أتردد في الكتابة عن أحداث غرداية!
لم يسبق لي في حياتي المهنية وأن ترددت في الكتابة عن موضوع معين مهما كانت نوعيته وخصوصياته، ولكن هذه هي المرة الأولى التي أتردد فيها عن الكتابة عن الأحداث المأساوية التي تعيشها غرداية انطلاقًا من قناعتي بأن الوضع يتميز بكثير من الحساسية والهشاشة، وبلغ درجة لم يسبق لها مثيل من الاحتقان إثر فقدان العشرات من أبناء المدينة الواحدة والبلد الواحد والمعتقد الواحد وكل القواسم المشتركة التي جمعت بينهم عبر التاريخ، لذلك أتردد في الخوض في الأسباب والجزئيات والتفاصيل؛ تجنبًا للفتنة وتجنبًا أيضاً لمزيد من الاحتقان.
ترددت في الكتابة لأن الجراح عميقة، وفقدان الأهل والأحباب على أيدي إخوة وجيران في عز الشهر الفضيل لا يضاهيه ألم آخر لكل الأهالي وكل الجزائريين، مما يتطلب من كل واحد منا تجاوز الحديث ولو مؤقتًا عن الأسباب والتداعيات والمسؤوليات، والتوجه نحو تهدئة النفوس وتضميد الجراح وتجاوز الأحقاد، لأن التجارب علمتنا بأن التطرف يؤدي إلى التطرف، والحقد يؤدي إلى مزيد من الأحقاد، وعلمتنا بأن التردد، وانعدام الجرأة والشجاعة السياسية في حل المشاكل في وقتها يؤدي إلى تعفين الوضع كما حدث في غرداية بسبب تهاون السلطات.
ترددت في الكتابة مثل غيري أيضًا حتى نفوّت على المتربصين فرصة اتهامنا بإشعال نار الفتنة التي هي مشتعلة أصلًا بسببهم، وبسبب أنانيتهم وحقدهم وتطرفهم، وحتى أتجنب تلك التهم الجاهزة التي يطلقها المنتفعون على من يختلف معهم وكل من يتجرأ على انتقادهم، حتى إننا لم نسمع لهم موقفًا لحد الآن، ولن نسمع منهم سوى التهكم على غيرهم ممن يعبرون عن آرائهم ومواقفهم، والتهكم على كل من يحملون السلطة مسؤولية الأحداث بسبب ضعفها وغيابها أو تغييبها!
أجد نفسي مترددًا عن الكتابة في تفاصيل الأحداث والوقائع، ومدى تهاون بعض مؤسسات الدولة في فرض سلطة القانون، وأفضل التذكير بأن آباءنا وأجدادنا الإباضيين والمالكيين في غرداية لم يتقاتلوا فيما بينهم عبر التاريخ، بل قاتلوا معًا ضد الاستعمار، وكافحوا وناضلوا ضد الإرهاب، وحاربوا الجهل والفقر، وكل أشكال الظلم والفساد، وكانوا في الموعد مع إخوانهم ككل الجزائريين في مختلف المواعيد الهامة عبر التاريخ لأنهم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن العزيز.
أتوقف عند هذا الحد أملًا في أن ينتهي هذا الاحتقان والاقتتال، وأملًا في ألا أعود إلى الكتابة عن غرداية لوحدها، أو منطقة القبائل وهمومها، أو أهلنا في الجنوب ومشاكلهم، وأملًا في ألا أعود للكتابة عن متاعب أبنائنا في الجزائر العميقة، أو متاعب شبابنا وبناتنا وشيوخنا، وتقتصر كتاباتي عن القضايا الكبرى التي تهمنا جميعًا، وتحول بيننا وبين بناء وطن يسع الجميع، ويبنيه الجميع مثلما قالها المرحوم محفوظ نحناح، ومجتمع يعيش الأمن والاستقرار، ويعيش الحرية والديمقراطية والرفاهية والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن الظلم والفساد والتخلف، وبعيدًا عن كل أشكال التحايل الذي يمارس علينا اليوم من أجل البقاء في السلطة أو الوصول إليها ولو على جثث الأبرياء.