-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الشروق تقف مع الذكرى السبعين لثورة التحرير في ملف تاريخي خاص

يا فرنسا.. حان “حساب الذاكرة”!

الشروق أونلاين
  • 4543
  • 0
يا فرنسا.. حان “حساب الذاكرة”!

تهلّ ثورة نوفمبر المجيدة، في ذكراها السبعين، والجزائريون يشقون طريقهم بثبات وتطلع، نحو مستقبل ضحوا لأجله بقرابة 6 ملايين شهيد، خلال 132 سنة من المقاومات المفتوحة ثم ثورة خالدة، ضد الاحتلال الفرنسي البغيض.

في غضون سبع سنوات ونصف من حرب تحريرية ضارية (1954/1962) أجبر مغاوير الجزائر جيش فرنسا المدعوم أطلسيا على الخروج صاغرا، وهو يجرّ خلفه أذيال الهزيمة، لكن فاتورة البذل كانت باهظة جدا، في مستوى قيمة استرجاع السيادة الوطنية لشعب أبيّ عشق الحرية وأنف الاستعباد طيلة مساره الحضاري ومسيرته التاريخية.

كان الفرنسيون الاستعماريون الحالمون بفردوس الجزائر يظنون أنها ستبقى تحت سطوتهم، بموجب بنود ملغومة ومدسوسة ضمن “اتفاقية إيفيان”، وعن طريق بقايا أذنابهم في الإدارة الموروثة ومواقع القرار السياسي والاقتصادي.

لكن الرجال كانوا لها بالمرصاد، فقد اعتمدوا التكتيك التفاوضي لتمرير وقف إطلاق النار، ثم عقب الاستقلال تصرفوا من موقع السيادة وبمنطق الثوار عبر سلسلة من القرارات الوطنية للتطهر من آثار الاستعمار في كل مناحي الحياة، خاصة ما تعلق منها بتأميم المؤسسات العمومية والقطاعات السيادية.

ليس سهلا، أن يخضع أي شعب لاحتلال استيطاني طيلة قرن وثلث، حيث مارس عليه كل مخططات الطمس الهويّاتي والإدماج الثقافيّ واللغويّ والدينيّ، لكنه ظلّ متمسكا بذاته الحضارية، رافضا للإلحاق والذوبان في الآخر.

وفي ذلك المسعى الخائب لإكراه “الأهالي” على تقبّله، اقترف الاستعمار الفرنسي جرائم فظيعة، ستظل وصمة عار تلاحقه في تاريخ الإنسانية، وراية اعتزاز وفخر على جبين الجزائريين، الذين صمدوا صمودا أسطوريًّا أمام وحشيته، وحاربوه بضراوة حتى أجبروه على الرحيل نازفا عسكريّا واقتصاديّا وسياسيّا.

اليوم، في الذكرى السبعين لاندلاع ثورة التحرير، تقف الدولة الجزائرية في عهدها الجديد شامخة، الندّ للند، مع باريس المثقلة بجرائمها وخيباتها التاريخيّة، بينما يتمثل قادة الجزائر مقولة الشهيد العربي بن مهيدي، رحمه الله: “إننا سننتصر.. لأننا نمثل المستقبل. وأنتم.. ستُهزمون، لأنكم تريدون إيقاف عجلة التاريخ”.

لقد صدقت نبوءة الشهيد البطل، فهاهو التاريخ يمضي في طريقه نحو حرية الشعوب، بينما تدفع إمبراطوريات الاستعمار القديم ثمن جرائمها المقرفة، إنْ لم يكن ماديّا، فإنّ سمعتها الحضارية سقطت في الدرك الأسفل من تاريخ العالم المتحضر، خاصة لبلد مثل فرنسا زعم أنه رائد التنوير وحامل شعارات الأخوة والعدل والمساواة.

في هذا الملف، بمناسبة الذكرى الخالدة، تستحضر “الشروق” للأجيال تلك الجرائم في ميزان القانون الدولي الإنساني، بأقلام الباحثين المختصين، واقفة عند رؤية “جزائر الحراك المبارك” لملف الذاكرة الوطنية، باعتباره حجر الأساس اليوم في فتح صفحة جديدة مع فرنسا.

كما يرصد الملف منظور النخبة الفرنسية لمصالحة التاريخ، مستشرفا آفاق الحقيقة التاريخية في عصر الذكاء الاصطناعي والسطو التكنولوجي على سرديّات الشعوب، بهدف التنبيه على ضرورة مواكبة مؤسسات بلادنا للتطور الحاصل، حفاظا على ذاكرتنا الكفاحيّة من التزييف.

“عبد الحميد عثماني”

الذاكرة بين السياسة والتاريخ .. هل ستشفع لعلاقات البلدين؟

بقلم: د. إزدارن فيصل

لعل من المسائل العالقة في العلاقات الثنائية الجزائرية-الفرنسية، ملف الذاكرة الذي لا يزال يشغل النخب السياسية والأكاديمية بين البلدين، نظرا لثقل الإرث الاستعماري، الذي يلقي بظلاله على محاور عدة ويؤرق الحاضر بمشاهده وشواهده. لذلك ارتأت فرنسا والجزائر تدشين مشروع بحثي وأكاديمي، لتثبيت معالم الذاكرة الكولونيالية، وكأن الطرفين لم يتفقا على هذا الإرث وما جرى في حقبة استعمارية دامت 132 سنة من قتل، ومصادرة ومحو للشخصية والهوية.

في أعقاب سنة 2022، تم الاتفاق بين البلدين على إنشاء لجنة مشتركة للبحث حول الذاكرة في الحقبة الاستعمارية، ويمثلها من الجانب الفرنسي كل من المؤرخ بنجامين ستورا، فلورانس هودوفيتز، مختصة في حفظ التراث، جاك فريمو مؤرخ الحقبة الامبراطورية، والمؤرخان جون جاك جوردي وتراموركيمونور. ومن الجانب الجزائري كل من المؤرخين لحسن زغيدي ومحمد القورصو وجمال يحياوي وعبد العزيز فيلالي وإيدير حاشي.

وقد سبق للجنة المشتركة أن عقدت اجتماعين، الأول عبر الفيديو في نيسان/أبريل والثاني في باريس في حزيران/يونيو. ما يعني أن اجتماعات هذه اللجنة ليست دورية وغير منتظمة.

لا تناغم بين السياسة والذاكرة

قد يتساءل البعض عن أسباب وجدوى إنشاء هذه اللجنة، التي قد تعد ظاهرا، فرضة لتقارب وجهات النظر حول الماضي الاستعماري، وحل قضايا كثيرة عالقة، مرتبطة بالأرشيف المحتجز لدى الهيئات الفرنسية والجزائرية، وكذا تسليط الضوء على أحداث دامية حدثت في أثناء الحرب التحريرية وما قبلها. وقد تكون فرصة للجانب الفرنسي ليقحم قضايا فرنسية بحتة في جدول أعمال هذه اللجنة، مثل مآلات الحركى، وما تعرض له الرعايا الفرنسيون في أثناء الحرب التحريرية وفي صائفة 62، من اغتيالات وطرد وملاحقات، بحسب الجانب الفرنسي.

أجمل ما في التاريخ، هو تسجيله الأحداث بحيثياتها وتضاريسها، لا يمكن تشويهها، حتى وإن تمت المحاولات، ولكن ثمة شواهد تعطي الباحث والدارس إمكانية رد الاعتبار للحقيقة ودحض الأباطيل والشبهات. وكان لزاما على هذه اللجنة أن تتأسس بمحض إرادة الباحثين، بعيدا عن المحافل السياسية والدبلوماسية، فالجزائري لا يحتاج للجنة تقصٍّ ما إذا كان الاستعمار إجراميا أم لا، لأن الشواهد بكثرتها وبتضاريسها تعطي تجليات الحقيقة التاريخية كل أبعادها، التي لا تقبل الشك بأن الجزائر عاشت شتى أنواع القهر والطغيان على ما يزيد عن القرن من الزمن.

هذه الحقيقة تحظى بإجماع كلي من الجانب الجزائري، شعبا ونخبا، حاكما ومحكوما، وهذه الحقيقة تتوارثها الأجيال. ولكن ثمة فوارق بين النخب الفرنسية، وتباين في المواقف بين أطياف واتجاهات مبنية على أساس إيديولوجي، سياسي وثقافي أيضا.

حلم الجزائر الفرنسية

عندما باشر الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، عهدته الأولى، وبعد عمل دؤوب لتطبيع شامل للعلاقات الثنائية بين البلدين، حصل تقارب معتبر بين رئيسي البلدين، وتم التوقيع على إعلان الجزائر بين بوتفليقة والرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك، وما إن تم مباشرة العمل بتأسيس الأطر التشاورية والميدانية، حتى تم التصويت وفي ظروف غامضة على قانون تمجيد الاستعمار في الجمعية الوطنية الفرنسية، وكانت المادة 4 من ذات القانون بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أن يشيد بالمظاهر الإيجابية للاستعمار. ما إن وصل الخبر إلى المرادية، حتى عادت الأمور إلى نقطة الصفر، وذهبت كل الجهود أدراج الرياح.

يجب التذكير بأن هذا القانون تم التصويت عليه من طرف مجموعة من نواب اليمين واليمين المتشدد في جوف الليل، بإيعاز من جمعيات الأقدام السوداء، التي استطاعت تجنيد جماعات الضغط على مستوى البرلمان الفرنسي، وتفويت هذا القانون الذي لم يكن في الحسبان. هذه الجمعيات ذات النفوذ المعتبر لدى الطبقة السياسية اليمينية واليمين المتطرف، لم تتخل عن حلمها المدفون الجزائر الفرنسية، مصبوغ بحقد دفين للجزائر الحرة، ولكل ما يمت بصلة للجزائر، تاريخا، ثقافة ولغة، ولعل الخرجات الإعلامية لوزير الداخلية الحالي برونو روطايو (Bruno Retailleau)، أين يمجد الاستعمار، معبرا عن الساعات المجيدة للاستعمار، وعندما اقترح بنيامين ستورا في تقريره حول الذاكرة، للرئيس إيمانويل مكرون بالاعتراف بجريمة قتل الشهيد علي بومنجل، ندد روطايو بموقف الجزائر المطالب بالاعتذار، قائلا: “لقد ضقت ذرعا بمن يقولون أشياء فظيعة عن بلدي فرنسا”، وكأنه لا يتحمل أن نتكلم عن الماضي المأساوي والوحشي للاستعمار الفرنسي.

هو نفسه الذي قدم مقترح لإصدار لائحة على مستوى مجلس الشيوخ، عملا بالفصل 34-1 من الدستور يدعو السلطات الفرنسية إلى الانسحاب من الاتفاقية الفرنسية الجزائرية المؤرخة 27 ديسمبر 1968، وذلك في شهر جوان 2023.

فالذين يمجدون أطروحة الجزائر الفرنسية، يتغاضون الحديث عن الجرائم، ويحاولون تصوير الجيش الفرنسي ومن ساعده في إجرامهم على هيئة الضحية، ويصبون جام غضبهم ضد الجزائر التي قررت يوما ما المقاومة والمطالبة بالاستقلال.

اليمين المتطرف.. والآخر

إن المخيال الفرنسي يحمل في ثناياه جوانب من النزعة العلية (Suprémacisme) تجاه ما هو أجنبي، وخاصة الجهة الجنوبية لأوربا، حيث المستعمرات القديمة، ولعل هذا الأمر الذي يجل أنصار اليمين المتطرف ينكر الهمجية الاستعمارية ويصورها على أنها محاولات لتهذيب الأجناس الأخرى، عن طريق الاستعمار.

في دواليب اليمين المتطرف نجد السياديين (Les Souverainistes)، الذين يمجدون تاريخ فرنسا، سواء الحقب الإمبراطورية والملكية، أم ما تعلق بالحقب الجمهورية بعد الثورة الفرنسية، بحيث إنهم ليسوا مستعدين لأن تعترف فرنسا بجرائمها في الحقب الغابرة.

بالنسبة للقوميين (Nationalistes)، يعتبرون أي اعتراف بالذنب بمثابة جلد الذات، وهو في حد ذاته انكسار وخنوع للذات الفرنسية العليا، وهذا ما عبرت عنه مارين لوبان وأتباعها عن حزب التجمع القومي (Rassemblement National)، سليل الجبهة القومية.

قد نجد أيضا من هذه الأطياف في التيار اليساري، التقليدي، الذي يمتاز بنوع من النفاق التاريخي والثقافي، متنصلا عن مبادئه الإنسانية.

يبقى هذا الصوت المتزمت سيد الموقف في الإدارة الفرنسية، رغم تصاعد أصوات الأجيال الشابة التي تريد طي صفحة المأساة الاستعمارية، والتحلي بالشجاعة اللازمة للنظر في مرآة التاريخ، لأن التاريخ يحمل في طياته ما هو مشرف وما هو مقزز.

هل يمكن تجاوز الحقائق التاريخية؟

لقد أريد لهذه اللجنة، مبدئيا، توثيق للتاريخ والوصول إلى رؤية يتفق عليها الجميع، من حيث صحتها، ولكن بالنسبة للجزائريين، التاريخ واضح، والشواهد التي تدين الاستعمار كثيرة وعديدة، ففي كتاب مهم بعنوان “الدليل الأبجدي في طور التكوين: الإيديولوجية الاستعمارية واللغة الفرنسية” (Abécédaire en devenir: Idéologie coloniale et langue Française) للباحثة كريستيان شولي عاشور، الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب عام 1985. تتناول الباحثة الجرائم الاستعمارية منذ السنوات الأولى للاجتياح، ويعد هذا الكتاب، في اعتقادي، مرجعا توثيقيا لهذه الجرائم التي لا ولن تسقط بالتقادم. بالإضافة إلى كتاب للباحثة الفرنسية إيفون تورين (Yvonne Turin)، كان مرجعا معتمدا في الجامعة الجزائرية، منذ الثمانينيات، من القرن الماضي، بعنوان “المواجهات الثقافية في الجزائر الاستعمارية” ( 1830-1880Affrontements culturels dans l’Algérie coloniale)، الصادر أيضا عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1983، والقارئ لهذا الكتاب يستشف لأول وهلة إنجازات الإدارة الاستعمارية في ميادين التعليم، الصحة والتهيئة العمرانية، ولكن يكشف لنا عن هول المشروع الاستعماري في تفكيك الهيكلي للدولة وللمجتمع الجزائري آنذاك، باستعمال المنظومة القانونية والعسكرية، أو بالأحرى ما سماه المفكر الفرنسي لوي ألتوسر (Louis Althusser) ” أجهزة قمع الدولة”، من مدرسة، القوة الأمنية، المؤسسة الثقافية.. إلخ

مشروع فرنسا الثقافي في مستعمراتها.. الجزائر نموذجا

بقلم: الأستاذ محمد الأمين بلغيث

أحاول أن أقرأ قضايا الذاكرة والهوية في مسار تاريخ الجزائر بقلم شخصية تفانت في التواضع والابتعاد عن المظهرية أو تحقيق مبدأ الظهور، وهي حالة إنسانية يتحدث عنها كل العمالقة أصحاب التأثير في مجتمعاتهم الصغيرة [أوطانهم] أو المجتمعات الإنسانية [ العالم] فاستعادة الذاكرة الجماعية هي عملية استعادة التاريخ لأنها وليدة مرحلة تاريخية لها خصائصها الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، وفي ظل أزمة الهوية التي تتعرض إلى صدمات وضغوط مجتمعية معينة مما دفع المجتمع نحو [ الذاكرة] بوصفها الوعاء المجتمعي لتلك الهوية المعاصرة، فبين تاريخ [الذاكرة] والواقع المباشر [الهوية] يعاد بناء التاريخ، فجرائم فرنسا في حق الهوية وتمزيق النسيج الاجتماعي الجزائري تفوق الخيال.

إذا كانت فرنسا ترغب في البقاء في الجزائر، فعليها أن تتبع توجيهات سلمية، ولكن الأهم من ذلك أنها كان يجب أن تركز على تعليم الأهالي. في عام 1887، اعتقد طومسون، وهو خبيرٌ في الشؤون الاستعمارية الفرنسية، أن إهمال تطوير تعليم اللغة الفرنسية بين الأهالي كان خطأً سياسيًّا جسيمًا. من جانبه، أكد كولان، المستشرق والكاتب، أهمية هذا الأمر في تقريره عن ميزانية تونس قائلاً: «إن الجزائريين أنفسهم هم الذين طالبوا دائمًا، من خلال ممثليهم الأكثر تأييدًا، بنشر تعليم اللغة الفرنسية بين السكان المسلمين، وسيكون هذا التعليم الضمان الأكثر صلابة لهيمنتنا وأمننا السياسي، لأنه سيجعل الأهالي ينظرون نحو فرنسا بدلاً من النظر نحو مصر أو تركيا”.

هل فهمت سرّ ما قال المنفّر من الإسلام [ لافيجري]: “قولوا لهم لستم عربًا فسوف يتركون الإسلام؟ وهل رأيت شيطنة عمقنا العربي الإسلامي من طرف نطاف المدرسة الفرنسية ونطاف بقايا الحركى، هل رأيت الحركى الجدد الذين يتغنون بزمن الظاهرة الاستعمارية؟

لم يكن الاحتلال الفرنسي لبلدنا له أبعاد سياسية واقتصادية فحسب، بل كانت له أيضًا أبعاد دينية، إذ اعتُبر امتدادًا للحروب الصليبية، فالجيش الفرنسي المجهز بالبندقيات والمدافع كان مصحوبًا بجيش آخر، هو جيش التنصير [ الحملة الصليبية العاشرة]، الذي كانت أسلحته الإنجيل والمال.

ولزرع الفتنة في البلاد ونشر الفرنسة والتنصير، وضعت فرنسا برامج أكثر خُبثًا بعضها فوق بعض، من بينها برنامج إثارة الكراهية والانفصالية بين المسلمين تحت اسم ثقافة تعتمد على اللغة الأمازيغية والدين المسيحي. وبالفعل، بمجرد وصولها، أجرت فرنسا دراسات، يُقال إنها لأغراض إدارية، حول اللهجات المستخدَمة في الجزائر. كانت هذه الدراسات تُجرى بإشراف ضباط ومسؤولين إداريين ومستشرقين معروفين وما زالوا معروفين بخدمتهم للمخططات الاستعمارية، ولم تكن هذه الدراسات بريئة بأي حال؛ ففي عام 1856، أصدر وزير الحرب أمرًا إلى جيسلان لإعداد “جدول اللهجات في الجزائر”، وتم عرض هذا التقرير ومناقشته من قبل لجنة من المستشرقين في أكاديمية الفنون والآداب في باريس تحت إشراف المستشرق رينو، وهو ما يُظهر أن نية الفرنسيين لم تكن تقتصر على مجرد إدارة مستعمِرة جديدة.

بحلول عام 1880، كان الفرنسيون قد نشروا بالفعل دراسات حول معظم اللهجات الجزائرية، ومنها :”محاولة في قواعد لغة التماشيك”: وهو قاموسٌ للهجة الطوارق من إعداد الجنرال هانوتو، الذي هو قاموس الشاوية: من إعداد إميل ماسكري، و” بيبليوغرافيا مزاب، عصور الطائفة الإباضية”: من إعداد موتيلينسكي، وغيرهم الكثير.

كان المستشرق صابتي نائبًا وسياسيًّا نشطًا في إدارة تريمان، وكان يؤمن أو بالأحرى يعمل كل ما في وسعه على إحداث الانقسام بين الجزائريين استنادًا إلى نظرية الأعراق والأنثروبولوجيا الجديدة، وبناء على ذلك قال: “إن في الجزائر ثلاثة أجناس هم العرب والقبائل والشاوية”. وتمسّك هو بضرورة فرْنسة الزواوة وإعدادهم إلى الاندماج في الفرنسيين، باعتماد النظم المحلية [الأعراف] وسياسة الصفوف [التفريق]” وهو عين ما تكلم عنه بالتفصيل المؤرخ الفرنسي [روبير آجرون] في دراسة موثقة حول سياسة فرنسا الثقافية والتبشيرية في منطقة زواوة، وهم من نشروا ما هو شائع الآن في الدراسات الحديثة التي خصصت لها الأمريكية [باتريشيا لورسين[ Patricia Lorcin] كتابًا راقيًّا تحت مسمى [هويات استعمارية].

لم يكتفِ الفرنسيون بتلقين كل من قاموا بتعليمهم فكرة أن منطقتهم تمتلك لغة وثقافة لا علاقة لها بالثقافة العربية الإسلامية، بل سعوا حتى للتشكيك في أصول الزواوة؛ فقد كانت الآراء التاريخية متباينة بين رأيين رئيسيين حول أصول البربر؛ الأول ينسبهم إلى أصول يمنية (من حمير)، والثاني يرجعهم إلى فلسطين (كنعان)، إذ كان المشرق يعدّ مهد الحضارات. ولكن الفرنسيين جاؤوا بنظرية جديدة تخص سكان زواوة، وهم من القبيلة الأمازيغية صنهاجة، وادّعوا أن لهم أصولاً آرية جرمانية نظراً لوجود العديد من الأشخاص ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء بينهم!

هذا الدليل السخيف كان الأساس الذي استند إليه الفرنسيون للقول إن الزواوة ليسوا بربراً، بل هم من أحفاد الوندال الذين غزوا أرض البربر في القرن الخامس الميلادي! وهكذا، زعموا أن الزواوة مثل العرب والأتراك الذين جاؤوا من الشرق، أو الفرنسيين والإسبان الذين جاؤوا من أوروبا.

ليس هذا فحسب، لكن أنقل لكم جريمة أكثر بشاعة من تحطيم وتفكيك مكونات المجتمع والقضاء على ميراثه الثقافي والفني والمعماري، إذ أنّ فرنسا نقلت خلال فترة استعمارها للجزائر عظام مقاومين جزائريين إلى أراضيها لـ”استعمالها في صناعة الصابون والسكر “. فعلا المستعمرون الفرنسيون همج.

فممّا جادت به الوثائق التي كشفتها الصحافة في مرسيليا ما يذكر وقد سارت الأمور على ذلك النحو إلى أن كُشف المستور وأعلمت جريدة “لو سيمافور دو مرساي” Le Sémaphore de Marseille قراءها في مارس 1833 بهذه التجارة المشؤومة. ولما علم الطبيب سيقو Dr Ségaud بهذا الحادث، قام بتحقيق من تلقاء نفسه في الموضوع. وبعث رسالة للجريدة وفيما يلي جزء مقتضب من فحواها الذي أحدث تأثيرا كبيرا:

“مرسيليا في 1 مارس 1833

لقد علمت عن طريق الإشاعات أن عظاما بشرية استخدمت لصنع الفحم الحيواني، ومدفوعا بشعور العطف على الإنسانية، أردت إقناع نفسي إلى أي درجة يمكن أن نثق في مثل هذه الإشاعات. وقد قمت بزيارة الباخرة المدفعية La bonne Joséphine بقيادة ربّانها النقيب بارصولا والقادمة من الجزائر، ما إذا كانت حمولتها من العظام. وبعد أن قمتُ بفحص دقيق جدًّا لكمية العظام الموجودة تعرّفت إلى بعض منها، ثبُت لديَّ أنّه من النوع البشري. وقد شاهدت عددا من الجماجم والسواعد وعظام الفخذ التابعة للمراهقين الذين دُفنوا مؤخرا ولم تكن خالية تماما من اللحم. وكان يجب ألا يُتساهل في مثل هذه العمليات، كما أن واجب السلطات المسؤولة منع الاستمرار في تجارة رفات الإنسان والتي يمكن أن تضمّ رفات زعماء فرنسيين وإفريقيين على حد سواء..”.

لكن الأغرب من هذا أنّ زمن الرويبضة، قد تركنا نعيش التعاسة والاستلاب ممن يحملون ألقابنا وهويتنا، لكنهم بالمقابل أصبحوا في الأعراف الإعلامية الجديدة يسمّون “الحركى الجدد”، لهذا تكلم بصدق الأستاذ محمد ساري عن هؤلاء بقوله: ”إن الحنين إلى الجزائر الفرنسية يسرُّهم كثيرا أن تغرق الجزائر المستقلة في أوحال التخلف والفوضى السياسية والاقتصادية. انطلاقا من هذه الاعتبارات، فإن النخب الفرنسية تنتظر من الكاتب الجزائري أن يدعّم أقوالها من خلال التركيز على الجانب السلبي لواقع الجزائر في ظل حكومات الاستقلال، وللأسف فهي كثيرة، كما تنتظر منه الالتفات إلى الفترة الاستعمارية للطرق إلى بعض الجوانب الإيجابية. واعتبار تعريب الجزائر “كارثة وتخلُّفًا بل وجريمة ضد الإنسانية” (بوعلام صنصال)، ولهذا تجد الكاتب الجزائري الذي تحتفي به وسائل الإعلام أول ما يبدأ به هو التهجّم على اللغة العربية، واعتبارها “لغة دين وزوايا وبعيدة كل البعد عن الحداثة والتنوير” كما قال كمال داود في تصريحاته الأخيرة.

إنّ مقومات الأمة مستباحة الآن عند الحركى الجدد، ورثة البشاغا بوعلام وأمثاله من الخونة، وأخطر خيانة معروفة هي خيانة المثقف الذي لا يتخندق مع أمته. ويبرّر التطبيع مع العدو.

وهناك قراءة نقدية لهذه الدونية كما أشار إليها بن بوعزيز إذ “إن التنكر للذات والتاريخ سمتان أساسيتان في هذه الكتابات، فالكتابات الجزائرية المعاصرة، التي تروِّج لها كثيرا لوبياتٌ إعلامية متصهينة وغارقة في إنتاج الإسلاموفوبيا؛ أعادت فتح التاريخ الجزائري من منظور الأنديجان الذي قبع تابعا subalterne لسيده المستعمِر، فصورة الجزائر في هذه الكتابات هي صورة المنشآت والمؤسسات والفضاءات الاستعمارية، هي صورة الجزائري الأصلاني الصامت والعابر والعرضي”.

لهذا ستكون معاناتنا أكبر مع هؤلاء الذين يحنّون إلى سيّدهم: بوعلام صنصال، ياسمينة خضرا، كمال داود .. وغيرهم، مواطنون فرنسيون يكتبون باللسان الفرنسي متوجهين للقارئ الفرنسي بالدرجة الأولى .يعبِّرون عن قضايا جزائرية وعربية وإسلامية وفق رؤية فرنسية وشهرة هؤلاء لا علاقة لها بالإبداع ولا باللغة التي يكتبون بها كما يعتقد البعض .

اشتهر هؤلاء وتُرجمت أعمالهم ومُنحت لهم الجوائز وفُتحت لهم المنابر لأنهم فهموا المطلوب منهم جيدا: لبّوا التطلعات وعبّروا عن قيم الجمهورية الفرنسية وعزفوا على الأوتار المحبَّبة عند الدوائر الفرنسية (تجميل وتطهير الفترة الاستعمارية (صنصال وخضرا) وإعادة إنتاج وترسيخ الصور المسيئة للعرب والمسلمين ( كمال داود ).

بحلول عام 1880، كان الفرنسيون قد نشروا بالفعل دراسات حول معظم اللهجات الجزائرية، ومنها :”محاولة في قواعد لغة التماشيك”: وهو قاموسٌ للهجة الطوارق من إعداد الجنرال هانوتو، الذي هو قاموس الشاوية: من إعداد إميل ماسكري، و” بيبليوغرافيا مزاب، عصور الطائفة الإباضية”: من إعداد موتيلينسكي، وغيرهم الكثير.

خطورة هؤلاء في تقديمهم كنماذج ناجحة، لا للجزائريين المقيمين بفرنسا فحسب، بل لكل الجزائريين والرسالة المراد ايصالها :اكتب على هذا المنوال تصبح عالميا وتُمنح لك الجوائز !

وبالمقابل، هناك جنود الخفاء الذين يرمِّمون ما أفسد شيطان فرنسا الاستعمارية فوجب ذكرُ الصورة المعاكسة لخونة العقل والضمير والدين واللغة، أذكر على سبيل المثال لا الحصر، خاصة في مرحلة الصراع لاستعادة بقايا جثامين أبطالنا من مجاهدي القرن التاسع عشر: فالقصة تبدأ بالمناضل والمجاهد بومعزة، فلما ذهب إلى ربه حمل نفس المهمة والرسالة.

وهناك أسماء يجب أن نسجل لها الاعتراف والفضل في إحراج الرئيس الفرنسي الحالي وأذكر منهم ثلاثة رجال بوزن أمة.

الدكتور المتميز علي فريد بلقاضي، صاحب الكتاب الشهير عن محمد لمجد بن عبد المالك الشريف الهلالي، المدعو الشريف بو بغلة، والذي تابع قضية رفات الشهداء المهرَّبين في العالم والمنحدرين من جميع أنحاء البلاد الجزائرية ويقدر عددهم بـ536 جمجمة، وينحدر أصحابها من خنشلة، وهران، ورقلة، تبسة، باتنة، القل سكيكدة، والجزائر العاصمة.

والمناضل الفذ إبراهيم سنوسي والأستاذ عبد الرزاق غضاب، الذي تجشّم كل الصعاب مثله مثل غيره من الجزائريين الذين قاموا بواجب الدفاع عن الذاكرة وعن حقِّ هؤلاء الشهداء في تكريمهم ودفنهم بأرض الوطن.

علمتُ أن عظاما بشرية استُخدمت لصنع الفحم الحيواني. ومدفوعا بشعور العطف على الإنسانية، قمتُ بزيارة الباخرة المدفعية La bonne Joséphine بقيادة ربانها النقيب بارصولا والقادمة من الجزائر، ما إذا كانت حمولتها من العظام. وبعد أن قمتُ بفحص دقيق جدًّا لكمية العظام الموجودة تعرّفت إلى بعض منها، ثبُت لديَّ أنّه من النوع البشري. وقد شاهدت عددا من الجماجم والسواعد وعظام الفخذ.

لا تكفي جرائم فرنسا الثقافية في حق هُوِّتنا ولساننا وديننا المجلّدات لكن سأكتفي بنموذج، ربما يبدو عند الناس هيِّنا وهو عظيم في عرف الشعوب والأمم: من هذه الجرائم نهب وسرقة كنوزنا الخطية؛ فأثناء اقتحام مغول القرن التاسع عشر لقصور قسنطينة ومكتباتها بعد انهيار المقاومة في 12 أكتوبر 1837م، استولى الفرنسيون على أموال بن عيسى الفرقاني قائد الجيش، من خلال عيون الفرنسيين من يهود المدينة، كما استولى هؤلاء الهمج على كنوز قصر صالح باي ومنها مخطوط تاريخ الشيخ محمد بن عمر العدواني، وهو مؤرخ من رجال القرن السابع عشر الميلادي.

وقد أجمع كل من تناول “كتاب العدواني” بالدراسة أن الكتاب الأصلي مفقود، وما بقي منه مجرد ذكريات مختصرة عن تاريخ سُوف، وطرود، وعدوان، والشابية([1])، والحنانشة، والذواودة، وغيرها من المواضيع غير المرتبة من الذاكرة الشعبية، مستوحاة من “تاريخ العدواني”، كما ذهب إلى ذلك الجاسوس والمستشرق أدريان بير بروجر، الذي حصل على نسخة من وادي سوف، ويُعتقدُ أن النسخة الأصلية نهبها الفرنسيون من قصور وممتلكات صالح باي، حين اقتحموا عاصمة الشرق العتيدة التي قاومت مغول القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، مقاومةً تاريخية مشهودة، كما هي مدوَّنة في حوليات العصر.

العثور على نسخة كاملة لـ”تاريخ العدواني” هي أمنيةُ أهل الصحراء، والجريد التونسي، وقد حدّثني أهل سُوف، والزقم بالدرجة الأولى، أنه بالإمكان العثور على نسخة كاملة بتونس، أو بأرشيفات فرنسا، وهو ما يعتقده الدكتور أبو القاسم سعد الله أيضًا. وزاد تأكُّدنا من هذه الفرضيات الشهادةُ التي أدلى بها الدكتور محمد الطاهر العدواني رحمه الله في الندوة التاسعة التي عُقدت بالزقم أيام 29 و30 و31 مارس 2006م.

هوامش:

([1]) علي الشابي، علاقة الشابية بالأتراك العثمانيين في تونس، منذ أواخر القرن السادس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، ص ص: 69-89.

د. أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الرابع، ص: 275-277. د. محمد الأمين بلغيث، الطريقة الشابية في تونس والجزائر “محاولة لرسم مسار الحركة” خلال القرنين 16 و17، ص: 37-48.

-Monchicourt (ch), Etudes Kairouanaises;Kairouan et les Chabia (1450-1592); Tunis 1939,249 Pages.

مقاربة الذاكرة الوطنية في رؤية الرئيس تبون
بقلم: رضوان شافو

منذ تولي السيد عبد المجيد تبون رئاسة الجزائر في عهدته الأولى سنة 2019، أعطى أهمية كبيرة لملف الذاكرة الوطنية، وكتابة التاريخ الوطني، وجعلها ضمن أولى أولياته من خلال التزاماته 54 ضمن برنامجه الانتخابي، وعلى الخصوص الالتزام رقم 12 الذي يؤكد فيه على تعزيز مكونات الهوية الوطنية (الإسلام والعروبة والأمازيغية) وضمان الحفاظ على الذاكرة الوطنية وسياسة التكفل بالمجاهدين وذوي الحقوق، والأبعد من ذلك أن اختياره رقم 54 لالتزاماته التعهدية له رمزيته التاريخية، لكون هذا الرقم هو إشارة ضمنية إلى السنة التي اندلعت فيها الثورة التحريرية المباركة من أجل استقلال الجزائر واسترجاع سيادتها الوطنية.

ووفاءً لالتزاماته التعهدية وبعد انتخابه رئيسا للجمهورية الجزائرية، كان أول ما بدأ به في الإصلاح السياسي التعديل الدستوري الذي أقره في الفاتح نوفمبر من سنة 2020 تيَّمُناً بشهرالثورة التحريرية، مؤكدا من خلاله على حرصه الشديد بالحفاظ على الذاكرة التاريخية ومكتسبات الثورة التحريرية انطلاقاً من صيغة قسم أداء اليمين الدستورية الذي يقول فيه: “وفاءً للتضحيات الكبرى ولأرواح شهدائنا الأبرار وقيم ثورة نوفمبر الخالدة، أقسم بالله العظيم أن أحترم الدين الإسلامي وأمجِّده… وأحافظ على سلامة ووحدة التراب الوطني ووحدة الشعب والأمة..”.

وتجسيدا لهذا القسم الدستوري، فقد تجلى وفاء الرئيس عبد المجيد تبون في دسترته لبيان أول نوفمبر وبشكل صريح في دباجة الدستور الجديد، واحتلال تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية حيزا كبيرا في الفقرات الأولى من ديباجته، ناهيك عما جاء في الفصل الأول، من الباب الأول المتعلق بالمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري، من خلال المواد 1،2،3،4،6 التي تعزز الهوية الوطنية، ومكتسبات الثورة التحريرية ممثلة في العلم الوطني والنشيد الوطني، وكذلك المادة الثمانون (80) في الفصل الثاني، من الباب الثاني المتعلق بالحقوق الأساسية والحريات العامة والواجبات، حيث نصت هذه المادة على ضمان الدولة احترام رموز الثورة وأرواح الشهداء وكرامة ذويهم والمجاهدين، وتعمل الدولة على ترقية كتابة تاريخ الأمة وتعليمه للأجيال.

وعلى هذا الأساس، كان رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، وفي كل المناسبات التاريخية الوطنية، يجدد التزامه الكامل بجعل التاريخ والذاكرة من بين أهم أولوياته القصوى، مؤكدا على أن ملف الذاكرة الوطنية في فترة الاستعمار، سيبقى في صميم انشغالات السلطات الجزائرية، حتى تتحقق معالجته بموضوعية جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية، ولهذا الغرض، وبناءً على “بيان الجزائر”، الموقع بتاريخ 27 أوت 2022 بين رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تم إنشاء لجنة التاريخ والذاكرة مشتركة بين مؤرخين جزائريين وفرنسيين سنة 2022 (5+5) كلفت بمهمة التعاطي مع ملف التاريخ والذاكرة بما يُتيحه لها التخصص في البحث التاريخي والتمرس في التمحيص والدقة في التحري لإجلاء الحقيقة التاريخية، وقد اعتبرت لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية من أولى مكتسبات العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون، التي بفضلها استطاعت الجزائر خلال الاحتفالات بالذكرى 58 لعيدي الاستقلال والشباب أن تسترجع 24 من رفات جماجم لشهداء المقاومة الشعبية بعد 170 سنة من الاستبعاد القسري بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس ( فرنسا)، مؤكدا في هذا السياق على مواصلة عملية استرجاع بقايا جماجم الشهداء، علما أنه تبقى بفرنسا حوالي 100 جمجمة لمقاومين جزائريين، وبفضل هذه اللجنة أيضا قدمت الجزائر لائحة مفتوحة لممتلكات جزائرية تاريخية تتواجد في مؤسسات فرنسية من أجل استرجاعها، وقد نتج عن هذا الطلب استرجاع مليوني وثيقة مُرقمنة خاصة بالفترة الاستعمارية، فضلاً عن عدّة ممتلكات منهوبة، إضافة إلى 29 لفة و13 سجّلا من الأرشيف المتبقي الخاص بالفترة العثمانية، بحسب بيان أفاد به منسق اللجنة الجزائرية الدكتور محمد لحسن زغيدي.

وبخصوص المناسبات الوطنية ووفاء لتضحيات الشهداء، فقد خصّ الرئيس عبد المجيد تبون أياما تاريخية وطنية جديدة في سجل الأعياد الوطنية الرسمية المحتفل بها سنويا، على غرار اليوم الوطني للذاكرة المصادف لذكرى مجازر الثامن ماي، وهي محطة دموية مأسوية في تاريخ نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي راح ضحيتها أزيد من 45 ألف شهيد، وتخليد هذا اليوم جاء “اعتزازًا بفصول المسيرة الوطنية الحافلة بالنضالات جيلًا بعد جيل”، على حسب تعبير السيد عبد المجيد تبون، هذا بالإضافة إلى ترسيم تاريخ الرابع من أوت كيوم وطني للجيش الوطني الشعبي، وهو تاريخ تحوير جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، وتخليد هذا اليوم جاء اعترافا بالدور الذي أداه جيش التحرير الوطني خلال الثورة التحريرية المباركة، واعترافا في ذات الوقت بالدور الذي يؤديه الجيش الوطني الشعبي في الحفاظ على رسالة الشهداء وأماناتهم وصون وديعتهم، وصُنعه لصُور إنسانية في التعاون والتضامن مع الشعب الجزائري، من خلال الوقوف معه في مختلف الأزمات والكوارث الطبيعة التي عرفتها الجزائر المستقلة.

وتجسيدا لالتزامات الرئيس عبد المجيد تبون المتعلقة بالذاكرة، وعلاوةً عما تطرقت له سلفا من الإنجازات، وتطبيقا للمادة الثمانين من الدستور الجديد، وتعزيزاً للقيَم والمبادئ النوفمبرية في المنظومة التربوية، ودحضاً للدعايات المغرضة تجاه تاريخ الجزائر، عمل على إنشاء قناة الذاكرة التلفزيونية، المتخصصة في تاريخ الجزائر، وذلك عشية الاحتفال بالذكرى الـ66 لاندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، وفي ذات السياق ومن منطلق أن مسألة الذاكرة التي هي من المكونات الأساسية للهوية الجزائرية، التي تعد جزءا لا يتجزأ من السيادة الوطنية وأحد الأسس التي تُبنى عليها الجزائر الجديدة، والجزائر المنتصرة، ووفاءً للمجاهدين وذوي الحقوق عمل الرئيس تبون على رقمنة وعصرنة كافة الأنظمة المعلوماتية لقطاع وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، وربط كافة المؤسسات التابعة لها بالألياف البصرية لتبليغ القيم السامية للمجاهدين والشهداء ورسالتهم النبيلة، وهذا تماشيا مع سياسة الدولة في مجال العصرنة لمسايرة التكنولوجيات الحديثة، وفي السياق ذاته، وبتاريخ 4 جويلية 2022 عمل على إطلاق أول منصة رقمية تاريخية مخلدة لستينية الاستقلال تحت اسم “جزائر المجد”، وتطبيقا لهاتف النقال “تاريخ الجزائر 1830-1962” الذي يسمح بالاطلاع على محطات التاريخ الجزائري ومعطياته بمنهجية وأسلوب راقٍ ومبسط لتبليغ رسالة الجهاد والكفاح إلى كل الشباب الجزائري، زيادة على إنشاء لعبة إلكترونية ثلاثية الأبعاد 3D بمواصفات عالمية، تجسد ملحمة الثورة الجزائرية وتجمع بين متعة اللعب والتمجيد للتاريخ الثوري للمجاهدين والشهداء، بحيث ستصبح هذه اللعبة الإلكترونية في متناول الأطفال ابتداءً من الفاتح نوفمبر المقبل، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام الجزائرية.

وفي ما يتعلق بتشجيع وترقية البحث في التاريخ الوطني، فقد تم طبع الآلاف من الكتب التاريخية الجديدة مصدرها الرئيسي الشهادات الحية للمجاهدين ومذكراتهم الشخصية، وإنجاز العديد من الأفلام الوثائقية والسينمائية التاريخية تتناول عدة جوانب من الثورة التحريرية، مثل فيلم الشهيد مصطفى بن بولعيد، والشهيد العربي بن مهيدي، والشهيد زيغود يوسف، والشيخ عبد الحميد بن باديس، وفيلم عذراء الجبل الذي يخلد ملحمة البطلة لآلة فاطمة نسومر، وكان آخر إنجازات الرئيس تبون في مجال السينما التاريخية إطلاق مناقصة دولية في الإنتاج والإخراج لإنجاز عمل سينمائي كبير حول الأمير عبد القادر، وذلك لما للأمير عبد القادر من رمزية تاريخية وإنسانية سامية، بالنظر لمساره الذي أفناه في بناء الجزائر المعاصرة وإشعاعه الدولي وما بذله في سبيل حماية الأقليات عبر العالم على حد تعبير الرئيس عبد المجيد تبون.

وفي إطار الدبلوماسية التاريخية، عمل الرئيس تبون في شهر جويلية 2023 على تأسيس الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية، وإنشاء معلم تذكاري يخلد 1943 صديق للثورة الجزائرية بساحة رياض الفتح، وهذا بمناسبة الاحتفالات المخلدة للذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية، وتعزيز هذه الدبلوماسية يأتي في إطار الاعتراف برد الجميل لأصدقاء الثورة الجزائرية، وبهدف الحفاظ على الروابط المتينة بين الجزائر وأصدقاء ثورتها الأجانب وتكريس القيم الإنسانية والتضامن لدى جيل ما بعد الاستقلال.

والمتتبع لخطابات الرئيس عبد المجيد تبون في مختلف الأعياد الوطنية، سيلاحظ ذلك الاهتمام المتزايد بالتاريخ وبالذاكرة، وحدة نبرة كلامه تجاه فرنسا كلما تعلق الأمر بملف الذاكرة، ومما قاله في إحدى المناسبات التاريخية: “إن الاهتمام بالذاكرة الوطنية من جميع جوانبها ليس مدفوعا بأي نزعة ظرفية، وإنما هو واجب وطني مقدس لا يقبل أي مساومة، وسوف يظل في مقدمة انشغالات الدولة لتحصين الشخصية الوطنية، وفي صميم الوفاء لشهداء ثورة نوفمبر المجيدة، والمجاهدين الأخيار”. وفي موضع آخر، قال: “إننا لن نتخلى عن ذاكرتنا أبدا ولا نتاجر بها، الأمور تحل بذكاء وبهدوء وليس بالشعارات”، وبناء على هذا الحرص الشديد لملف الذاكرة التاريخية الجزائرية في إطار العلاقات الجزائرية الفرنسية، دفع بتصحيح الكثير من المواقف السياسية، ومنها على الخصوص المقطع المحذوف من النشيد الوطني من الكتب المدرسية منذ سنة 1986 لاعتبارات سياسية، بحكم أن هذا المقطع يحمل نبرة تهديد ووعيد لفرنسا، الذي يقول: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يُطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب”، وعلى هذا الأساس، أعاد الرئيس تبون اعتماد المقطع من النشيد الوطني الذي كان محذوفا بمقتضى مرسوم رئاسي نشر في الجريدة الرسمية في 12 ماي 2023، وفي السياق ذاته، طالب الرئيس تبون عن طريق وزارة المجاهدين وذوي الحقوق المنظومةَ التربوية بإعادة مراجعة كتب التاريخ المدرسية، وتصحيح الكثير من الأخطاء التي تمس بمقدسات الثورة التحريرية وكذا بالتضحيات الكبرى التي قدمتها الجزائر في سبيل الاستقلال، وهو ما يعتبر مساسا بمقومات المجتمع الجزائري وتاريخه المجيد.

في الأخير، وما تجدر الإشارة إليه، هو أن الندية في العلاقات الجزائرية الفرنسية بخصوص ملف الذاكرة، دفعت الرئاسة والحكومة الفرنسية إلى تقديم عدة تنازلات لفائدة الجزائريين، تمثلت في الاعتراف بما قامت به فرنسا الاستعمارية من جرائم في حق الشعب الجزائري، كان أولها اعتراف الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند سنة 2012 بالقمع الدموي في حق المتظاهرين الجزائريين، في 17 أكتوبر 1961 بباريس، استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني، بهدف كسر حظر التجوال. وفي هذا السياق، من عام 2022، تم الكشف عن وثائق حكومية من الأرشيف الفرنسي، رفعت عنها السرية، تثبت تورط المسؤولين المباشرين لهذه المجازر وفي مقدمتهم موريس بابون، بمن فيه الرئيس شارل ديغول الذي كان على علم بها، وقد صادق البرلمان الفرنسي خلال شهر مارس من سنة 2024 على مقترح لائحة تدين القمع الدموي والإجرامي، الذي مورس على الجزائريين خلال مظاهرات 17 أكتوبر 1961. وفي السياق ذاته، تواصلت سياسة تقديم الاعترافات، حيث اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سنة 2018، بمسؤولية الدولة الفرنسية في مقتل الشيوعي الفرنسي موريس أودان، في 1957، الذي ناضل لأجل استقلال الجزائر، وخلال شهر مارس 2021، اعترف الرئيس الفرنسي ذاته باسم فرنسا بدور الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر بتعذيب وقتل المحامي علي بومنجل.

فكل هذه الاعترافات الفرنسية للشعب الجزائري، والإنجازات، ما كانت أن تأتي، لولا السياسة الذكية والحكيمة، التي يمارسها الرئيس، عبد المجيد تبون، في الحفاظ على الذاكرة التاريخية الجزائرية، من منطلق أنها واجب مقدس، وعرفان ووفاء لتضحيات الشهداء والمجاهدين، وحفظ لوديعة الشهيد مراد ديدوش، حينما قال: “إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خُلقنا من أجل أن نموت ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة”.

“المرأة الجزائرية في زمن الاحتلال.. ضحية الوحشية الفرنسية”
بقلم: عائشة بنور

قصصهن كثيرة وحكاياتهن مرعبة وكلّ واحدة تسكنها ذاكرة معطوبة من شدّة التعذيب والسجن في الزنازين الباردة، إذ من الصعب رصد حجم المعاناة والترهيب النفسي الذي عانته المرأة الجزائرية في ظل وحشية المستعمِر الفرنسي، لكن أقول إنني حاولت قدر المستطاع الإلمام أو ربما قاربت تسجيل هذا النضال المجيد وهذه الوحشية الدامية والوقوف عليها من خلال كتابي الصادر مؤخرا: “المرأة الجزائرية في الثورة الجزائرية. حقائق وشهادات” وهو وثيقة تاريخية يمكن للقارئ وللباحث الجزائري الوقوف عندها.

حينما نقول المرأة الجزائرية نذكر مسيرتها التاريخية في البناء الحضاري للدولة الجزائرية، إذ عُرفت بمواقفها النضالية، وبأعمالها البطولية أثناء الثورة التحريرية فدوّنت اسمها في سجلّ الخالدين بحروف من ذهب.

نضال المرأة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي كان وسيبقى شعلة مضيئة في ذاكرة الجزائريين والشعوب العربية والعالم، إذ لا يختلف اثنان على أنّ الاستعمار الفرنسي هو استدمار، فمنذ احتلاله الجزائر سنة 1830م وما قام به في حق الشعب الجزائري الأعزل هو جريمة ضد الإنسانية باغتصاب أرضه وارتكاب أبشع الجرائم والمجازر الرهيبة بحقّه، وهذا ما تؤكده هذه الرسالة لأحد الضباط، أرسلها إلى صديقه بفرنسا يوم 6 جوان، يكتبها بمرارة، جاء فيها:

“صـــديقي جون، إنّي لم أشعر بالنفور والكراهية والاشمئزاز في حياتي كما شعرت بها هذه المرّة أمام أعمالنا الوحشية، إنّ الألمان يعتبرون أطفالا صغارا بالقياس إلينا؛ فقد شاهدت المكتب الثاني لجنود المظلات كيف يستجوب المعتقلين، إنهم يعذبونهم طوال النهار إلى أن يدلوا بمعلوماتـهم، ويستعملون معهم التّعذيب بالماء إلى أن يخرج الماء من جميع أنحاء الجسم، ثم يربط الجنود أيدي المساجين وراء ظهورهم ثم يعلّقونهم في الفضاء من أيديهم حتى تتمدد المفاصل ثم يوجعونهم ضربا، وزيادة على هذا يستعمل الكهرباء أيضا في تعذيب المساجين بوضع سلك كهربائي في العضو الجنسي والسلك الآخر في الرأس ثم يُمرر التيار الكهربائي في دفعات متتالية، وتنتهي العملية أخيرا بإثبات سكين في الظهر. إنّ جميع رفقائي في الفرقة ساخطون وكارهون ومشمئزون من أساليب الاستجواب هذه، ومما يلاحظ أن الحكام والمثقفين الفرنسيين عندما ينددون بهذه الأساليب الوحشية إنما خوفا على جنودهم من أن ينزلقوا إلى الفاشيستية أو أن تؤثر أساليب التعذيب على اتجاههم الفكري. أمّا أعمال القمع الجماعي والاغتصاب والتعذيب للجزائريين فلا تهمّهم.”

من خلال هذه الرسالة وغيرها ندرك حجم الجريمة التي اقترفها المستعمِر الفرنسي بحقّ الشعب الجزائري .

وإذا ما عدنا إلى موضوع المرأة الجزائرية في زمن الاحتلال فإني أقول: لقد شكّلت المرأة الجزائرية آنذاك العنصر الأساسي في حلقة الثّورة الجزائرية، فعانت من أنواع التّعذيب ما كان له آثار نفسية عميقة ورهيبة، وإنّ انخراطها في الثّورة أذاقها مرارة الفاجعة في الأهل والزّوج والأخ والولد، لكن ذلك لم يثنِها من مواصلة طريق الدم من أجل حرّية وطنها وشعبها. لقد تدرّبت المرأة الجزائرية إبان الثورة المجيدة على مهام مختلفة، نظرا للمرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد آنذاك، وتقلّدت داخل الجبهة مسؤوليات مختلفة في اللجان السياسية والإدارية والفدائية، وكل الأعمــال التي من شأنها مساعدة الثّورة على مواصلة طريقها المسلح كالتدرب على السلاح، والتمريض والشؤون الإدارية والكتابة على الآلة الراقنة لإعداد المنشورات، وكتابة التقارير، وإيصال الاشتراكات، وجمع الأموال، بالإضافة إلى الجانب التوعوي والإرشاد.

كما يصور كتاب “المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية.. حقائق وشهادات” همجية الاستعمار الفرنسي في استعمال وسائل العنف الوحشية ضد المرأة الجزائرية، وفي لحظات تاريخية نادرة تعاظم فيها التعذيب السادي من طرف الجلادين وتسامى فيها حب الجزائـر، رسمت فيها المرأة الجزائرية رمز الإنسانية التوهّج والتمجيد والتحـدي، فمنحتها الثورة الجزائرية التحرر والمصير المشترك.

وهنا يمكن الحديث عن فئة أخرى كان لها دورٌ في مناهضة الظلم والطغيان وهي المرأة الفدائية، زارعة القنابل في المدن، هنّ مجموعة من النّساء الجزائريات الفدائيات، كلِّفن بأعمال تجاوزت طبيعتهن البيولوجية، كنّ يتميّزن عن غيرهن بالشّجاعة الفائقة، والصّبر الشديد، والجمال الساحر، كنّ يضعن القنابل في الأماكن التي يرتادها العدو كالمقاهي، ومراكز تجمُّعهم، وحسب الخطة المرسومة لهن، يجري كل ذلك في وضح النّهار بإرادة صلبة، وطول نفَس تمتلكه الشّابة الفدائية، وإيمانها القوي بالثّورة الجزائرية.

لقد استنفرت الإدارة الفرنسية كل جهودها للقضاء على هـذه الفئة من النّساء الفدائيات، وما إن يتمّ القبض على إحداهن حتّى تتعرض لكل أنواع التعذيب، وهتك العرض، والتمثيل بأجسادهن من أجل الحصول على معلومات منهن.

وبعد كل المحاولات في الإدانة، أو الاعتراف، والتي تبوء بالفشل يُحكم عليهن بالإعدام أو بالسجن المؤبد وخير دليل على ذلك ما تعرّضت له جميلات الجزائر (جميلة بوحيرد، جميلة بوعزة، جميلة بوباشة) في أثناء القبض عليهن ومحاكمتهن وقرار إعدامهــن من طرف المحاكم العسكرية الفرنسية. مثلا المجاهـــدة جميلــة بوحيرد تحوّلت إلى أسطورة تاريخية فكُتب عنها ما يقرب من 450 قصيدة (كتبها 171 شاعرا عربيا)، كتبها أشهر الشعراء في الوطن العربي مثل نزار قباني، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي، بدر شاكر السياب والجواهري وعشرات آخرين.

في هذا الكتاب “المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية.. حقائق وشهادات” حاولت قدر المستطاع رصد حياة أكبر عدد ممكن من المناضلات والمجاهدات اللوّاتي كانت لهن بصمات هامة في مسيرة المقاومة الجزائـــرية أمثال: فاطمة نسومر، وخلال ثورة التحريـــر الوطنية:حسيبة بن بوعلي، مليكة قايد، مريم بوعتورة، فضيلة ومريم سعدان، يمينة أوداي (لازليخة)، صليحة ولد قابلية، سامية لخضاري، جميلة بوحيرد، جميلة بوباشا، جميلة بوعزة، زهرة ظريف، لويزة اغيل احريز، وريدة مداد، صفية بلماضي، نادية صغير، حليمة بن مليك، فاطمة بوجريو، مليكة العمري، جميلة إبراهيم، فاطمة نعماوي، خيرة قرن، زهور زيراري، سليمة الحفاف زوجة بن يوسف بن خدة، باية الكحلة، مامية شنتوف، نفيسة حمود، جانين بلخوجة، زليخة بقدور، مريم بلميهوب زوجة زرداني، ليلى موساوي، نسيمة حبلال السكرتيرة الشخصية للبطل عبان رمضان، زهور ونيسي، فاطمة خليف، بايت مسعودة، أوزقان فطومة، عزة بوزكري، حميدي فاطمة المدعوة فاني، خديجة لصفـر خيار، بلغنبور فريدة… الخ، بالإضافة إلى دور المرأة في حياة الأمير عبد القادر، وما أدّته أمه لالّة الزهرة وزوجته خيرة في حياته الاجتماعية والسياسية من إبداء الرأي السديد والمشورة وتقديم النصح.

من جهة أخرى ضمّ كتاب “المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية.. حقائق وشهادات” التعريف بصديقات الجزائـر وذكر مواقفهن الباهـرة أمثال المناضلات: آني ستينـــر، جاكلين نيتر قروج، المجاهدة “ايليات لو” أو فاطمة الزهراء المرأة التي أسلمت من أجل الجزائر، ايفلين لافاليت، جاكلين أورانغو… وغيرهنّ.

بالإضافة إلى أقـــوال وشهادات لمجاهدات على قيد الحياة وكذا أشعار كُتبت في السجون مثل أشعار باية حسين، وزهور زراري، كذلك يتضمن الكتاب قوائم بأسماء فدائيات وبعض مناضلات المناطق، ورسائل شهداء كُتبت في السجون أمثال رسالة الشهـيـد زبـانـة إلى أمه، والرسالة التي كتبتها حسيبة بن بوعلي إلى والديها، ورسالة مريم سعدان إلى والدتها ورسالة بخط لالة زينب ابنة الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي، شيخ زاوية الهامل، ورسالة زيزة مسيكة إلى أهلها، وفي النهاية بيبليوغرافيـا الممرضات من (1954ـ 1962)، كذلك قوائم بأسماء المواطنات اللوّاتي تبرَّعن بمجوهراتهن مساندة للثورة (1957-1958) وفيدائيات من مختلف المناطق…

…”لم أشعر بالنفور والكراهية والاشمئزاز في حياتي كما شعرت بها هذه المرّة أمام أعمالنا الوحشية، إنّ الألمان يعتبرون أطفالا صغارا بالقياس إلينا؛ فقد شاهدت المكتب الثاني لجنود المظلات كيف يستجوب المعتقلين، إنهم يعذبونهم طوال النهار إلى أن يدلوا بمعلوماتـهم، ويستعملون معهم التّعذيب بالماء إلى أن يخرج الماء من جميع أنحاء الجسم، ثم يربط الجنود أيدي المساجين وراء ظهورهم ثم يعلّقونهم في الفضاء من أيديهم حتى تتمدد المفاصل ثم يوجعونهم ضربا، كما تُستعمل الكهرباء أيضا في تعذيب المساجين…”.

ومن خلال هذا الكتاب، بعث نضال المرأة الجزائرية المجيد إلى جيل الاستقلال وإلى تخليد مآثرها وتمجيد نضالها والاحتفاء بها، ومن جانب آخر يرمي إلى كشف النّقاب وإماطة اللثام عن الجرائم المرتكبة من قبل جيش الاستدمار الفرنسي في حقّ المرأة الجزائريّة وسائر أفراد المجتمع الجزائري.

وختاما، فإن الكتاب يلخِّص بالشهادات الحيّة، والوثائق نضال المرأة الجزائرية الرافضة للاستعمار الفرنسي، وهذا النضال الذي كان حافزا ورؤى متجددة في مسار الثورة الجزائرية ونموذجا للمجتمعات المتطلعة نحو المستقبـل.

وفي النهاية، لابد من القول إنني حينما كتبت قصص نضالهن تألمت كثيرا لواقع الحال، شيء فوق التصور تحملته المرأة الجزائرية من تعذيب سادي، هذا التعذيب ألهمها القوة والصبر والصمود أمام همجية ووحشية المستعمٍر الفرنسي الغاشم، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنسى المرأة الجزائرية عار فرنسا في الجزائر.

الأدب والحفاظ على الذاكرة

بقلم: د.سليم عبادو

يُراهن الاستعمار وخاصّة الاستيطاني منه على عامل الزمن ليتمكّن من محو الذاكرة الجماعية للشعوب، وطمس معالمها التّاريخية والحضارية وإفراغها من محتواها الذي يُميّزها عنه، لتذوب هذه الشّعوب في قيمه وأفكاره وحتّى تاريخه وهويته وتبتعد شيئا فشيئا عن خصوصياتها، فيضمن بذلك عدم مقاومة الأجيال اللاحقة للاحتلال بعد فقدها لتميّزها عنه.

ويلجأ الاستعمار عادة في ذلك إلى هدم وحتّى ملاحقة وتجريم أيّ منظومة تعليمية سابقة له، أو سلطة محلّية موثوقة بين الأهالي، أو وسيلة إعلامية تواصلية قد تُشوّش على ما يخدمه من أفكار مستوردة يُريد زرعها وإفشاءها في المجتمع الذي أصبح تحت سلطته العسكرية. وهذا ما حدث عندما دخل الاستعمار الفرنسي الاستيطاني إلى الجزائر سنة 1830 إذ عمد إلى تعطيل الكتاتيب ومنع النّاس من مواصلة التّعليم، ليُشيع الجهل في صفوف الشّعب الجزائري فيسهُل التّحكّم به، وتنطفئ بذلك جذوة المقاومة، إلى أن اهتدت جمعية العلماء المسلمين لفكرة تأسيس المدارس الحرّة ونفي وجود أيّ صلة بها، فكوّنت الجيل الأوّل الذي يحمل المبادىء العربية الإسلامية في تمايز عن المستعمِر الفرنسي مكّنه بعدها من تفجير ثورة التّحرير الوطني بعد صقل سياسي مهمّ استفاد منه هذا الجيل على أيدي روّاد حزب الشّعب الجزائري.

وقد أدّت الجرائد التي كانت تُصدرها جمعية العلماء المسلمين إبّان الفترة الاستعمارية ومنها: المنتقد، الشّهاب والبصائر.. دورا مهمّا في توعية الشّعب الجزائري بهويته وتاريخه وذاكرته الجماعية المنفصلة تماما عن المستعمِر رغم مرور نحو 100 سنة على الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، فكانت مقالات شيوخ الجمعية ومفكّريها الحامي الوحيد للذاكرة الجزائرية التي تعرّضت لشتّى أشكال الإقصاء والتّشويه حتّى بدأت تبرز تياراتٌ سياسية اندماجية تقبل وصف الجزائريين بـ”الفرنسيين”.

ومن هذه التجربة الجزائرية الحديثة، يُمكننا أن نستنتج الأثر الإيجابي الذي تضطلع به الكتابة عموما والأدب خصوصا في نشر الفكر التّحرّري والمستنير وفي تجذير ملامح الهوية الوطنية وقيم الشّعوب من خلال إبراز وتمجيد تاريخها المشترك وتنشيط ذاكرتها الجماعية، فالأدب بصفته إبداعا إنسانيا لا يُمكنه أن ينأى عن جذور هذا الإنسان وعمّا عايشه أسلافه وقرأه وتأثّر به، وفي الوقت ذاته أيضا يُعدّ الأدب والإبداع رصدا لكلّ صغيرة وكبيرة عايشها الكاتب، ومن ثمة توثيق لها ممّا يُساهم حتما في الحفاظ على ذاكرة الشّعوب.

يُمكن للأدب أن يُساهم بفعالية في إنعاش الذاكرة الجماعية وإحيائها وتوثيقها وترسيخها، ممّا يُساعد في تمتين الهوية والوحدة الوطنية، وجعلها تتمايز عن الهويات الأخرى المحيطة بها، المسالمة الصديقة أو العدائية الاحتلالية التي تُريد أن تطمسها وتحلّ محلّها، فيُعطي الأدب بذلك زخما لهذه الهوية الأصلية التي ترسم الذاكرة معالمها وملامحها الجميلة والعريقة، فيدفع الأدب بذلك في اتّجاه حبّ الانتماء إليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها، ممّا يُعطيها حصانة وقوّة ومُقاومة في وجه حملات التّشويه والمحو والإنقاص من قيمتها. وهذا ما يحصل في النّظام العالمي الجديد الذي اتّخذ من العولمة مِعولا له لهدم الخصوصيات الثّقافية واستقلالية وتميّز المجتمعات، من أجل أغراض استعمارية جديدة ثقافية واقتصادية وفكرية اهتزّت في وجهها الكثير من المجتمعات ذات الثّقافة والذاكرة الوطنية الهزيلتين أو غير المصانتين كفاية من طرف أصحابهما، فتحوّلت بسهولة إلى مجتمعات استهلاكية تابعة للغرب. ومن هنا يدخل أيضا توظيف الأدب في صلب المقاومة الثّقافية والهوياتية.

يتوجّب علينا أن نُعطي في الجزائر أهميّة أكثر لترجمة الأعمال الأدبية الهادفة التي تخدم ذاكرتنا الوطنية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية كي نملأ الفراغ الحاصل وندفع عن أنفسنا المخاطر التي تتهدّد هويتنا ووجودنا كشعب متلاحم تاريخا وحاضرا ومستقبلا.

ناهيك عن أنّ المشاريع الأيديولوجية الكبرى في العالم تستعمل التّاريخ أداةً في الصّراع المتواصل، ممّا يجعله مادةً تطبع الكثير من الكتابات الأدبية، على شكل أفكار ووجهات نظر وفلسفة حياة تسمح بمواجهة المشروع المعادي من أجل إضعاف حجّته وقوّته والنّيل منه. وما زاد من حدّة هذه الظاهرة هو أنّ العالم أصبح كلّ يوم يقترب سياسيا أكثر من اليمين مبتعدا عن اليسار، معطيا بذلك زخما غير مسبوق للأحزاب والأفكار السياسية المحافظة وحتّى اليمينية المتطرّفة، التي تستميت في النّضال لفرض منطقها وخارطة طريقها على الآخر المختلف عبر تزييف التّاريخ والذي لا يُمكن أن يتحقّق سوى بمحو ذاكرة الآخر، ممّا يُحتّم التّصدّي لها وللأدبيات التي تُروّج لها وتنشرها بالكتابة والتّنوير والتّمايز عنها.

صحيح أنّ للكتابة الأدبية بعدا إنسانيا عالميا عابرا للحدود، ولكنّ هذا لا يعني بأن نذوب في وسط الكمّ الهائل من الكتابات من كلّ الأقطار والأجناس، بل من الواجب علينا أن نحجز لأنفسنا موطئ قدم، لائق ومُشرّف للثّقافة وللخصوصية الجزائرية، الجديرة بذلك كتجربة إنسانية مُتفرّدة، وهوية أصيلة، ساهمت ولا تزال تُساهم في صنع ملاحم إنسانية ناصعة، نفتخر بها، وستفتخر بها الأجيال القادمة إذا ما حرصنا على حمايتها وتوثيقها أدبيا.

في الأخير وجب الإشارة إلى تراجع المقروئية في العالم مع اختلافٍ طبعا من دولة إلى أخرى، ممّا جعل دور الأدب المكتوب يتراجع أيضا، إذ لم يصبح له التّأثير الكافي الذي كان يتمتّع به قبل ولوج العالم الثّورة التكنولوجية، التي أعطت الصورة سلطة تكاد تكون كاملة على الأفراد المتلقّين، فانفردت بإعادة صياغة الأحداث والتّاريخ وخدمت الجهات التي تتحكّم بها جيّدا على حساب جهات أخرى لا تزال لم تُدرك خطورة الأمر عليها وعلى ذاكرتها الجماعية ووحدتها الوطنية. ومن هنا يتوجّب علينا أن نُعطي في الجزائر أهميّة أكثر لترجمة الأعمال الأدبية الهادفة التي تخدم ذاكرتنا الوطنية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية كي نملأ الفراغ الحاصل وندفع عن أنفسنا المخاطر التي تتهدّد هويتنا ووجودنا كشعب متلاحم تاريخا وحاضرا ومستقبلا.

جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر من منظور القانون الدولي الإنساني
بقلم: د. عمر سعد الله

شهدت الجزائر العاصمة وضواحيها في اليوم الأول للغزو الفرنسي، سقوط كثير من القتلى والجرحى والقصف المدفعي والهجمات، والعنف والدمار لحق كثيرا من الأشخاص والأعيان المدنية، واجرى خلالها الاعتقالات، وأسر لأفراد الجيش وأعمال إرهابية ضد الناس العاديين ممن كانوا يؤدون عملهم اليومي، و ولحقت نفس المعاناة شخصيات فاعلة على الساحة المحلية أو الدولية، وموظفي الحكومة، وزعماء المعارضة والعسكريين ورجال الشرطة، مما كان له عواقب وخيمة، بوجه خاص على الوضع القانوني للدولة الجزائرية وعلى حياة السكان المدنيين. وهو ما يجعلنا أمام سؤال محيّر، هل كانت هناك شرعية للجرائم المرتكبة، أو القدرة عن الدفاع عنها قانونا؟

ومن الناحية الأخرى، يوجد التزام قانوني ملفوظ بوضوح بشأن المقاضاة على الجرائم التي تتسم بملامح الغزو والاحتلال كرّستها محكمة نورمبرغ سنة 1945. ومن ناحية أخرى فإنه لا جدال في تطبيق القانون الدولي الإنساني العرفي والتعاهدي حول الالتزام بحظر استعمال العنف ضد الأفراد وتدمير الممتلكات، ولذلك يظل من العسير الدفاع عن ترويع المواطنين وإجبار الحكومات على القيام أو الامتناع عن القيام بعمل ما، وجعل السكان هدفا للعنف العشوائي.

يدرس هذا المقال جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر على ضوء الحماية القانونية المكفولة للدول والأشخاص والأعيان المدنية بالقانون الدولي الإنساني العرفي والتعاهدي، وكذلك مدى اعتبار الممارسات الفعلية انتهاكات جسيمة (جرائم)؟

ثانيا – الالتزام بالقواعد المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة

ينبغي أن نتذكر بأن القانون الدولي الإنساني تناول جرائم الاستعمار الفرنسي[1] بوصفها انتهاكات جسيمة، أي الجرائم تمارس ضد الشعب الجزائري طيلة فترة الاحتلال، فقد أقرت جملة من النصوص ما هي الأفعال التي تعد بمثابة جريمة والتي تعبر الأجزاء الرئيسية منها عن قواعد القانون العرفي. وما قد يبدو جرائم في هذا السياق ما تقرر في المادة (50) من اتفاقية جنيف الأولى والمادة (51) من اتفاقية جنيف الثانية، والمادة (130) من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة (147) من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة (85/1) من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقية جنيف[2].

وتوضح هذه المواد الأفعال التي تعد جرائم دولية، إذا ما اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية مثل القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، وتدمير الأعيان المدنية أو الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية في ظروف الحرب والاحتلال.

وقد يقول قائل بأن جرائم الاستعمار الفرنسي لم تكن مدرجة في اتفاقيات سارية إلا اعتبارا من عام 1949، ولكن الاعتقاد الراسخ أنها كانت معروفة جيدا في الأوساط القانونية ولأنها تمثل بعض أكثر الإساءات الممكنة ضد الشخص بشاعة وضد الأعيان المدنية، فضلا عن كونها جزءا من القانون العرفي.

ولم يكن الادعاء بعدم معرفة الجرائم في عهد الاحتلال ذا قيمة قانونية، بعد أن تعززت الادعاءات بحدوث انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني[3]، بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية. ومنذ القديم كانت الجرائم التي تحدث في حالات الاحتلال، بمثابة مخالفة للقيم والمبادئ الأساسية التي يتفق عليها المجتمع الدولي بأسره. ومن ثم كانت هناك معايير للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.

لفهم المقصود من ذلك من الناحية العملية أن جرائم الاستعمار كان لها إطار عرفي قبل أن تدرج في الصكوك الدولية، ولذلك لم تعد موضع جدل بين رجال القانون، ويبدو أن الأمر قد حسم بعد الاعتراف صراحة في نص المادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول بأن الأفعال التي يمكن أن تكيّف بأنها انتهاكات جسيمة تعتبر بمثابة جرائم حرب[4].

وينصح من أجل فهم جرائم الاستعمار تناول المعاهدات الراسخة للقانون الدولي الإنساني، التي نظمت الأفعال المجرمة، فأصبح مفهوم هذه الجرائم يشمل جعل السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين هدفا للهجوم، وشن هجوم عشوائي يصيب السكان المدنيين أو الأعيان المدنية عن معرفة بأن مثل هذا الهجوم يسبب خسائر بالغة في الأرواح، أو إصابات بالأشخاص المدنيين أو أضرارا للأعيان المدنية.

وينشأ تساؤل عما إذا كان من الممكن تطبيق هذه الجرائم على حالات الاحتلال؟ ويبدو الرد بالإيجاب ليس بعيد المنال، فوفقا لعبارة (قمع الانتهاكات) سيفتح المجال لإدراج الانتهاكات التالية ضمن الجرائم: اتخاذ المواقع المجردة من وسائل الدفاع، أو المناطق المنزوعة السلاح هدفا للهجوم، واتخاذ شخص ما هدفا للهجوم، عن معرفة بأنه عاجز عن القتال. وقيام دولة الاحتلال بنقل بعض سكانها المدنيين إلي الأراضي التي تحتلها أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكان الأراضي المحتلة داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها. وكل تأخير لا مبرر له في إعادة أسري الحرب أو المدنيين إلي أوطانهم، وممارسة التفرقة العنصرية (الابارتهيد) وغيرها من الأساليب المبنية علي التمييز العنصري والمنافية للإنسانية والمهينة. والتي من شأنها النيل من الكرامة الشخصية، وشن الهجمات علي الآثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي يمكن التعرف عليها بوضوح، والتي تمثل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب، وتوفرت لها حماية خاصة بمقتضى ترتيبات معينة. وحرمان شخص من حقه في محاكمة عادلة طبقا للأصول المرعية.

وأخيرا، فقد بلغ القانون الدولي الإنساني مرحلة تتفق فيها معظم الدول على أن جرائم الاستعمار تتمثل في كل سلوك محظور يقع تحت طائلة الجزاء ، وبالتالي لا تختلف عن الانتهاكات الجسيمة لهذا القانون، فهي من الأمور التي تتحدد من خلال الخروق الخطيرة لقواعد هذا القانون التي ترتكبها دولة الاحتلال ضد الأشخاص والأعيان المدنية، ويستفيد ضحايا هذه الانتهاكات بالتأكيد من الالتزامات الناشئة من القانون الدولي الإنساني، وكثير من تلك الالتزامات مصاغة بوصفها التزامات بين الدول.

ثالثا – أنماط الجرائم التي تم اعتمادها

مارس الاستعمار الفرنسي أنماطا من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ضد الجزائريين وهو المفهوم الذي اعتمدته معاهدات عديدة سبق أن المحنا لها في هذه الدراسة، كانت حصيلتها أكثر من خمسة ملايين قتيل طيلة قرن وربع، حسب الرئيس الجزائري[5]. ولكون النصوص الحديثة، ومنها المادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية[6]، تتناول تلك الانتهاكات في أنواع من الجرائم، يبدو مبررا تحديدها في الجرائم التالية:

1 – جرائم الإبادة الجماعية (Genos):

تأتي جريمة الإبادة الجماعية بخصوص السكان الجزائريين في اعتراف اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها عام 1948، من زاوية القانون الدولي الإنساني[7]، وقد كرستها فرنسا من خلال عمليات الإعدام غير القانوني والتعسفي والعاجل الذي لا ينتظر أحكاما قضائية، وظهرت في هذا السياق ضمن أعمال العنف والإخلاء غير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأراضي المحتلة، وتطبيق سياسة التجويع.

ولم يمض وقت طويل على الغزو حتى بدأت فرنسا في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، نذكر منها بعض الحالات التي تكررت في كثير من المؤلفات في ذلك المجال، وتأكد فيها القصد الجنائي “النية” على ارتكاب جريمة الإبادة بالقضاء كليا على السكان الجزائريين، مثلا المذابح الرهيبة التالية: مجزرة مدينة “البليدة في 26 نوفمبر من عام 1830، التي لعب فيها قائد الحامية الفرنسية ” الضابط “ترولير Trolere ” دورا رئيسيا في عمليات قتل سكان المدينة البالغ عددهم قرابة الألفين مواطن، وحول المدينة إلى مقبرة في بضع ساعات، بعد أن كانت تنبض بالحياة.

والجريمة الأخرى من ابداع الرائد “دي مونتانياك” بنواحي سكيكدة عام1843 ، وتعد تصريحاته بمثابة توثيق يستهدف إبادة جماعية للجزائريين، فقد اعترف بأن العرب يجب أن يقتلوا، ويجب أن يقطع رأس كل من يرفض الزحف كالكلاب عند أرجل الفرنسيين. وأن العرب ما فوق الخمس عشرة سنة، يجب أن يعدموا أفضل من إيداعهم السجن، بغض النظر عن عرقهم وجنسهم .

والمثال الأخير عن الإبادة مجازر 8 مايو/أيار 1945، راح ضحيتها أكثر من 45,000 من المدنيين في كل من سطيف وقالمة وخراطة[8]. وعلى جانب آخر تورطت فيها الشرطة الفرنسية والقوات البرية والجوية والبحرية، وهو ما أدى إلى تدمير قرى ومداشر ودواوير بأكملها بسبب أعمال القتل.

ويمكن القول أن سلطات الاحتلال الفرنسي قد فشلت في تنفيذ التزاماتها بموجب المواد 1، 3، 4، 5، 6 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي تنص في مجملها على وقف التآمر، أو التحريض، أو التواطؤ، أو عدم المعاقبة على أفعال الإبادة الواقعة في المادة 2 منها والتي تصب جميعا في منع الإبادة الجماعية في الأراضي المحتلة. ويبدو أن فرنسا قد توسعت في ارتكاب جريمة الإبادة ضد الجزائريين لسببين: الأول الرهان على عدم صدور عقوبات عليها. والثاني، ضعف الاتفاقية، حيث أن أقصى ما في المادة الثالثة من نصوصها تُحيل المتهم إلى محاكم الدولة التي ثبت ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضدها، أو إلى محكمة أخرى يتفق عليها الطرفان المتخاصمان، وبذلك سيكون قرارها هو أقرب للرأي الاستشاري منه إلى قرار حكم.

2 – جرائم الحرب Crimes War

ينبغي أن تفهم جرائم الحرب بأنها مخالفات لقوانين والحرب وأعرافها المنطبقة في النزاعات المسلحة، سواء كانت صادرة عن المتحاربين أو غيرهم، قصد إنهـاء العلاقـات الودية بين الدول المتحاربة[9]. وتقع هذه الجرائم في نطاق الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، التي تشمل ارتكاب السلطات الفرنسية أفعالا ضد السكان الجزائريين والأعيان المدنية المحميين، مثل أعمال القتل العمد؛ والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، تعمد إحداث معاناة شديدة وإلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة؛ وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة؛ فضلا عن إرغام أسرى الحرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قواتها المسلحة؛ وتعمد حرمان الشخص من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية؛ الإبعاد أو النقل غير المشروعين والحبس غير المشروع؛ وأخذ رهائن.

ولا يتسع المقام لسرد كافة جرائم الحرب المرتكبة أثناء الاحتلال[10]، ولكن نذكر بأنها كانت جزءا من سياسة السلطات الفرنسية المدنية والعسكرية، وهو ما عبّر عنها بعض العسكريين الفرنسيين، ففي تعليق مستفز من حاكم سطيف الجنرال (لويري داربوفيل Loyré d’Arbouville) لـ (الكولونيل بيليسييه) فحواه “كل مسؤولياتك العسكرية التي أديتها في مغارات أولاد رياح تزيدك شرفا، وإني شخصيا لأباركها جملة وتفصيلا، ولا طالما خجلت من نفسي لأن الحظ لم يحالفني مثلك في هذه المهام”، يأتي ذلك بمناسبة تنفيذ (الكولونيل بيليسييه) للمحرقة وعلق عليه قائده (بيجو) “إذا انسحب هؤلاء الأوغاد إلى كهوفهم دخنوا المداخل، عاملوهم كالثعالب .[11]“

نخلص إلى أن جرائم الحرب، هي نتاج الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، وقد تضمنت فترة الاحتلال قدرا كبيرا منها الأمر الذي تركت آثار مدمرة على السكان والأعيان المدنية. فكم من الهجمات كانت ضد السكان المدنيين وضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية؛ ومن تعمد توجيه هجمات ضد مواقع لا تشكل هدفا عسكريا؛ وشن هجمات ضد موظفين حكوميين ومنشآت مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية (الوقف)، وتعمد إلحاق ضرر واسع النطاق وطويل الأجل؛ وقصف للمدن والقرى والمساكن التي لم تكن أهدافا عسكرية، وقتل وجرح مقاتل استسلم مختارا، بعد القاء سلاحه ولم تعد لديه وسيلة للدفاع.

3 – الجرائم ضد الإنسانية

هناك في الوقت الحالي معاهدات عامية تحظر الجرائم ضد الإنسانية، ودخلت مجال القضاء الدولي من خلال المادة السادسة الفقرة (ج) من نظام المحكمة العسكرية في نورمبرغ[12]، تناولت أفعـالا محددة من هذه الجرائم، ومن أهمها “القتل العمد، الإبادة، الاسـترقاق، الإبعـاد، والأفعـال اللاإنـسانية الأخرى المرتكبة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين قبل الحرب أو أثنائها، أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية تنفيذاً لأيٍ من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمـة أو ارتباطها بهذه الجرائم سواء كانت تشكل انتهاكاً للقانون الوطني للدولة التي ارتكبـت فيهـا أم لا تشكل ذلك”، وبموجب بعض الشروط المحددة نصا تمنح صفة الجريمة على الإبعاد وغيرها من الأفعال غير الإنسانية المرتكبة ضد أي تجمع مدني قبل أو أثناء الحرب أو عنصري تنفيذا لأي جريمة.

ورغم أن القانون الدولي الإنساني لا يسمح باستعمال أي نمط من أنماط العنف ضد السكان المدنيين والممتلكات أثناء الاحتلال، فإن السلطات الفرنسية بالجزائر دأبت على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية من قبيل القتل، والإبادة، والاسترقاق، والاستعباد، والتصرفات اللاإنسانية الأخرى التي يتمّ ارتكابها ضدّ السكان المدنيين، والاضطهاد على أسس سياسية أو عرقية أو دينية. غير أن السلطات الفرنسية ارتكبت العديد منها كسياسة ممنهجة وواسعة النطاق بحق الشعب الجزائري، مثل الإبادة؛ والقتل العمد؛ والاسترقاق؛ والتعذيب؛ والاختفاء القسري للأشخاص.

ومن أدلة الممارسة الفعلية التهجير القسري لآلاف من رجال المقاومة الجزائرية إلى كاليدونيا بقارة أوقيانوسيا أو استراليا حاليا، منذ بداية الغزو عام 1830. وإذ لا تزعم هذه الدراسة تقديم مسح تاريخي كامل للممارسات الإجرامية المتبعة في هذا الشأن، فإن المادة 49 من اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 تحظر على فرنسا النقل الجبري الجماعي أو الفردي للجزائريين المحميين أو نفيهم من أراضيهم المحتلة إلي أراضي دولة الاحتلال أو إلي أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيا كانت دواعيه. ومن المدهش أن ركن الجريمة من هذه المادة يستمد من الوفاة أو الإصابة التي تلحق المرحلين والإصابات البدنية الخطيرة. ويتضح من العملية أنهم رحلوا مكبلين بسلاسل ومن توفي منهم خلال الرحلة القي بجثته في البحر[13].

الخاتمة:

اختار الاستعمار الفرنسي هذه الجرائم كمنهج لسياسته للحيلولة دون الثورات والمقاومات لدفاع الجزائريين عن أرضهم ووطنهم، ولم يمارس القانون الدولي الإنساني تأثيره في سياق الحرب الدائرة، رغم أنه يعترف باقتصار استعمال القوة واقتراف أفعال العنف على القوات المسلحة دون غيرهم التابعة لأطراف النزاع. ومن ناحية أخرى إذا كانت الانتهاكات الجسيمة بمثابة جرائم حرب فإن الهدف منها هو توفير الحماية للسكان والمقاتلين الذين لم يعودوا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.

ونكاد نجزم بأن السلطات الفرنسية مارست الجريمة الإرهابية، لأنها استعملت العنف وهددت به المدنيين الجزائريين، وضد حياتهم وممتلكاتهم ورفهيتهم، وتجاوز جيشها بأفعاله المعايير التي تقررها القوانين الدولية دون تمييز.

ولم تتردد فرنسا في ارتكاب جريمة العدوان التي توصل المجتمع الدولي إلى تعريفها مؤخرا، لأن قواتها المسلحة قامت بغزو إقليم دولة أخرى ومهاجمته، ثم احتلاله عسكريا، واستعمال القوة العسكرية ضد سيادة دولة الجزائر وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي.

وأجيرا، فالمكان مناسب جدا لطرح فكرة خلق رأي عام وطني ودولي لملاحقة الاستعمار الفرنسي، بناء على الانتهاكات الجسيمة التي أشرنا إليها، باعتبار الدولة الفرنسية لم تكن المستفيدة الأساسية من الالتزامات التي تعرضها القواعد العرفية والتعاهدية الأساسية المنطبقة، بل يستفيد منها أيضا ضحايا الاحتلال من الالتزامات الناشئة من القانون الدولي الإنساني. وننبه إلى نتيجة مفيدة، وهي ضرورة أخذ الجزائر بالقاعدة القائلة بأن الالتزام بالتعويض المالي عن الانتهاكات التي يرسيها القانون الدولي الإنساني يعتبر التزاما بدفع تعويض إلى الدولة المتضررة، أي الدولة التي ينتمي إليها الأشخاص المتضررون والذين يتوجهون إليها بدعواهم. ويمكن الشروع اليوم في حل مختلف مشكلات الاستعمار على هذا الأساس مثل مسألة النفي القسري للجزائريين بوصفها أحد جرائم القوات الفرنسية ما بين 1864 و1897، بما سبّبته من ترحيل لأكثر من 2100 جزائري اخرجوا من بلدهم جميعا إلى مستعمرة العقاب كاليدونيا الواقعة في المحيط الهادئ.

[1] اعترف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يوم 19/12/2012 أمام البرلمان الجزائري بغرفتيه: “خلال 132 سنة خضعت الجزائر لنظام ظالم ووحشي اسمه الاستعمار”. وذكر على سبيل المثال المجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في 8 مايو/أيار1945 في سطيف وقالمة وخراطة، في وقت كانت فرنسا وحلفاؤها يحتفلون في انتصارهم على النازية.

[2] اتفاقيات جنيف الأربع المبرمة في 12 أغسطس/آب عام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لها لعام 1977.

[3] تعني أيضا الإجرام الدولي أو الجريمة العابرة للحدود أو تلك الجرائم التي تمتد تأثيراتها أو من المحتمل أن تمتد عبر الحدود بين الدول.

[4] انظر الفقرة (5)، تعد الانتهاكات الجسيمة للاتفاقیات ولهذا اللحق “البروتوكول” بمثابة جرائم حرب”.

[5] تحتفظ فرنسا بـ 18 ألف جمجمة في متحف “الإنسان”، منها 500 فقط تم التعرف على هويات أصحابها، وفق وسائل إعلام فرنسي.

[6] تعتبر المحكمة الجنائية الدولية وسيلة مفيدة لتحديد وجود قاعدة قانونية ومعناها ونطاقها.

[7] اعترفت فرنسا بهذه الاتفاقية وتعهدت بموجبها بمنعها والمعاقبة عليها، وبخاصة على الأفعال التالية: (أ) الإبادة الجماعية، (ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، (ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، (د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، (هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.

[8] صرح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أمام البرلمان الجزائري بغرفتيه في 19/12/2012 أنه يعترف بـ”المعاناة” التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للشعب الجزائري، ذاكرا أن أحداث “سطيف وقالمة وخراطة ستبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين وضميرهم”.

[9] يعرفهـا بعـض الفقهـاء بأنهـا 24 “ارتكاب عمدي لتصرف يعرف بأنه خرق جسيم طبقا لاتفاقـات جنيـف الأولى والثانية والثالثة والرابعة والبروتوكول الأول، حيث يـؤدي ذلـك التصرف إلى وفاة أو ألم أو ضرر فادح يصيب إي إنسان أو سـجين أو مدني يحميه القانون”.

[10] نذكر مثلا مجرة الظهرة أحصى الفرنسيون 760 جثة فيما كانت الجثت المحروقة والملتصقة كليا تزيد عن 1000 جثة.

ومجزرة الصبيح حوالي 1500شهيد. ومجزرة الأغواط حوالي 2500 شهيدا من أصل 3500 ساكن. انظر الرابط الالكتروني:

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%85_%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1

[11] المرجع السابق.

[12] تشكلت محكمة نورمبرغ من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لمحاكمة كبار مجرمي الحرب الألمان بموجب اتفاق لندن في 1945بين ممثلي الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي سابقا وبريطانيا، ثم انضمت إليها تسع عشرة دولة حليفة، أنظر محمد محي الدين عوض، دراسات في القانون الدولي الجنائي، جامعة القاهرة، دون تاريخ، هامش، ص 231.

[13] نوميا (بالفرنسية: Nouméa)‏ عاصمة كاليدونيا الجديدة التابعة لفرنسا، تقع جنوبي الجزيرة الرئيسية. عدد سكانها 91,386 نسمة (إحصاء 2004) وسكانها خليط من الأعراق من أوروبيين، سكان محليين، إندونيسيين، وفيتناميين.

جرائم فرنسية في الجزائر بأعين.. فرنسية!
بقلم: الأزهر بوغمبوز

إحدى أهم العقبات التي تحول دون إيجاد أرضية تُرضي الجزائر وفرنسا في مجال كتابة تاريخ الحقبة الاستعمارية هي إلحاح الجزائر على استعادة أرشيفها العثماني المحول إلى فرنسا وما تعلق منه بتلك الحقبة، مما يقابله شبه رفض فرنسي كلي منذ استقلال البلاد. ولا يجب أن يكون المرء متخرجا من كبريات كليات التاريخ ليكتشف أن هناك عديد الأسباب التي تكمن وراء ذلك ومنها أن 62 سنة لم تكفِ فرنسا لتطهير أرشيفها من شوائب في منتهى الخطورة تخللته طيلة 132 سنة وهو ما حال دون تمكن مؤرخي الضفتين من الاطلاع على مراجع من شأنها إماطة اللثام عن فضائح وجرائم ضد الإنسانية ما كانت ستخرج للعيان لو بقيت الجزائر تحت نير الاستعمار.

محارق الغرب الجزائري على سبيل المثال لا الحصر التي أبادت قبائل برمتها، ما كانت تُعرف لولا تسريبات صِحافية وشهادات من شاركوا فيها، وإبادة سكان واحة الزعاطشة وبطولات أهلها ومن هبّ لمساعدتهم ما كان أن تصل إلى الرأي العام الفرنسي لولا، أوّلا بطولة الشيخ بوزيان ورفاقه الميامين التي اخترقت الآفاق بعد صمود استغرق أكثر من 4 أشهر في وجه جنرالات الاستعمار الذين أبادوا مجمل سكانها وسووها بالتراب. يقول قائد الحملة ساخرا إنه بـ”استثناء كفيف وبعض النسوة لم ينجُ أحد”.

ولتفادي الحصار الطويل لواحة الأغواط، كما كان الشأن في الزعاطشة، وبعد أن حاولت القوات الغازية احتلالها عنوة وامتنعت عنهم لموقعها الاستراتيجي وشجاعة أهلها واستعدادهم للتضحية، قرر القادة على مستوى مركزي اللجوء إلى السلاح الكيميائي الذي استعمل لأول مرة في التاريخ، وهو ما نكتشف تلميحات باستعماله في التقارير العسكرية المرفوعة لسلطات مدينة الجزائر. إلا أن الرسام الفرنسيE. Formentin الذي زار الواحة صيف 1853 برفقة ضابط، يشير الى استعمال الغاز السامّ بشكل غير مباشر: “… هيا بنا الآن، يقول لي الملازم وهو يجرني إلى الشارع الذي يلي الباب الغربي. يستحسن التأكد شخصيا، من ذلك وعلى على الفور. نتبع تقريبا الطريق الذي رسمه رصاص وحراب بنادق جنودنا. يشهد كل منزل على صراع مرير. الوضع هنا أسوأ مما هو في الباب الشرقي. نحس أن التيار دخل من هذه الجهة وانتقل، بعد ذلك، إلى هناك”، أما عن نتائج الهجوم فيقول: “لم يُشرَع في دفن الموتى إلا بعد يومين؛ أتعرف كيف جرى ذلك؟ استعملوا حبال ربط الأعلاف واقتياد الجياد. كان لا بد من التخلص، مهما كان الثمن، من الجثث؛ كدِّس بعضُها فوق بعض وفق الاستطاعة ورُميت حيث أمكن وخاصة في الآبار. تلقى أحدها بمفرده، مررت بجانبه 256 جثة من دون احتساب الحيوانات وأشياء أخرى. يقال إن رائحة الموت بقيت متفشِّية في المدينة مدة طويلة، ولا أعتقد أنها قد اختفت تماما”.

وللوقوف على بعض تلك الجرائم الشنيعة، ليس هناك أفضل من إعطاء الكلمة بغثّها وسمينها لبعض غلاة الاستعمار والعنصرية. ويوجد من بين من دوّنوا بعض أحداث تلك المرحلة، وهي شخصيات حاولت الحفاظ على نوع من الإنسانية والاحترام للأشكال والعادات والتقاليد وهناك من أبدى نوعا من التأسف ليس على الأفعال بل فقط على الطريقة التي ارتكبت بها، فما أن استتب لهم الأمر في مدينة الجزائر ووهران حتى شرع غلاة الاستعمار في هدم المؤسسات الخيرية والهياكل والجوامع والقصور وحتى… المقابر! فها هو الضابط المؤرخ Pellissier de Renaud الذي رافق الحملة يقول: “أدت أشغال شق طريق قلعة الإمبراطور وبناء ساحة خارج أسوار باب الوادي إلى تدمير مقبرتين إسلاميتين، إذ تعذّر تفادي ذلك ومن غير الممكن أن يؤدي احترام الموتى إلى إعاقة حرية تنقُّل الأحياء. كان يفترض أن نتعامل بطريقة أقل عنفا مما فعلنا ونتجنب الوقوع في فضيحة شعب متحضِّر ينتهك حرمة وقداسة القبور. كان من المفترض العمل بنظام واحترام ونقل عظامها إلى مكان مقبول عوض تركها مبعثرة هنا وهناك إلى حد أن بعض المتميّزين بالفظاظة من الرجال كانوا يلعبون بكل وقاحة برؤوس الموتى. وخلال عمليات الحفر وإذا ما قطع خط المهندس القبر قسمين، فالفأس تقسم القبر والهيكل العظمي قسمين الأول للطريق والثاني يظل مفتوحا باديا للعيان (…). فهذه القبور المفتوحة أفواه تديننا صادرة عن الموتى لتنضم إلى أحياء نهدم في الآن ذاته سكناتهم، مما جعل حمدان [خوجة، صاحب “المرآة”] يقول بقوة وبشكل جد معبِّر إن الفرنسيين لا يتركون لبني وطني مكانا ليعيشوا فيه أو يُدفنوا فيه” (حوليات الجزائر، ج.2 ص 7).

وما لا يريد ربما قوله هذا الضابط هو أن تلك العظام كانت تُشحن على متن بواخر متوجهة لمرسيليا لتسلم لمصانع تستعملها للحصول على الفحم الحيواني أو الأسود العاجي الضروري لصناعة السكر. يقول الطبيب Ségaud لجريدة المنارة أن “بعض العظام المنبوشة لم يتحلل لحمها بعد”.

وأورد O.L. Grandmaison شهادة أخرى لنفس الطبيب جاء فيها “رأيت جماجم وزنودا وعظام الأفخاذ لفئة الراشدين نُبشت حديثا ولم يتحلل لحمها نهائيا. يجب ألا نقبل أشياء من هذا القبيل.”

ما انفكّ الفرنسيون يصفون سكان الجزائر بالأمية والجهل، إلا أن بعض شهادات ضباطهم تكذب ذلك، فـالمؤرخ M. Émerit يقول “كل الأطفال من 3 إلى 10 سنوات متمدرسون… توجد في الدواوير، مهما كان حجمها، خيمة مخصصة للدراسة يتولى التدريس فيها “مؤدب” يختاره كبير الدوار أو مؤسسة “الجماعة”. أما في المدن فعدد المدارس الابتدائية كبير وتوجد في البنايات التابعة لأملاك الوقف والحبس”.

إلا أن الأوضاع تغيرت بعد نصف قرن فقط من الاحتلال إذ يشير H.Desvages إلى أنه “وفي وقت شرعت فيه الجمهورية الثالثة سنة 1881/82 بتطبيق سياسة التربية العمومية، كان عدد المسلمين الملتحقين بالمدارس الفرنسية شبه منعدم: 3.000 متمدرس بين الذكور والإناث في المدارس الفرنسية بكل أنواعها”. ونشير إلى أن بعض المؤرخين اتّسموا بالموضوعية في معالجة العديد من جوانب الحقبة الاستعمارية.

يبدو جليًّا أن بعض الضباط كانوا يؤدون واجبهم ولو عن مضض مثل le Comte d’Hérisson الذي نستنتج من كتاباته عكس آخرين مثل كافينياك وبيجو وغيرهما مواقف أكثر موضوعية “صحيح أننا عدنا ببرميل من الآذان جمعناها زوجين زوجين من سجنائنا الأصدقاء منهم أو الأعداء.. أعمال وحشية لا يمكن تصورها، أوامر بالقتل ببرودة دم تامة بطلقات نارية أو بالسيوف في حق بعض البؤساء ذنبهم الوحيد أنهم دلّونا على مخازن حبوب.. فارغة.. حَرقنا القرى التي صادفناها في طريقنا وفرّ منها أهلها ودمرناها، قطعنا نخيلهم وأشجار مشمشهم، لأن مالكيها لم تكن لهم القوة الكافية لمقاومة أمرائهم وغلق ممر مفتوح أمام الجميع لدى هذه القبائل المتنقلة. كل هذه الأعمال البربرية ارتكبت دون إطلاق رصاصة واحدة، لأن السكان كانوا يفرون أمامنا بقطعانهم ونسائهم تاركين قراهم خلفهم” (la chasse à l’homme, guerre d’Algérie، ص 133 سنة 1891، Gallica bnf.fr

إذا كانت تلك بعض مواقف وآراء العسكريين، فلا بأس من الوقوف قليلا عند مواقف رجال الفكر والأدب والفن اتجاه العملية الاستعمارية إذ أن قسما منه نصّب نفسه واعظا ناصحا داعيا إلى النتيجة ذاتها ولكن بإضفاء نوع من الليونة أو القسوة التي يتطلبها الحال والبعض الآخر شاطر العملية ونصح بالمزيد من العنف والبطش.

فأليكسي دي طوكفيل المفكر والسياسي الفرنسي المدافع عن الديمقراطية وفق الطريقة الأمريكية التي زارها في مهمة استكشافية راقت له طريقة أهل البلاد في إبادة الساكنة الأصلية واستعباد السود، ما انفكّ ينصح بيجو ونواب البرلمان بانتهاج نفس الطريقة مع توجيه اللوم للذين “ينظرون بعين الريبة إلى حرق المحاصيل وتبديد المخازن واعتقال رجال غير مسلحين ونساء وأطفال. إلا أن أعمالا كتلك تندرج -بالرغم من طابعها المؤسف- في إطار ضرورات يجب أن يلجأ إليها أي شعب يريد محاربة العرب”.

إذا كان هذا يندرج في إطار تبرير مثل هذه الأعمال، فإنه يتحول إلى مستشار عسكري يوجه القيادة إلى ما يراه صالحا والى كيفية التعامل مع الأحداث إذ يعلن أنه زيادة على منعهم من ممارسة التجارة لا بد من تخريب بلادهم عن طريق إتلاف المحاصيل بمضاعفة الغارات الفجائية واعتقال الرجال والاستحواذ على ماشيتهم. ويبدو أن ذلك لم يقنعه إذ يتحول إلى قائد أركان قائلا “يبدو لي أن العمليات الكبرى ولو عرضيا ضرورية لأنها من جهة تبيّن للعرب على وجه الدوام ولجنودنا أنه لا عائق يقف أمامنا في البلاد، ومن جهة أخرى، تسمح بتدمير كل ما يشبه تجمعا قارّا للسكان أو بعبارة أخرى كل مدينة. يبدو لي من الأهمية القصوى عدم الإبقاء على أي مدينة قائمة أو السماح ببناء أخريات في البلاد الواقعة تحت سلطة عبد القادر”.

وتعبيرا منه عن رضاه الكامل عن قائد الجوق بيجو، فيكيل له المديح والشكر عن تأسيسه لعلم عسكري عمّمه حتى صار في متناول الجميع “لم تبّين لنا التجربة المسرح الطبيعي للحرب فحسب بل علمتنا كيفية القيام بها. علمتنا نقاط قوة خصومنا ونقاط ضعفهم. كشفت لنا وسائل وسبل الفوز عليهم. يمكننا الجزم اليوم أن حرب إفريقيا [الجزائر] عِلمٌ يعرف الجميع قواعده ويكاد أي كان أن يطبّقه من دون الوقوع في أي خطأ. إن أكبر خدمة قدمها السيد الماريشال “بيجو” لبلده هي أنه وسّع وطوّر وجعل هذا العلم الجديد في متناول الجميع” (مقتطف من كتاب أليكسي طوكفيل “عن مستعمرة الجزائر”).

أما ألفونس دي لامارتين، أحد أشهر شخصيات القرن التاسع عشر، فإنه وافق على احتلال الجزائر منذ البداية، إلا أنه عبّر خاصة في خطاب ألقاه أمام المجلس الوطني سنة 1846 عن وجوب التحلي بنوع من الليونة أعابها عليه منتقدوه الذين يذكّرهم بمواقفه المبدئية منذ 1830. يعدّ من بين القلائل الذين أدانوا محارق الظهرة مع تنويهه بالمارشال بيجو في نفس الوقت.

فيكتور هيغو أحد أبرز كتاب فرنسا وشعرائها ومؤلف “البؤساء” الذي لا نكاد نجد شيئا مما ورد في هذه الرواية في مواقف اتجاه ما كان يعيشه الشعب الجزائري من ضيم وظلم وجبروت. يبقى أنه أشار إلى بعض الانتهاكات في كتاباته وشعره، من دون أن يدين الاستعمار بأي شكل من الأشكال “يجب أن يكون الاستعمار العسكري جدارا واقيا للاستعمار المدني شبيها بالأسوار التي تحمي المدينة؛ فالاستعمار العسكري سورٌ حي، وهل هناك عائق منيع أفضل من معسكر عسكري فرنسي؟ ضعوا الجندي أمام المعمّر كما تضعون قطعة الحديد على رأس الرمح” (فيكتور هيغو، الأعمال الكاملة، روبرتنلافونت، باريس 1985). ألا يعد أول منظر لسياسة الاستيطان التي طبِّقت فيما بعد وخاصة من قبل صديقه الجنرال بيجو الذي يخاطبه قائلا “أعتقد أن مستعمرتنا الجديدة شيء سعيد وكبير، إنها الحضارة تسير نحو البربرية. شعب مستنير يلتقي بشعب في غياهب الظلمات. نحن إغريق العالم، يجب علينا أن ننير العالم. ومهمتنا قيد الإنجاز… إنك تنظر للأمور بما يختلف عن نظرتي، فأنت تراها من زاوية العسكري والميداني، وأنا أراها من زاوية الفيلسوف والمفكر”.

محارق الغرب الجزائري على سبيل المثال لا الحصر التي أبادت قبائل برمتها، ما كانت تُعرف لولا تسريبات صِحافية وشهادات من شاركوا فيها، وإبادة سكان واحة الزعاطشة وبطولات أهلها ومن هبّ لمساعدتهم ما كان أن تصل إلى الرأي العام الفرنسي لولا، أوّلا بطولة الشيخ بوزيان ورفاقه الميامين التي اخترقت الآفاق بعد صمود استغرق أكثر من 4 أشهر في وجه جنرالات الاستعمار الذين أبادوا مجمل سكانها وسووها بالتراب. يقول قائد الحملة ساخرا إنه بـ”استثناء كفيف وبعض النسوة لم ينجُ أحد”.

والواقع أن آراء ومواقف العسكريين ورجال العلم والأدب تختلف في الشكليات فقط، أما في الموضوع فهناك تطابقٌ شبه كلي، فقلّما نجد موقفا صارما وثابتا لدى الشخصيات أو التيارات الفكرية والسياسية أو إدانة صريحة للأوضاع المأساوية التي يعيشها الجزائريون أو ما يتعرضون له من حجز للممتلكات أو نفي.

لا شك أن الحروب الصليبية وإن انقطعت عمليا ففكريا ظلت قائمة باستثناء ربما خلال مرحلة سليمان القانوني وفرنسوا الأول اللذين تهادنا لأسباب سياسية بحتة ضد اسبانيا والنمسا بالرغم من اعتراض المسيحية كلها على ذلك التوافق واتهام ملك فرنسا بالخروج عن الملة. وللإشارة فمن بين الاتفاقيات بين البلدين منح العثمانيون امتيازات لفرنسا في الجزائر تقضي بمنح شركات فرنسية امتياز استخراج المرجان من السواحل الجزائرية الشرقية من جيجل إلى القالة. إلا أن الطرف الفرنسي عوض الاقتصار على ما نصّت عليه الاتفاقية -وهي مُجحفة حقا في حق إيالة الجزائر من حيث المدخول- بات ممثلوه يتاجرون في الماشية والحبوب والخشب مقابل بعض السلع والسلاح اليدوي لقبائل في منطقة القالة.

وقد انجرّ عن ذلك حدوث توترات شديدة بين البلدين وصلت حدّ معارك بحرية وقَنبلة للعاصمة وإلغاء للاتفاقية في بعض الفترات ولعلها شكلت سببا من أسباب استعمار الجزائر.

“صحيح أننا عدنا ببرميل من الآذان جمعناها زوجين زوجين من سجنائنا الأصدقاء منهم أو الأعداء.. أعمال وحشية لا يمكن تصورها، أوامر بالقتل ببرودة دم تامة بطلقات نارية أو بالسيوف في حق بعض البؤساء ذنبهم الوحيد أنهم دلونا على مخازن حبوب.. فارغة.. حَرقنا القرى التي صادفناها في طريقنا وفرّ منها أهلها ودمرناها، قطعنا نخيلهم وأشجار مشمشهم، لأن مالكيها لم تكن لهم القوة الكافية لمقاومة أمرائهم وغلق ممر مفتوح أمام الجميع لدى هذه القبائل المتنقلة…”.

حوصرت فرنسا بعد ثورتها حصارا شديدا من جيرانها الأوروبيين وساد القحط ونقص الغذاء فاستنجدت بإيالة الجزائر التي زوّدتها بالقمح والمال ووقعت اتفاقية معها مطلع القرن 19 مُنحت بموجبها امتيازات واسعة استغلها نابليون ليرسل جاسوسه بوتان سنة 1808 لتحديد الأماكن يمكن للبحرية الفرنسية مهاجمة الجزائر من خلالها. وإذا كان هذا الأخير لم يستطع انجاز تلك المهمة التي كان يريد بها استعادة مجد روما وسيطرتها على الحوض المتوسطي لانشغاله آنذاك بحروبه الأوروبية، فإن خطط بوتان الذي قُتل في سوريا استُخرجت سنة 1830 وأُنزلت الحملة في المكان الذي اقترحه.

ولو استقصينا مواقف المسؤولين الذين قادوا الحملة ضد الجزائر، فإننا نكتشف أن قائدها وقَّع اتفاقية تسليم المدينة تلزمه بنودها -على قلتها وعدم وضوحها الوضوح كله- باحترام الإسلام وأماكن العبادة والأموال وسلامة المواطنين، إلا أنه وقبل أن يغادر الداي حسين -الذي يحق لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل الجزائر المستقلة تُبقي أحد أحياء العاصمة يحمل اسمه وهو لم يصُنِ المدينة- سطا عساكر دي بورمون على خزائن القصبة ونهبوا كل ما فيها واقتسموه وحوّلوا ما حولوا على متن 05 سفن كبيرة على الأقل إلى اتجاهات أغلبها غير محدد.

وكخلاصة عامة، يمكن القول إن هناك توافقا فرنسيا حتى لا نقول أوربيا على معاداة دول الضفة الغربية التي سعوا بكل ما أوتوا من قوة للسيطرة عليها منذ سقوط الأندلس في 1492م، وإن وُجدت اختلافاتٌ بينهم فشكلية فقط ولا تمس الجوهر تماما كما هو الحال اليوم في مجمل القضايا المصيرية المطروحة في الشرق الأوسط أو في محيطنا القريب.

نهاية دور المؤرخ.. الذكاء الاصطناعي والسطو على سرديات الشعوب

بقلم: عبد العالي زواغي

يحظى التاريخ بأهمية قصوى في حياة الشعوب والأمم والدول، فهو ذاكرتها التي يتم توارثها وتناقلها جيلا بعد جيل، وخزان ثقافتها الذي يمدها بالاستمرار والديمومة، لذلك تحرص الدول على حفظ وتخزين وإبراز تاريخها وذاكرتها الجماعية بعناية شديدة، حتى لا تفقد هويتها وانتماءها، ولا تضيع بوصلتها الحضارية فتصير غير قادرة على فهم الانتقالات والتحوّلات الكبرى في حاضرها ومستقبلها، فاقدة للرؤية الصائبة في تنظيم وضبط علاقاتها مع غيرها، فالذاكرة التاريخية تمثِّل عمقا استراتيجيا وجب حمايته وصيانته بكل قوة، فهي صورة حقيقية لماضي الأمة، وديوان مفاخرها وذكرياتها، ومستودع تجاربها بنجاحاته وانكساراته، وهي نقطة اللحام التي توحد شعبا ما وتميزه عن باقي الجماعات البشرية، فكل الذين يشتركون في تاريخ واحد يعتزون ويفخرون بمآثره لأنهم أبناء أمة واحدة، وشعب واحد، وهوية واحدة.

التأريخ.. من الألواح الطينية إلى البيانات الضخمة

اتجهت الشعوب منذ فجر البشرية الأول إلى تدوين وحفظ تاريخها بأدوات متنوعة، ولولا ذلك لما وصلت إلينا أخبارها، ومعاركها، وإنجازاتها، وتجاربها، ورموزها، وطقوسها، ونمط الحياة الذي كانت تعيشه، فكانت الألواح الطينية مثلا، التي وُجدت في “أور” العاصمة السومرية الأكثر مركزية وبيروقراطية في التاريخ القديم، والتي سُطِّرت عليها تقاليد السومريين ومعاملاتهم ومخزونهم المعرفي، وكانت أيضا أوراق البردي التي دوَّن عليها المصريون القدماء تاريخهم وطقوسهم وحضارتهم الفرعونية، في حين كان “هيرودوت” المؤرخ اليوناني يتنقل بين الأمصار وينقل الحقائق عن الأحداث من أفواه الرجال الذين يقابلهم ليجمع ذلك في كتابه الشهير “التواريخ”، لتتوالى الطرق والأدوات التي كتب بها المؤرخون التاريخ مع تطور الفكر الإنساني ومنجزاته، وباستغلال التطورات المعرفية والتقنية التي طالت أساليب الكتابة والقراءة عبر العصور، من مخطوطات وكتب وآلات تسجيل وغيرها، حتى الوصول إلى العصر المعلوماتي الذي وُجد في ظل الثورة الرابعة التي أحدثت نقلة نوعية في استجلاب التاريخ وتخزينه وتقديمه وعرضه بطرق مدهشة بواسطة وسائل التواصل والتوثيق بالصوت والصورة، قبل أن يغدو كل هذا أمرا تقليديا وقديما قد عفا عنه الزمن، بظهور ثورة خلَّاقة وفريدة دشنها الذكاء الاصطناعي والآلات التي تعتمد على الخوارزميات والتعلُّم العميق في إنجاز عمليات معقدة يعجز العقل البشري عن تحقيقها، والتي بدأت تغير أساليب التعامل مع التاريخ وحتى صناعته من خلال استغلال مناجم البيانات الضخمة المتاحة في المجال الافتراضي.

وهذه التقنية الآخذة في التطور وفق متتالية هندسية، تنوء اليوم بين الإيجابيات التي تقدمها للمؤرخين في التعامل مع المادة التاريخية وتيسير الوصول إليها ومعرفة الحقائق التي كانت صعبة المنال واستخلاصها، وبين الأخطار التي باتت تشكلها على تاريخ الشعوب وذاكرتها الجماعية، من خلال التحريف والتضليل والتزييف الفائق الذي يمكن أن يحصل بسبب “الحرب المعلوماتية” التي تميز العصر الرقمي الذي نحياه، لاسيما وأن التلاعب بالتاريخ أصبح سلاح حرب من الجيل الرابع، وهذا ما يحتم على الشعوب والدول الحرص على الحقيقة التاريخية والحفاظ عليها وصيانتها، ضمن رؤية أشمل في إطار الحفاظ على الأمن القومي حتى لا تكون نهبا للضياع والتفكيك والفوضى والتخريب، والجزائر ليست بمنأى عن هذا كله، خصوصا ونحن نلحظ هجمات كثيرة لسرقة تاريخها، ومحاولات حثيثة لضرب ذاكرتها وهويتها الوطنية والتشكيك فيها من جهات عدة وأعداء تاريخيين، يرومون السطو على السرديات التاريخية النقية واستبدالها بسرديات “سيمولاركية” مزيفة ومغلوطة لتحقيق أهدافهم.

المؤرخون الجدد في مجتمعات التأريخ المفرط

أمام الاستبداد التقني والرقمي الذي تمثله شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تستحوذ على مجمل البنى التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم، وعلى كل أنواع البيانات الضخمة (Big Data) الموجودة في العالم الرقمي، يبدو أن شركات (GAFAM) وهو الاسم المختصر الذي باتت تُعرف به شركات التكنولوجيا والتقنية العملاقة في عالم اليوم، التي تتمركز في وادي السيلكون بأمريكا، ويقصد بها “غوغل”، و”أمازون”، و”فيسبوك”، و”آبل” و”مايكروسوفت”، هي من ستتولى صناعة التاريخ والحل محل المؤرخين في سرد تاريخ الشعوب والأفراد والأمكنة، إذ ينتهي عهد المؤرخين الذين يعتمدون على المخطوطات والكتب والتسجيلات، من خلال برامج الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة مثلا التي تجيب عن مجمل الأسئلة المتعلقة بالتاريخ، وتعتمد على التنقيب في مناجم البيانات المخزَّنة في خوادم وسحابات هذه الشركات، وهي معلومات وحقائق لن تكون صادقة بالضرورة لاعتمادها على مدخلات يمكن لأي جهة أن تتولى هذه العملية، بحيث يتم إدخال معلومات وحقائق صحيحة.

كما يمكن إدخال بيانات ومعلومات تاريخية مغلوطة ومحرَّفة أو مختلَقة من العدم، لتأتي الخوارزميات فيما بعد وتجمع وتنظم وتفرز هذه المعلومات من كومة البيانات المتوافرة رقميا وتجعلها متاحة للباحثين، من دون النظر إلى مدى صدقها أو خطئها، لاسيما ونحن نعيش في مجتمعات “التأريخ المفرط- Hyperhistory” كما يسميها أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد، لوتشيانو فلوريدي، والممهورة بسِمة الاتصالية المفرطة بشبكة الإنترنت، بعد أن صار الهاتف المحمول امتدادا لحواس الإنسان وأعضائه (اليد تحديدا)، إذ يتّجه الأفراد، منذ اللحظة الأولى التي يستيقظون فيها من النوم، إلى قول ونقل وتشارك كل شيء من دون التحقق من صدقيته، وباتت البيانات الضخمة أو المفاهيم المرتبطة بها كالإغراق المعلوماتي أو التخمة المعلوماتية ليست هي المشكلة في حد ذاتها، ولكن في طريقة التعامل معها من طرف هذه الشركات التي لا تخلو من عقيدة أو أيديولوجية استبدادية وارتباطات مشبوهة تؤدِّي إلى خلق خوارزميات متحيزة أو “خبيثة” في تعاملها مع البيانات ذات الطبيعة التاريخية، أو إنتاج سرديات مختلفة من نصوص وصور ومقاطع فيديو مزيَّفة لا تمتُّ للحقيقة التاريخية بصِلة، فقد صار اليوم بفضل برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، إنتاج صور وفيديوهات تاريخية عالية الدقة، لكن لا يمكن لغير المختصِّين والمؤرِّخين التأكد من حقيقتها، وهو ما يؤدي إلى التضليل وتحريف التاريخ لدى الأجيال الجديدة التي جعلتها مواقع التواصل الاجتماعي غير قادرة على الانتباه والتمييز، وفاقدة لملكات النقد والتحليل، لأن هذه التقنيات والمواقع قادت إلى كتابة نهاية التجربة الإنسانية، أو لنقل إفقار التجربة المعيشة بتعبير الفيلسوف “فلتر بنيامين”، فالجيل Z (مواليد عام 2000 فصاعدا)، لا يعرفون العالم دون “غوغل” و”فيسبوك” و”تيلغرام” و”تيك توك” و”تويتر” و”ويكيبيديا”، فهم يعيشون حياة دائمة الاتصال (on life)، لذلك يسهل التلاعبُ بهم وتوجيههم وقولبة سلوكهم، وهم الفئة الأكثر عرضة للمعلومات التاريخية المزيفة والمغلوطة، لأنه بإمكانهم أن يصدِّقوا أي شيء تقذف به هذه المواقع والبرامج في ظل انخفاض حسِّهم النقدي؛ وكمحصلة لذلك، يمكن توجيههم للتسبُّب في صراعات اجتماعية أو سياسية نتيجة لقدرتها على إنتاج وسائط تبدو مُقنِعة ويصعب الكشف عن صحتها.

الزيف العميق.. الخطر القادم

تشكل اليوم تقنية الزيف العميق (Deepfake)، خطرا كبيرا على ذاكرة الشعوب ووعي الأجيال في خضمّ عصر ما بعد الحقيقة (post-truth)، فبفضل هذه التقنية الرهيبة يمكن لأصحابها أن يزوِّروا التاريخ ويتلاعبوا به بشكل ضارّ كيفما يشاؤون، وأن يسيئوا للرموز الوطنية والحقائق والثوابت بكل سهولة، من خلال تقديم محتوى رقمي جذاب في ظاهره، لكنه مخادع ومزيف في باطنه، فقد بات اليوم سهلا على الذكاء الاصطناعي إنتاجُ وثائق وصور وخرائط ومخطوطات تاريخية لا يمكن تمييز زيفها من صحتها، لاسيما إذا كانت تحتوي على معلومات وحقائق حساسة الهدف منها التضليل والتوجيه واستغلالها لصالح قضية ما أو نقيضها في مختلف المنابر والصراعات المحلية والإقليمية والعالمية.

ينتهي عهد المؤرخين الذين يعتمدون على المخطوطات والكتب والتسجيلات، من خلال برامج الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة مثلا التي تجيب عن مجمل الأسئلة المتعلقة بالتاريخ، وتعتمد على التنقيب في مناجم البيانات المخزَّنة في خوادم وسحابات هذه الشركات، وهي معلومات وحقائق لن تكون صادقة بالضرورة لاعتمادها على مدخلات يمكن لأي جهة أن تتولى هذه العملية، بحيث يتم إدخال معلومات وحقائق صحيحة، كما يمكن إدخال بيانات ومعلومات تاريخية مغلوطة ومحرَّفة أو مختلَقة من العدم، لتأتي الخوارزميات فيما بعد وتجمع وتنظم وتفرز هذه المعلومات من كومة البيانات المتوافرة رقميا وتجعلها متاحة للباحثين، من دون النظر إلى مدى صدقها أو خطئها.

وبإمكان هذه التقنية أيضا بثّ الروح في الأبطال والشخصيات الميتة التي أخصبت تاريخ أمة أو شعب وتحظى بالاحترام والتقديس، وجعلها تتكلم وتدلي بشهادات وخطب تبدو حقيقة للمتلقّين، باستغلال صورها ونبرة صوتها المتأتية من مناجم البيانات الضخمة، أو قد تجعل شخصيات أضرت بدولها وشعوبها أبطالا ومنقذين بنفس الكيفية، أو قد يتم إنتاج أفلام تسجيلية كاملة بالاعتماد على دمج الذكاء الاصطناعي وتقنية الزيف العميق، تتناول وجها من أوجه التاريخ الذي يخص شعبا أو جماعة، أو مرحلة مهمة من حياة الأسلاف الماضية، إذ تملأ بالأكاذيب والمعلومات المضللة والكاذبة، وتقذف في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام على أنها حقيقية، في محاولة لفرضها وإقحامها كحقيقة ثابتة أو ضرب ثقة الجمهور في حدث أو واقعة أو رمز والإضرار بالمجتمع، فأكثر عواقب عمليات التزييف العميق خطورة هي قدرتها على جعل الجمهور العادي يتساءل عما يراه، وكلما زادت مقاطع الفيديو المزيفة قلّت الثقة في التمييز بين الحقيقي والمزيف.

وهذه التقنية المثيرة للقلق، على الأغلب ستكون رائجة ومنتشرة بشكل كثيف بين المستخدمين خلال السنوات المقبلة بعد أن صارت برامجها متاحة للاستعمال العام وسهلة الاستخدام.

حماية الذاكرة الوطنية في عصر الذكاء الاصطناعي

إن هذه النظرة إلى الذكاء الاصطناعي ليست سوداوية بقدر ما هي تعبير عن واقع بدأت تنمو في أحشائه منذ مدة، هجماتٌ جدية لا تفتر في سبيل تشويه السرديات الوطنية أو خطفها، ومع ذلك، فإن لهذه التقنية الآخذة في التطور بشكل عجيب، إيجابياتٍ كثيرة وأوجهًا عديدة للاستفادة منها في حفظ الذاكرة الوطنية وتعزيزها وصيانتها، وسبر أغوار حقب وفترات تاريخية عاشتها الأمة وعجز المؤرخون عن استكشافها واستدعائها بما يخدم الشعب والدولة، فمن المأمول أن تُنقذ أدوات الذكاء الاصطناعي الآلاف من النقوش والمخطوطات والصور التاريخية والكتب النادرة في المكتبات والمتاحف الجزائرية من التلف، بإعادة ترميمها لاعتمادها في البحوث العلمية وإتاحة الاطِّلاع عليها ونشرها على نطاق واسع، فالذكاء الاصطناعي يُتيح لنا ترميم ما تُلف من تلك المصادر وإعادة بنائها، وملء ما فيها من فراغات وثغرات، والتنبؤ بما يناسبها من مفردات تتفق مع السياق العامّ، بالإضافة إلى إعادة تجميع الأحرف والرموز المبعثرة هنا وهناك، وصولا إلى نص مقروء ومفهوم.

كما يمكن الاستفادة من تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي في تقديم محتوى رقمي جذاب ومشوق للأجيال الجديدة التي تعيش على مواقع التواصل الاجتماعي وربطها بتاريخها وبذاكرتها الوطنية، وتوظيف هذه التقنية في فك طلاسم النقوش والآثار التي مازالت مجهولة لدى الجزائريين (رسوم الطاسيلي مثلا)، خصوصا أن العديد من المطوِّرين والعلماء في كثير من دول العالم تمكَّنوا من إنشاء برامج للذكاء الاصطناعي استطاعت ترجمة اللغات القديمة المبهمة.

أمام الاستبداد التقني والرقمي الذي تمثله شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تستحوذ على مجمل البنى التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم، وعلى كل أنواع البيانات الضخمة (Big Data) الموجودة في العالم الرقمي، يبدو أن شركات (GAFAM) وهو الاسم المختصر الذي باتت تُعرف به شركات التكنولوجيا والتقنية العملاقة في عالم اليوم، التي تتمركز في وادي السيلكون بأمريكا، ويقصد بها “غوغل”، و”أمازون”، و”فيسبوك”، و”آبل” و”مايكروسوفت”، هي من ستتولى صناعة التاريخ والحل محل المؤرخين في سرد تاريخ الشعوب والأفراد والأمكنة.

من ناحية أخرى، يجب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في محاربة السرديات الكاذبة التي تحاول اختطاف سرديتنا الوطنية أو تشويهها، وذلك من خلال برنامج الكشف والتصدي لهذه السرديات، التي تعتمد على آلية التعلّم العميق، ومواجهتها بكل صرامة تفاديا لانتشارها، خصوصا وأن المعلومات المضلِّلة والكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا انتشرت صعب تفنيدها وتطويقها، فهي -بحسب دراسات علمية- تنتشر بشكل أسرع من الحقيقية، وفرصتها في المشاركة أكثر بنسبة 70%، لذلك من المهم جدا أن نسعى إلى تكوين كفاءات من المطورين للتكنولوجيا للإسراع بإنشاء تطبيقات وأنظمة تقفِّي وكشف التزييف ومعرفة مدى أصالة ما يتعلق بتاريخنا الوطني في العالم الرقمي، وتطويقه قبل أن ينتشر بشكل ضارّ، ضمن برنامج دفاع وتمكين تكنولوجي، وفي إطار يقظةٍ تقنية شاملة حريصة على حماية تاريخنا وذاكرتنا الوطنية، موازاة مع استغلال الذكاء الاصطناعي أيضا في إبراز هذه الذاكرة المجيدة وهذا التاريخ الناصع الذي شكَّل على الدوام مصدر فخر للجزائريين، بالطرق المثلى والإيجابية لغرض صونه وتقديمه في أحسن صورة، ومن أمثلة ذلك الاستثمار في تقنيتي المستقبل، الواقع المعزز والميثافيرس، لإنشاء متاحف ومكتبات وصالات عرض تاريخية، مع العمل على نشر الثقافة الرقمية والوعي التقني بين الأجيال الجديدة حتى تتمكن من معرفة تاريخها الصحيح والأصيل، فتعمل على التمسك به والحفاظ عليه ونشره بكثافة على الشبكات، وكشف ما سواه من محتوى مزيف أو مضلل ينطوي على أهداف شريرة.

بماذا توحي بادرة 1 نوفمبر 54 إلى الجزائريين؟
بقلم: أحمد رواجعية

يتم تفسيره من وجهة نظر اجتماعية وعاطفية، على أنه انتقام من الاستعمار الفرنسي، وعمل من أعمال استعادة السيادة الوطنية. هكذا، تفكر الغالبية الساحقة من الجزائريين، الذين ينظرون إلى الأول من نوفمبر من منظور مزدوج: استعادة الاستقلال الوطني، وإعادة بناء الدولة الجزائرية على أسسها الأصلية، واستعادة الهوية الوطنية التي اغتصبتها فرنسا الاستعمارية في أثناء وجودها الذي دام قرابة قرن ونصف.

بحجة “حملة عقابية” ضد الجزائر على القرصنة، أنزلت فرنسا قواتها في سيدي فروش، في جوان عام 1830، وهي حملة عارضتها مقاومة شرسة بقيادة الأمير عبد القادر، ولم يتنازل إلا بعد مقاومة طويلة رفع بعدها رجال أول نوفمبر شعلتها.

ومن هذا المنطلق، يبدو الأول من نوفمبر بمثابة استمرارية وامتداد للمقاومة الوطنية الأولى، التي امتدت من جوان 1830 إلى ماي 1837 (معاهدة تفنا).

يرمز الأول من نوفمبر إلى المقاومة ضد الهيمنة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه، هو عمل من أعمال الكرامة والشرف، وهي قيم مقدسة داسها الاستعمار الفرنسي واستهزأ بها باستمرار، إنكارا للهوية الوطنية.

إن اللفتة البطولية في 1 نوفمبر تكشف أيضا عن نفسها، في نظر كل الجزائريين المليئين بالحب والتعلق بوطنهم، عمل انتقامي ضد النظام الاستعماري القمعي الذي أصر على إنكار الهوية الثقافية والدينية والتاريخية للأمة الجزائرية، ولا يزال الجزائريون يتذكرون الجرائم النكراء التي ارتكبتها فرنسا طيلة تواجدها في البلاد. ولن ينسوا أبدًا الجراح التي لحقت بالشعب الجزائري خلال مائة وثلاثين عامًا من وجوده في هذا البلد، الذي لم يتوقف أبدًا عن محاربته برفض ما يسمى بـ”العمل الحضاري”.

بعد أيام قليلة، يحيي الجزائريون الذكرى السبعين لاندلاع حرب الاستقلال ضد النظام الاستعماري الفرنسي، وهي المناسبة لمناشدة التاريخ والذاكرة ضد نسيان ما يسمى بـ”الحضارة”، و”التهدئة” التي فعلتها فرنسا في الجزائر…

كما أن إحياء ذكرى 1 نوفمبر 54 يعني بالنسبة للجزائريين علامة الولاء لذكراهم وتاريخهم.

إن استحضار وتمجيد البادرة الثورية لعام 1954 هو إظهار الولاء لأصولها، كما كتب فرانسوا بيداريدا، فإن الإخلاص هو فضيلة علاجية: “إن الإخلاص، وهو فضيلة نادرة، ضروري لكل كائن ليثبت انتماءه، ويضع معايير في ما يتعلق بالآخرين، ويكون، على حد تعبير القديس أوغسطينوس في الذاكرة، حضورا نشطا تجاه نفسه. الإخلاص مليء بالأمل أيضًا، مثل إرميا، الذي سجنه صدقيا واشترى من أعماق سجنه حقلا يقع في عناتوت، في اليوم السابق لاستيلاء البابليين على أورشليم: إنها صفقة عديمة الفائدة، وهي لفتة سخيفة من الناحية الإنسانية، ولكنها تظل على مدى قرون رمزا للأمل الذي لا يمكن لأي شيء أن يدمره”.

لكن ما الذي يميز الذاكرة عن التاريخ؟ هنا هو التوضيح:

“القصة تقع خارج الحدث، وتولد مقاربة نقدية تجري من الخارج، والذاكرة توضع في الحدث، وتعود إليه بطريقة ما، وتسافر داخل الموضوع. ويصبح معاصرا لما يحاول نقله، بدلا من أن ينأى التاريخ بنفسه عنه، بإدراك الحدث وتشريحه ومحاولة استخلاص الجوهر والمعنى معا- بالمعنى المزدوج للمصطلح الأخير، أي الاتجاه والمعنى. معنى هذا هو السبب في أن المسارات ليست هي نفسها. الهدف من الذاكرة هو الإخلاص والتاريخ والحقيقة”.

يتذكر الجزائريون جيّدا الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة الأول من نوفمبر. ومن هذه الأسباب نذكر أهمها: مماطلة فرنسا ووعودها بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية لم تحترم قط (خطة قسنطينة) لصالح “المسلمين”، يضاف إلى ذلك السياسة التمييزية بين الأوروبيين والمسلمين، مصادرة أراضي الفلاحين والمصادرة والضرائب والقمع متعدد الأوجه ضد الشعب الجزائري.. هذه، من بين أمور أخرى، هي المكونات الأساسية التي ساهمت في الانتفاضة الثورية في الأول من نوفمبر 1954. إن موقف الانتظار والترقب والتردد الذي أبداه الأب المؤسس للقومية الجزائرية مصالي حاج، الذي أجل التمرد إلى أجل غير مسمى، إلى جانب رغبته في الحفاظ على سيطرته على PPA وجميع الأجهزة المنبثقة عنه، كل هذا يفسر انفصال PPA-MTLD، وظهور “الناشطين” (مجموعة الـ21، المنظمة الخاصة، إلخ).

والتحضير لأول نوفمبر54، كما يوضّح ذلك محمد بوضياف في عدد “الجريدة” لـ”حزب الثورة الاشتراكية” الذي كان يترأسه.

وهذا ما أدى إلى قطع هؤلاء الناشطين علاقاتهم مع الرائد و”الأب الروحي” للقومية الجزائرية التي جسّدها الرمز المصالي في أثناء عقود طويلة من الزمن. وهنا تكمن «نقاط القوة» في نظرنا، التي أشعلت هذه الثورة المجيدة.

والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو معرفة ما هي القاعدة الاجتماعية لهذه الحركة الثورية التي جسدتها جبهة التحرير الوطني؟

كانت هذه القاعدة الاجتماعية مكونة من الفلاحين، وعمال المدن، وصغار الموظفين المسلمين من الإدارة الاستعمارية (محمد بوضياف على سبيل المثال)، وبعض الأعيان المسلمين الذين نشؤوا على حليب القومية الجزائرية (بن بولعيد)، والعمال المهاجرين الذين شكلوا الممولين الرئيسيين لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، التي قدمت قوات صاعقة ضد شرطة موريس بابون، قائد الشرطة المسؤول عن مذابح المهاجرين الجزائريين في أكتوبر 1961، في باريس. ويجب ألا ننسى تجار المدن، خاصة أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، الذين ساهموا في المجهود الحربي لجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، والذين لعبوا أيضًا دورًا مهمًا في نشر الأفكار القومية التي وصفتها، آنذاك، بـ”التخريبية”، السلطات الاستعمارية. سؤال آخر يستحق أن يطرح: ماذا كان رد فعل المستوطنين غداة إطلاق الرصاصة الأولى في الأوراس؟

كان مستوطنو الجزائر أكثر تعلقا بـ”الجزائر الفرنسية” من سكان فرنسا الأم وأقوى المؤيدين لبقاء فرنسا تحت أقدامها. وحتى صغار المستوطنين الذين لم يكن لديهم أراضٍ وعقارات كبيرة كانوا مرتبطين بشدة بالجزائر، وهو ما لم يكن بإمكانهم تصوره خارج أحضان فرنسا. وذلك، لأن الأرض الجزائرية لم تقدم لهم فقط “الشمس الجميلة”، و”الأزرق الكبير”، أي البحر، والمناظر الطبيعية الإيجابية، والمساحات الشاسعة والرائعة للصحراء ذات الشكل القمري، ولكنها قدمت لهم أيضًا وقبل كل شيء هذا الشعور الممتع بالعيش. يأمرون “العرب” ويكونون رؤساءهم “العنصريين”. وشكّل “البيض الصغار”، الذين قدموا من الألزاس واللورين، بعد احتلال بسمارك لهذه المناطق عام 1871، إحدى أكبر الوحدات الاستعمارية لسكان الجزائر. ويأتي في الخلف الإسبان والإيطاليون والمالطيون والكورسيكيون.

وفي اليوم الأول لاندلاع الثورة في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 54 (عيد القديسين)، تفاجأ كل هؤلاء المستوطنين ذوي الألوان المختلفة وشعروا في ذالك اليوم بصوت وكأنه رعد في سماء هادئة. لقد أصابهم الذعر الشديد وحث العديد منهم النظام العسكري على اتخاذ إجراءات صارمة ضد هؤلاء “الخارجين عن القانون”، و”المتمردين”، الذين يشوشون النظام “المتحضر”.

اعتنق العديد من كبار الضباط في الجيش أفكار المستعمرين الذين كانت الجزائر بالنسبة لهم ويجب أن تظل جزءًا لا يتجزأ من فرنسا. ألم يعلن جاك سوستيل، الحاكم العام للجزائر، مرات عديدة خلال الخمسينيات أن “الجمهورية واحدة لا تتجزأ”؟ وأن “الجزائر جزء لا يتجزأ منها؟” وكان روبرت لاكوست، الوزير المقيم، الذي خلف سوستيل، في نفس الاتجاه.

تشكيل لجنة السلامة العامة برئاسة الجنرال ماسو (13 مايو 1958)، أسبوع المتاريس في الجزائر العاصمة الذي نظمه نشطاء مؤيدون للجزائر الفرنسية (24، 59 يناير)، انقلاب الجنرالات في الجزائر العاصمة (22-25 أبريل) كان عام 1961 وكذلك ميلاد منظمة الجيش السري في العام نفسه، دليلا صارخا على ارتباط المستعمرين العميق بـ”الجزائر الفرنسية”، وبالتالي، الحفاظ عليها بشكل نهائي في الحظيرة الفرنسية.

وهذا التعلق يفسر كثرة الحنين إلى الجزائر الفرنسية وكثرة قوتهم في فرنسا ويحاولون بكل الوسائل الإبقاء على حالة من الخلافات والتوترات بين البلدين. إن محاولات التشكيك في وضع الهجرة الجزائرية، والإدانة المتكررة لبعض بنود اتفاقيات إيفيان، والتشويه المنهجي للجزائر من جانب ورثة جان ماري لوبان وجزء من اليمين الكلاسيكي، تشهد على ذلك. بقاء الفكرة الاستعمارية والاستعمارية الجديدة في فرنسا في أذهان كل من لم يهضم اندلاع الثورة الجزائرية، وبالتالي، الاستقلال الذي حصلت عليه عبر نضال شاق…

كشفت فرنسا الاستعمارية عن نفسها، أي من خلال الأعمال الهمجية التي ارتكبتها في الجزائر، مثل إبادة الظهرة ومجازر سطيف وخراطة، وغيرها.. كما استنكرت نفسها وأظهرت وجهها الحقيقي من خلال أفعالها المتمثلة في المذابح المرتكبة والمصادرة والسلب والاقتلاع وإنكار الهوية الثقافية والدينية للجزائر. إن ما فعلته ثورة نوفمبر هو تحطيم أسطورة القوة الاستعمارية، والتصدي لهذه القوة، التي قيل إنها لا تقهر، وأظهرت لجميع المتشكّكين في العالم أن شجاعة وتصميم شعب محب لحريته هما أمران أساسيان ويشكلان الشرط الأساسي للنصر النهائي.

وفي ما يخص الناشطين القوميين الأوائل والذين عرفوا ودرسوا فرنسا من الداخل والخارج، فقد اكتشفوا منذ زمن طويل أن الخطابات التي كانت تروج قرن التنوير والقيم التي انبثقت عنه (الديمقراطية، حقوق الإنسان، إلخ) تتناقض بصور مطلقة مع الوقائع التاريخية، ولم تكن سوى دعاية تهدف إلى التضليل والخداع… لأن الاستعمار واضطهاد شعب معين أو طبقة اجتماعية، لم يكن ذلك إلا نقيض التنوير وحقوق الإنسان…

قبل أن نختتم هذه الرواية التاريخية، يتبقى لنا سؤال أخير من الجيد الإجابة عنه: أين مؤرخونا وماذا يفعلون لكتابة أو إعادة كتابة تاريخ موضوعي، إن لم يكن محايدا، للثورة؟

في الحقيقة، ليس لدينا حاليا مؤرخون يستحقون هذا الاسم، أي مدربون وأكفاء بشكل كاف.

لم يعد المؤرخون المحترفون والمفكرون الصارمون والنقديون، مثل محفوظ قداش ومحمد حربي ومالك بن نبي وغيرهم، موجودين في الجزائر.

ليس لدينا مؤرخون متخصصون في الثورة، بل أساتذة يمتدحون الثورة من دون تفكير نقدي.

لا يوجد دراسة جدية حول الثورة، يشرف عليها مؤرخون محترفون من حيث الكفاءة والاستقلال الفكري والروح النقدية. ما هو موجود هو أقسام التاريخ في سائر الجامعات الجزائرية تقريبا، ولكن لا يوجد مؤرخون “محترفون” بالمعنى المهني للكلمة. من المؤكد، أن هناك مدرسين للتاريخ في كل مكان في مختلف تخصصات هذا الفرع، لكن تكوينهم وكفاءتهم ضعيفة جدا.

صحيح أن تاريخ الثورة الجزائرية، يدرس فعلا في كل جامعاتنا، لكن من قبل أساتذة غير متكونين تكوينا كافيا، لأنهم غالبا ما يجهلون أساليب ومناهج تدريس التاريخ بصورة نقدية ومستقلة. ومع ذلك، يتظاهرون بأنهم “متخصصون في ثورة نوفمبر”.

إن تعاليمهم، مثل كتاباتهم، تتم بأسلوب مزدوج: الحشو والتمجيد. إن هذين الأسلوبين في تدريس التاريخ وكتابته يسيران جنبًا إلى جنب ولا يتركان مجالا كبيرا للتفكير النقدي، الذي يؤدي على حسابه إلى تطوير سرد كامل للاحتفال وتمجيد الثورة الجزائرية وأبطالها، الأحياء والأموات. في حين أن الثورة وأبطالها، لا يحتاجون إلى المدح وهدايا، مثل تقديم «باقات الزهور»، بل يحتاجون إلى تحليل نقدي واضح، وواضح بالمعنى البناء والمحايد…

لكن مؤرخينا الشباب يميلون إلى الإشادة بثورة نوفمبر أكثر من إخضاعها للتدقيق النقدي من أجل رفع كرامتها ومصداقيتها في نظر التاريخ والعالم…

الثورة الجزائرية في عيدها السبعين: التضامن العربي لتحرير فلسطين

بقلم: حبيب حسن اللولب

تحيي الجزائر الذكرى السبعين للثورة التحرير الجزائرية، على أمل أن نستخلص من محطاتها ورسالتها الخالدة ومشروعها الحضاري، دروسا وعبرا للتصحيح وتعديل واستشراف المستقبل. لقد حظيت الثورة التحريرية الجزائرية وتجربتها التاريخية باهتمام الكثير من الباحثين على اختلاف جنسياتهم وإيديولوجياتهم، للأهداف النبيلة التي كانت ترمي إليها، والمبادئ الفكرية والقيم الإنسانية التي تأسست عليها، وكذا مشروعها الحضاري المتمثل في إرساء قواعد الدولة الوطنية العصرية على الساحة الدولية في فترة ما بعد الاستقلال.

ولعل ما يجسد هذا البعد الفكري والإنساني لأدبيات ونصوص الثورة الجزائرية، هو تلك المعركة السياسية التي جرت بين القوات الوطنية والاستعمار، التي لم تكن فقط معركة قمع وسجون وإضرابات وانتخابات وقوانين مجحفة وتمرد صارم عليها، بل كانت أيضا معركة مفاهيم ومبادئ وقيم تتصارع فيها الأفكار بين الاستعمار وأطياف الحركة الوطنية، وما حملته من مشروع حضاري مفعم بالمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة. ولاستخلاص هذه العبر والدروس من محطات الثورة الجزائرية ومشروعها الإنساني، اغتنمنا فرصة إحياء الذكرى السبعين للثورة الجزائرية، تحت عنوان الثورة الجزائرية في عيدها السبعين: كنموذج لتحرير فلسطين.

وللوقوف عند تلك المحطات وما حملته من رسائل وعبر، كان لزاما علينا العودة إلى أصولها وجذورها وإرهاصاتها، التي تعود إلى الانتفاضات والمقاومات الشعبية المتعاقبة، التي اندلعت منذ وطئت أقدام الفرنسيين الأراضي الجزائرية في جويلية 1830، كمقاومة أحمد باي والأمير عبد القادر الجزائري ولالة فاطمة نسومر والزعاطشة والشيخ المقراني والشيخ بوعمامة… وغيرها من المقاومات، بالإضافة إلى ذلك، نجد الدور البارز والقيادي للزوايا والطرق الصوفية ورجال الإصلاح في المحافظة على مبادئ المجتمع الجزائري وقيمه، والدفاع عن هويته وانتمائه الحضاري.

لقد اتبعت الحكومة الفرنسية خطة محكمة للتفرد بحكم الجزائر (1830-1880) وعزلها عن محيطها المغاربي، ففي المرحلة الأولى نهجت سياسة “فرّق تسد” بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة، بقطع كل أواصر الدعم والتضامن مع الجزائر، وبعد القضاء على المقاومات والانتفاضات، انتقلت إلى المرحلة الثانية ابتداء من سنة 1881، لتأمين وجودها الأبدي بالجزائر، باحتلال كل من تونس والمغرب. والملاحظ، أن المقاومات والانتفاضات الجزائرية، كانت سببا وعاملا في تأخّير احتلال تونس إلى سنة 1881 والمغرب إلى سنة 1912 وتغيير صبغة نظام الاحتلال Occupation والاستعمار Colonisation بالحماية Protection.

لقد كانت الحرب بين الجزائريين والفرنسيين كرّا وفرّا، وانطلاقا من التقييم المعمّق لمرحلة الثورات الشعبية، دخلت المواجهة في المحطة الثانية، وهي مرحلة لملمة وتوحيد الصفوف وإعداد الإستراتيجية وخطة الطريق، لمواجهة مشروع الاحتلال الفرنسي، بنشر الوعي والمعرفة والتعليم والتثقيف، وتأسيس المدارس والجمعيات والصحف، وإرسال التلامذة والطلبة الجزائريين، إلى كل من مدارس الزوايا والطرق الصوفية الموجودة بالجزائر وتونس والمغرب، وإلى جامع “الزيتونة المعمور” الذي انتسب إليه أغلب الطلبة ابتداء من سنة 1876، وجامع “القرويين” بفاس، وجامع “الأزهر” بمصر والمشرق العربي.

انطلقت مرحلة المقاومة السياسية والثقافية بعد الحرب العالمية الأولى، برجوع الطلبة بالإجازات والشهائد متعدّدة الاختصاصات من كل فرنسا وتونس والمغرب ومصر واستقرارهم بالمدن الجزائرية، فتأسّست العديد من المدارس الخاصة والجمعيات والأحزاب والجرائد والنوادي، ونشط أئمة المساجد في العديد من المدن والقرى، متخذين من الجوامع والمساجد مركزا ومنطلقا لتعليم والتثقيف ونشر الوعي والمعرفة، وأدى كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي وبعض شيوخ الزوايا والطرق الصوفية المتحرين من وصاية الإقامة العامة الفرنسة وزملائهم بعد تخرجهم من الزيتونة وحصولهم على شهائد، دورا محوريا بمؤازرة العلماء الجزائريين، ومثلت الإرهاصات الأولى للثورة الثقافية.

وهذا الحراك والنشاط الحزبي والجمعوي الجزائري تطور ليصبح مغاربيا، وقد ساهمت فيه الجالية المغاربية، وبالخصوص الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الدارسين في فرنسا، بتشكيل حزب نجم شمال إفريقيا وجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين سنة 1927، لينتقل الحراك المغاربي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلى المشرق العربي (مصر والعراق وسوريا)، وتزداد عرى التنسيق بين الحركات الوطنية الجزائرية التونسية والمغربية.

واندلعت الثورة التونسية في 18 جانفي 1952، وطالبت بجلاء الفرنسيين، ودخلت الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة الإعداد للثورة، مستفيدة في ذلك من التجارب ودروس الانتفاضات والمقاومات والثورات السابقة، واتبعت إستراتيجية تمثلت في التخطيط لثورة شاملة في كامل التراب الجزائري، ونقلها إلى كل من التراب التونسي والمغربي أي مغربتها، وهنا تظهر عبقرية الثورة والقيادة الجزائرية، وقد تفطنت الحكومة الفرنسية لهذا المخطط، الذي قادها إلى انتهاج سياسة استباقية من خلال وضع خطة وإستراتيجية، تمثلت بالدخول في مفاوضات مع التونسيين والمغاربة، لعزل الثورة الجزائرية عن محيطها وفضائها المغاربي والتفرد بها، ومنحت تونس الاستقلال الذاتي في 3 جوان 1955، وأمام قوة الثورة الجزائرية وتوحد الثوار وانضمام عدد من التونسيين والمغاربة إليها،كلها عجلت بدخول الفرنسيين في مفاوضات جديدة، اعترفت بموجبها باستقلال كل من تونس والمغرب في مارس 1956.

هذه الخطوة الاستباقية لم تكن كافية، في ظل تواجد الجيوش الفرنسية، في كل من المغرب وتونس، وقد سلك سياسة العربدة والتنطع، وتمركز بالجزائر وعلى طول الحدود وعدم اعترافه بالاستقلال والتزامه بالاتفاقيات والمعاهدات المبرمة، وقد تيقنت الحكومتان التونسية والمغربية بأنه “لا معنى للاستقلال” دون الجزائر، ودخلت في مفاوضات جديدة مع الفرنسيين، اتفقت بموجبها على تشكيل كونفدرالية شمال إفريقيا أو اتحاد بين تونس والجزائر والمغرب، عقدت ندوة لإعلان هذا المشروع في أكتوبر 1956 بتونس، بمشاركة كل من الحكومة التونسية والمغربية والفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولكن المشروع أجهض وأفشل من قبل الجيش الفرنسي والمعمرين، على إثر حادثة اختطاف قادة الثورة الجزائرية في الخامس 22 أكتوبر 1956.

في الحقيقة، يمثل تاريخ 22 أكتوبر 1956 اختطاف القادة الجزائريين، محطة هامة في تاريخ الثورة الجزائرية بمغربتها وشحنها بالبعد المغاربي، واتفقت تونس والمغرب على دعمها على كافة المستويات، وتسخير استقلالهما لخدمتها، طرفا في الحرب التحريرية.

وأمام تزايد نجاحات وانتصارات الثورة الجزائرية، وهزائم وارتباك وتهور الحكومة الفرنسية، التي قامت بجملة من الحماقات، من أبرزها قنبلة قرية ساقية سيدي يوسف بولاية الكاف في 8 فيفري 1958، واستثمرت الحكومة التونسية هذه الحادثة بتدويل القضية الجزائرية، مستندة في ذلك إلى أن الحرب في الجزائر أصبحت تهدد السلم العالمي والمنطقة المغاربية. وتسارعت الأحداث ودخلت كل من أمريكا وبريطانيا على خط المساعي الحميدة، كوسيط للتقريب بين الوجهات وحلحلة القضية الجزائرية، في هذه الظروف انعقد مؤتمر طنجة بالمغرب في أفريل 1958، وقد ساهمت كل هذه العوامل في ميلاد الحكومة الجزائرية المؤقتة في سبتمبر 1958، واتخذت من تونس مقرا لها، وأخذت القضية الجزائرية منعطفا آخر عبر المزاوجة بين السياسي والعسكري والإعلامي، وراهنت على كسب الرأي العام الدولي والغربي عن طريق الإعلام، ليتم طرح مسألة حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في أعلى المنابر الدولية، وتُجبر فرنسا على الدخول في مفاوضات، أعقبها الاعتراف باستقلال الجزائر في مارس 1962.

لقد غيرت ملحمة الثورة الجزائرية، بحق، الخريطة الجيو- سياسية بالمنطقة العربية والإفريقية، باسترجاع الجزائر سيادتها، وتثبيت الاستقلال التونسي والمغربي، وهزم الإمبراطورية الاستيطانية الفرنسية في كامل إفريقيا، ونالت العديد من الدول الإفريقية استقلالها تباعا، وأصبحت الثورة الجزائرية أنموذجا يحتذي به في الكفاح ضد كل أشكال الظلم والغطرسة واستعباد الشعوب، ودليل ذلك تنامي حركات التحرر في العالم بأسره ومشروع وحلم الثورة الجزائرية تحقيق الوحدة المغاربية. وبعد الاستقلال، انطلقت مرحلة البناء وتشييد الدولة الوطنية، التي لم تكن سهلة، أبدا بسبب العراقيل والصعوبات والألغام والقنابل الموقوتة التي زرعها الاستعمار الفرنسي وتركها قابلة للانفجار، ومن بينها الملاحق السرية لاتفاقيات الاستقلال ومسألة الحدود والجهل والفقر، ما أثر على مشروع وحدة المغرب العربي الكبير، الذي ناضلت من أجله الحركات التحريرية والوطنية والحزبية المغاربية، ودعت إلى تجسيده على أرض الواقع بعد طرد الفرنسيين، وبالرغم من المصالحة التاريخية الأولى في قمتي زرالدة ومراكش وتأسيس اتحاد المغرب العربي في فيفري 1989، بقى الاتحاد المغاربي يدور في حلقة مفرغة، بسب المشاكل الحدودية والاختلاف بين الأنظمة السياسية. وباعتبار الدولة الجزائرية وصية ومؤتمنة على رسالة الثورة الجزائرية ومبادئها وتجسيدها على أرض الواقع، ساهمت في كل الحروب العربية الإسرائيلية من أجل تحرير فلسطين 1967 و1973، ودعمت وساندت القضية والنضال الفلسطيني معنويا وماديا ودبلوماسيا، ووجهت الدعوة إلى المنظمات الفلسطينية لزيارة الجزائر سنة 2022، والمشاركة في اجتماع حوار المصالحة وترميم البيت الفلسطيني من الداخل، واحتضنت الجزائر الدورة الـ31 للقمة العربية من 1 إلى 2 نوفمبر 2022 وفي عيد الثورة الثامن والستين، وطرحت فيها تفعيل المبادرة العربية للسلام لحل الصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني في إطار الأقلمة، ورفضت التطبيع مع إسرائيل، وقد سبق أن تقدمت وطرحت مشروعا لإصلاح البيت العربي، المتمثل في اعتماد مبدأ التصويت وتدوير منصب الأمانة العامة، وضخ وبث دماء جديدة في مؤسسة الجامعة العربية، ووضع خريطة طريق للمصالحة بين الإخوة والأشقاء الليبيين واليمنيين والسوريين، لوضع حد لسفك الدماء والدخول في مرحلة بناء الدولة الجديدة، يعيش فيها الأمن والسلام والاستقرار والرفاهية والتعايش والتوافق، وألغت الاحتفالات بعيد الثورة التاسع والستين في الداخل والخارج نوفمبر 2023، تضامنا مع الشعب الفلسطيني في حربه التحريرية، وتبقى رسالة الثورة الجزائرية في بعدها العربي والمغاربي ودماء الشهداء الطاهرة حية، تنير الدرب والسبيل للأجيال القادمة في الوطن العربي والمغرب الكبير. واليوم المقاومة الفلسطينية في حاجة إلى الاقتداء بالثورة الجزائرية واستلهام دروسها وعبرها واستثمار دعم الجزائري للقضية الفلسطينية، وقد ثبتت استقلال الدول واسترجعت استقلال الجزائر ووهبت الاستقلال للعديد من الدول الإفريقية.

المجد والعزة والخلود لشهداء الجزائر والوطن العربي والمغرب وتونس وفلسطين. عاشت الأخوة العربية والمغاربية..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!