-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل نحن في حاجة إلى شرطة آداب في الجزائر؟

سيف الدين قداش
  • 4777
  • 0
هل نحن في حاجة إلى شرطة آداب في الجزائر؟

شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة تحولات اجتماعية وثقافية متسارعة بفعل العولمة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أضحت عاملا مؤثرا رئيسيا في تشكيل القيم والتصورات لدى الأفراد، خصوصا الشباب، إذ لم يعد التأثير مقتصرا على الإعلام التقليدي كالتلفزيون والصحف، بل أصبحت المنصات الرقمية مثل تيك توك وفيسبوك ويوتيوب مصدرا رئيسيا لتشكيل الوعي العامّ.

مع ذلك، فإن هذا الانفتاح لم يأت من دون ثمن؛ إذ تفشت ظواهر اجتماعية مثيرة للجدل مثل الابتذال الأخلاقي، والعنف اللفظي، والإباحية الرقمية، والترويج لأنماط حياة غريبة عن المجتمع الجزائري، وكما أشار الشيخ محمد الغزالي في كتابه “الغزو الثقافي يمتد في فراغنا”، فإن المشكلة لا تكمن فقط في التأثيرات الخارجية، بل في الفراغ الفكري والقيمي الذي يسمح لهذه التأثيرات بالتغلغل، فعدم وجود مضاد للفيروسات المناعية أو الالكترونية يؤدي إلى تعشيش الفيروسات في الجسم أو الحاسوب، فما بالك بفيروسات الوعي والعقل التي يمكن أن تضيع شخصية وقيم الأمة.

في هذا السياق، ينبغي أن نتساءل ونتحرك: هل نحن بحاجة إلى “شرطة آداب” لضبط هذه الفوضى الأخلاقية؟ أم أن الحل يكمن في استراتيجيات وقائية تعتمد على التوعية والإصلاح الديني والتربوي والثقافي؟

انفلات القيم

لم تكن ولم تعد الأفلام والمسلسلات والأغاني مجرد مواد ترفيه، بل كانت ولا تزال أدوات لغرس الأفكار والمعتقدات في عقول الناس، أفكار ومعتقدات غريبة ومستوردة من مجتمعات لديها قيم أخلاقية وثقافية ودينية ومعتقدات ليبيرالية تشجع على الانفلات القيمي والأخلاقي والأسري، بل وحتى الشذوذ الأسري من خلال “زواج المثليين” وغيرها. وفي ضوء غياب إنتاج إعلامي وفني محترف ومحترم ورسالي ينبع من القيم الخيِّرة والبيئات البناءة والواعية والحارسة لنقاء شخصية المجتمع، نشأت الكثير من الأفكار والقيم بل وشاعت بفضل التكنولوجيات القديمة والجديدة، وأصبح المجتمع مع تفشي مختلف المواد المخدرة والتي تقضي على مناعة وكرامة الإنسان وتستعبده، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت مفرغة عامة يخرج فيها المجتمع أمراضه وقيمه المنحرفة، ما جعل المجتمع يفقد شخصيته التقليدية الوقورة، وهو ما يستدعي منا جميعا دق نواقيس الخطر واتخاذ إجراءات لإسعاف روح المجتمع وقيمه التقليدية لأن هذا الوضع سيخرج المجتمع من شخصيته وقيمه الخالدة، إلى مجتمع فاقد للبوصلة وضائع وسط موجة عولمة غربية التوجه والتوجيه والمخرجات.

أدوات تأثير في الجزائر

طالما استخدمت القوى الكبرى وسائل الإعلام كأداة للتأثير على المجتمعات، ولكن في الجزائر، أظهرت بعض المسلسلات والبرامج والأغاني ميلا متزايدا إلى تبني قيم استهلاكية وسلوكيات لا تعكس حقيقة المجتمع، ولا قيمه، فالمسلسلات التي تُعرض خلال شهر رمضان، على سبيل المثال، تحولت في كثير من الأحيان من كونها دراما هادفة تعبِّر عن روح المجتمع الجزائري وقيمه إلى محتوى مستورَد القيم يجري تمثيله بممثلين جزائريين، يمجِّد العنف العائلي، والانحراف، ومعالجة قضايا ومسائل منافية لأصالة المجتمع وثوابته، ما يشي على حالة استلاب وتقمص لشخصية مرضية لا هي جزائرية حقيقية ولا هي غربية خالصة، بل تعبّر عن شخصية هجينة وخليط غير منطقي، مما أسس لفشل الأعمال الجزائرية وطنيا وعربيا وعالميا.

أما على مستوى الموسيقى، فقد شهدت الجزائر خلال العقد الأخير انتشارا لظاهرة “الراب التجاري” و”أغاني الراي” المنحطة وليس فقط الهابطة، والتي تروّج في كثير من الأحيان لتعاطي المخدرات، والتباهي بالسلوك الإجرامي، والاستهلاك المفرط، وهو ما أدى إلى تفشي هذه الممارسات المنحلة بين المراهقين، وتحويلها إلى عقلية بطولية ووسيلة من وسائل تحقيق الذات في المجتمع كسلطة أو عقلية الأمر الواقع، وهذا للأسف لم تتحرك أمامه المصالح الفنية والقيمية بشكل واضح وقوي، مما ساهم في التأسيس لتمادي هذا الوضع إلى حدود الإسفاف والتحلل في المجتمع الجزائري.

ووسط غياب صنّاع محتوى وشركات إنتاج لديها دفتر شروط وقواعد إنتاج تُقدِّس احترام الحياة العامة والقيم الأخلاقية الجمعية والجماعية للمجتمع، وهي أمور تفرض فقط على الكتب والمجلات والصحف وتثور ثائرة البعض على كتاب أو مقال بينما الكوارث الحقيقة تزحف على الأرض على مرأى ومسمع الجميع، وهنا يبقى السؤال مطروحا في العالم وحتى في الجزائر: هل هناك مسطرة قيم وحدود إبداع في المجتمع الجزائري؟ من يملك ويتحكم في الصناعة الفنية في الجزائر والعالم؟ من يموِّل الأفلام والمسلسلات الكبرى ولأي غاية وبأي موجة قيمية يريدون إرسالها كالشذوذ مثلا خاصة في الغرب؟ من هم هؤلاء الذين يستخدمون الفن لنشر رسائلهم، وتغيير الثقافات، وتوجيه السلوكيات الاجتماعية، ولمصلحة من يعملون؟ أين رجال الوعي والدين لمحاولة توضيح الوضع ومكافحة الابتذال والانحراف والترويج لكل بعد فني يسيء للذوق والقيم العامة من إهانة شخص في مقلب “كاميرا خفية” إلى كلام مُنحطّ من مغني راي سكران يدعو لكل الموبقات، إلى مغني راب تحت تأثير المخدرات، إلى لقطة مسلسل غير أخلاقية تُبثّ على مائدة رمضانية بعد يوم شاق من العبادة والتقوى.

فضاء غير منضبط

في حال أراد أحدهم إنشاء جريدة أو مجلة، لديه مجموعة شروط، وإذا خالفها خلال نشاطه يُسحب منه الاعتماد، وهو يخضع للقانون الجزائري ويدفع الضرائب، لكن هناك شبكات اجتماعية ليس لديها مكاتب في الجزائر ولا تدفع الضرائب ولا تخضع لقواعد نشر، بينما تروِّج لسلع وقيم في البلاد، من دون رقيب أو حسيب، فهل نعي ذلك؟

أين رجال الوعي والدين لمحاولة توضيح الوضع ومكافحة الابتذال والانحراف والترويج لكل بعد فني يسيء للذوق والقيم العامة من إهانة شخص في مقلب “كاميرا خفية” إلى كلام مُنحطّ من مغني راي سكران يدعو لكل الموبقات، إلى مغني راب تحت تأثير المخدرات، إلى لقطة مسلسل غير أخلاقية تُبثّ على مائدة رمضانية بعد يوم شاق من العبادة والتقوى.

ومع بروز شبكات التواصل الاجتماعي ونموّها في الجزائر، لم يعد هناك حاجزٌ بين الفرد والمحتوى غير الأخلاقي، إذ تشير دراسات حديثة إلى أن أكثر من 70 بالمائة من الشباب الجزائري يقضون ساعات طويلة يوميا على منصات مثل تيك توك وإنستغرام، وفيسبوك وغيرها حيث يُروج لمحتوى يعتمد على الاستعراض الجسدي والإيحاءات الإباحية، بل وأصبح البعض يكسب المال من خلال هذه الأنشطة، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ظاهرة “المؤثرين” المثيرين للجدل، إذ يقوم بعض الأشخاص باستغلال شهرتهم الرقمية لتقديم محتوى بعيد عن القيم الاجتماعية الجزائرية، مثل الترويج للعلاقات غير المشروعة أو تصوير الحياة على أنها مجرد استعراض مادي فارغ، فضلا عن ظهور تحديات خطيرة، مثل تحديات العنف، أو تصوير مشاهد غير لائقة في أماكن عامة، مما يعكس مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تغيير سلوكيات الشباب، فضلا عن استغلال الأطفال في المحتوى الرقمي، إذ يقوم بعض الآباء باستخدام أطفالهم وسيلةً لكسب المشاهدات، من دون أدنى مراعاة لخصوصيتهم أو حقوقهم.

بين الحرية والفوضى

لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم فوائدها، ساهمت في تفاقم مظاهر اجتماعية مثيرة للقلق، كزيادة نسبة التحرش الإلكتروني، وتفشي بيع الممنوعات من خلال شبكات تنشط في وسائل التواصل الاجتماعي تبيع المخدرات وتمارس نشاط الدعارة، كما تتعرض الفتيات الجزائريات لحملات تشهير وتنمُّر رقمي، وهو ما أدى إلى تفاقم الظاهرة إلى مستوى غير مسبوق، مع تفشي ثقافة الاستهلاك المفرط، إذ يجري الترويج لأسلوب حياة غير واقعي قائم على الإنفاق المبالغ فيه والسعي وراء المظاهر من بعض “المؤثرين” المنحرفين أخلاقيا، والذين لا تعرف مصادر دخلهم، وتُطرح حولها علامات استفهام، هل تمولهم أطراف خارجية لمحاولة تعفين قيم المجتمع الجزائري، زيادة عن تصاعد العنف الرقمي، سواء من خلال نشر فيديوهات لمشاجرات في الشوارع أو تبادل الشتائم والتهديدات بين المؤثرين، فضلا عن كمِّ الكلام الفاحش الذي ينتشر ويتخلّله الدعوة للفسق والانحراف الأخلاقي، وهو ما يعكس ظاهرة العنف الأخلاقي واللفظي والمادي في المجتمع.

هل هو حل واقعي؟

في بعض الدول المحافظة بشكل متفاوت، مثل السعودية (سابقا من خلال “الحسبة” هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وإيران، ومصر (من خلال شرطة الآداب)، تطبَّق أنظمة شرطة الآداب لمراقبة السلوكيات العامة والحد من “التجاوزات الأخلاقية”، لكن في الجزائر، أثبت التاريخ أن الحلول الأمنية وحدها ليست كافية لمعالجة القضايا الأخلاقية، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية، إذ يمكن أن تتحول إلى أداة قمعية تعزز مقاومة المجتمع بدلا من إصلاحه. ومع ذلك، فإن غياب أي شكل من أشكال الرقابة يترك المجال مفتوحا أمام انتشار هذه الظواهر دون رادع، مما يستوجب البحث عن حلول متوازنة.

ما البديل؟

فضلا عن الحلول الرقابية والردعية ينبغي كذلك اتخاذ جملة من الإجراءات لمجابهة تفشي القيم الأخلاقية المنحرفة وتمجيدها في المجتمع من خلال.

إصلاح المحتوى الإعلامي والثقافي:

دعم الإنتاج الإعلامي والفني الهادف الذي يقدِّم صورة إيجابية عن المجتمع الجزائري، مع وضع سياسات تشجيعية للأعمال الفنية التي تروِّج للقيم الإيجابية، مثل الإنتاجات السينمائية والمسلسلات التربوية والتوعوية، فضلا عن توفير محتوى رسوم متحرِّكة وبرامج أطفال تعبِّر عن هوية المجتمع الجزائري وشخصيته، لإنشاء أطفال بشخصية جزائرية وليس بشخصية عشوائية أو غربية التماهي.

فرض ضوابط على المحتوى الرقمي:

سنّ قوانين تُلزم منصات التواصل الاجتماعي والمؤثرين والناشرين بحذف المحتوى غير الأخلاقي الذي يتعارض مع القيم الدينية والثقافية المحلية، مع إجبار المؤثرين الرقميين على الالتزام بمدوّنة سلوك قيمية وإعلامية، مع فرض عقوبات على المخالفين.

تعزيز الثقافة الرقمية والوعي الأسري:

إدخال مادة التربية الرقمية في المناهج الدراسية، بحيث يتعلم الأطفال كيفية التعامل مع الإنترنت بمسؤولية، مع إطلاق حملات توعية للأسرة الجزائرية حول كيفية مراقبة المحتوى الذي يستهلكه الأبناء.

تفعيل دور المؤسسات الدينية والثقافية:

إشراك رجال الدين والمفكرين والمثقفين والمشرعين في البرلمان في النقاش العام حول القيم الأخلاقية في العصر الرقمي، وكيفية التعامل معها مع إنشاء مرصد رقمي للمحتوى

لتحديد المحتوى الذي ينبغي التحذير منه على أوسع نطاق ومجابهته ودراسة خلفياته وغاياته، فضلا عن تطوير خطاب ديني مُحكم وتوجيهات ثقافية حديثة تتناسب مع تحديات العصر، بدلا من الاقتصار على الخطاب التقليدي.

بالإضافة إلى العودة للتربية الدينية بشكل مدروس بعيدا عن المغالاة والتطرف، لإنشاء جيل يعرف شخصيته وقيمه الدينية والوطنية ويلتزم بهمها ولا يبقى فارغا سهل الاختراق من فيروسات الانحراف أو من يهددونه في ولائه الوطني وثقته بانتمائه المقدس.

أود أخيرا التأكيد على أننا لسنا بحاجة إلى شرطة آداب بالمعنى التقليدي، لكننا بحاجة إلى إعادة ضبط التوازن بين الحرية والمسؤولية الرقمية، إذ ينبغي دق ناقوس الخطر ليكون هناك وعيٌ جماعي بأهمية الحفاظ على القيم الأخلاقية للمجتمع الجزائري من دون اللجوء إلى الإجراءات الأمنية، فبدلا من ترك وسائل التواصل الاجتماعي تتحكم في سلوك الأفراد، علينا أن نكون أكثر وعيا بقدرتنا على تشكيل المستقبل الديني والثقافي والاجتماعي والشخصية الجزائرية الوطنية للأجيال القادمة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!