبب انتمائهم لعقود ما قبل التشغيل سابقا… فأقلّهم خبرة بإمكانه أن يكون أمين عام بلدية ناشئة مع قليل من التكوين.. وفي كل الأحوال فإن الدولة الملزَمة بدفع أجورهم من الخزينة العمومية ستكون أمام فرصة ذهبية لإعادة توزيعهم باستثمارهم كمورد بشري في التقسيم الإداري الجديد.

أما عن المقرّات فستكون الدولة كفّرت عن خطيئتها في فضيحة “محلات الرئيس” المترامية في كل مناطق الجزائر كمشروع فاشل (100 محلّ في كل بلدية)، فترميمها وتحويل بعضها إلى مقرات مؤقتة ومرافق إدارية وصحّية وثقافية سيوّفر الكثير من النفقات في هذه الظروف الصعبة.

وفي الأخير تبقى الإرادة السياسية هي المدخل الوحيد لتفكيك أحد أكبر الألغام التي تهدد مستقبل الأجيال، وهو تحريك ملف التقسيم الإداري وبعث الروح فيه من جديد.. كثير من مناطق الظل التي اكتشفها الرأي العام اليوم هي مناطق لها مقومات الخلية الأساسية في الدولة الجزائرية، ولا شيء يضمن عدم إهمالها في المستقبل سوى اعطائها صفة البلدية بأدواتها القانونية والمالية، وكسبيل وحيد للتنمية المستدامة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!