أحمد بن بلة رحمه الله: من يعتبر؟
حينما يتوفى الله رجلا متميزا، قد ترك تاريخا ومآثر، يسأل الكثير: ما الذي كان يجمعني بهذا الرجل؟ وماذا أستطيع أن أقول عنه مما شهدته بنفسي أو حدثني بخصوصه ثقة بسند متصل؟ ليس لي شيء كثير أقوله عن الرجل، فلم أحظ بصلة خاصة به، ولم أتحدث إليه كثيرا، سوى بعض الذكريات القليلة بخصوصه جالت بخاطري، أردت أن أسجلها لأستخلص منها العبر لمن يريد أن يعتبر في ما حصل في تاريخ وطننا، ومسارات رجاله الكبار.
أذكر أن والدتي -أطال الله عمرها- كانت تحدثني -كلما ذُكر بن بلة أمامها- عن مظاهرات كبيرة، حدثت في بلدتي عند الاستقلال، كانت تحملني فيها وسط جمع غفير من الناس، يهتفون بلا توقف: “يحيا بن بلة، يحيا بن بلة”. ثم تضيف مبتسمة: “كنتَ آنذاك طفلا صغيرا تتدرب على النطق فبدأتَ تنادي:”بابا، بابا” ظنا منك بأن الناس يقولون ذلك”. وأذكر كذلك يوما من أيام رئاسة بن بلة للجزائر، كنتُ فيها طفلا مُميِّزا، حدثت فيه فجأة ضجة كبيرة في حيِّنا، وبدأ السكان ينادون في كل جانب: “العسكر، العسكر!”.
لم يكن المقصود بالعسكر “عسكر فْرانسا” بالطبع! بل كان الزائرون عساكر جزائريين، جاؤوا ليأخذوا والدي! أتذكر جيدا كيف سارع والدي -رحمه الله- إلى أوراق كانت في البيت يحرقها ويتلفها، قبل أن يصل إليه الجنود. ولما وصلوا أخذوه عُنوة، ولم يُطلق سراحُه إلا بعد أيام، عُذب فيها عذابا شديدا، فقد فيها حاسة سمعه في إحدى أذنيه لأيام كثيرة. كان سبب المداهمة ملاحقة الشبكة التي كان يتحرك فيها محمد بوضياف -رحمه الله- الذي كان بيته على بضعة أمتار من بيتنا، في حي العرقوب العتيق، مسقط رأس بوضياف. وكان والدي مُتّهما بمنح عنوان محله للرسائل التي كانت تأتي لسي محمد، المدعو آنذاك في الحي “سي الطيب الوطني”.
لا شك أن الجميع يعتبر هذه التهمة الآن سخيفة، ولكن كانت في تلك المرحلة تُقطع بسببها الرؤوس، ولعل الذي جعل والدي ينجو برأسه شفاعة بعض زملائه المجاهدين، الذين كان يضج بهم الحي، والذين كان كلهم يعتز بزعيمهم بوضياف. وأذكر كذلك اليوم الذي خرج فيه بن بلة من إقامته الجبرية بعد خمس عشرة سنة قضاها في فيلاّ، وسط مدينة المسيلة، كان يُمنع الاقتراب منها طيلة تلك السنوات كلها. وكان في مقابل الفيلاّ عمارة من عهد الاستعمار، يتموقع في إحدى شققها رجال أمن، يراقبون كل من يقترب من المسكن. بل قيل بأنهم كانوا يضعون كاميرات مراقبة في كل مكان، حتى داخل مراحيض الفيلاّ.
كان أغلب السكان لا يكترثون كثيرا بالشأن السياسي في ذلك الوقت، سوى بعض الفئات، منهم شباب الصحوة الإسلامية، الذين كانوا يتوجسون من بن بلة شيئا ما، لسماعهم من الدعاة الذين كانوا يتبعونهم بأنه هو الذي جاء بالاشتراكية للجزائر، وهو الذي وضع البشير الإبراهيمي تحت الإقامة الجبرية في الصحراء، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يفرحون كثيرا حين يسمعون بأن الرجل صار شديد التدين، وأنه يحفظ القرآن في إقامته. في اليوم الذي أُطلق فيه سراحه سنة 1980 كنا -كشباب جامعيين- نقيم معرضا للكتاب الإسلامي في دار الشباب، ففوجئنا بالرئيس السابق للجزائر، يزورنا في المعرض مع زوجته، التي كانت من المنطقة -رحمها الله-، ومعهما “جفنة” كبيرة من “البربوشة”، ولست أدري هل تلك الخطوة كانت تلقائية قُصد فيها مكان تجمعٍ للناس، أم أنها كانت سياسية للتعبير عن اقتراب الرجل من التيار الإسلامي.
إن هذه الأحداث الثلاثة، التي قد تبدو بسيطة بالنسبة للبعض، رسمت في ذهني مسارا كاملا للتطور السياسي، الذي عرفه الرجل، ومعه الجزائر، ثم جاءت الأخبار والتحولات التي وقعت فعضّدت الصورة، إلى أن توفاه الله برحمته الواسعة. يبدو جليا من خلال المظاهرات الحاشدة التي شهدتها الجزائر إبان الاستقلال، وحالة الاحتفاء الشديد برئيس جزائري من الزعماء السياسيين الكبار، في مظاهرات حاشدة، يخرج فيها النساء والأطفال في مشاهد درامية خيالية تلقائية، تقارب الهستيريا -كما سمعنا من آبائنا وأمهاتنا- أن بن بلة حظي بفرصة تاريخية لا مثيل لها لتحقيق الإقلاع الوطني، وتجسيد مبادئ نوفمبر، يسندُه فيها شعبٌ بكامله، تسيطر عليه مشاعر التحدي والاعتزاز بالذات، وتقوده روح ثورية مشرقة، ونزعة وطنية متأصلة، تعلَّق برئيسه وبما يمثله، وبحكومته وما ترمز إليه، تعلقا لا نظير له، كان على استعداد ليقلع الجبال الرواسي، ويخوض عباب البحر، لو طلب منه ذلك. لم تكن ثمة مشكلة مع الشعب الجزائري لصناعة مُعجزات الاستقلال، كما صنع معجزات الكفاح. كان طينة طيبة، يعجنها من يحكمها كيفما شاء. غير أن الصدمات لم تتخلف، والانتكاسات لم تبطِئ. ها هو هذا الشعب الأبي يُرزأ في من كان يعتبرهم صحابة وأنبياء، كما أخبرنا من كان قبلنا عن نظرتهم لقادة الثورة.
رجال بحجم بوضياف، وكريم بلقاسم، وخيضر، وآيت أحمد، يُشرَّدون، ويفرون من وطنهم الذي حرّروه، بل ويُعتدى على من أحبهم وناصرهم وناضل معهم أيام الثورة، وتُطهرُ مؤسسات الدولة مِن كل من لم يناصر الحلف الذي تغلب وحكم البلد. كل واحد من أولئك الأبطال الذين شُرِّدوا، وبعضهم تم اغتياله في عهد الراحل بن بلة، كان بإمكانه أن يكون رئيسا للدولة الجزائرية، لو قبل التحالف مع قيادة أركان جيش الحدود، الذي زحف على الجزائر بعد الاستقلال، وانقلب على شرعية الحكومة المؤقتة، وأسس لنظام حكم غير ديمقراطي، لا زلنا إلى الآن لم نقدر على تصحيح أوضاعه. يقول كثير من العالِمين بأوضاع الصراع على الحكم الذي اندلع بعد انتصار الثورة النوفمبرية المجيدة بأن قائد الأركان هواري بومدين الذي كان فاقدا للرمزية السياسية والمصداقية الشعبية عرض التحالف في بادئ الأمر على بعض القادة المشهورين لاستلام السلطة قبل عرضها على بن بلة، ومن هؤلاء محمد بوضياف وآيت أحمد، ولكنهم رفضوا ودافعوا عن تأسيس نظام ديمقراطي تعددي. وتؤكد الشهادات الكثيرة بأن بن بلة تحالف مع بومدين، لأنه كان يحتاج أن يضيف إلى مصداقيته السياسية قوة عسكرية تحسم مسألة الحكم لصالحه.
ربما لم يكن لدى بن بلة في تلك المرحلة التجربة الكافية التي تنبئه بأن اللعب في السياسة مع العسكر لعب خطر، وأن إدخال العسكري في السياسي مآله الدكتاتورية والهيمنة، كما أثبتته تجارب الشعوب كلها في مختلف أنحاء العالم. كانت الصورة تكون ربما أجمل، وحالنا يكون أفضل، لو تعاضد أولئك الزعماء السياسيون العباقرة للمحافظة على الحكومة المؤقتة، وتأسيس نظام ديمقراطي، يتوزعون فيه على أحزاب عديدة راشدة ومسؤولة، يتنافسون من خلالها على الحكم، بلا عنف ولا إقصاء ولا تشريد، وفق دستور يُجمعون عليه، تحميه المؤسسة العسكرية الناشئة. لم يطل الزمن ليدرك بن بلة حجم الخطإ الذي وقع فيه، إذ انقلب عليه بومدين بعد سنتين من تحالفهما، وجعله يقضي خمس عشرة سنة في غياهب الإقامة الجبرية، وحرّم على أجيال الاستقلال معرفته والاستفادة من تجربته.
كانت فترة السجن كافية ليراجع بن بلة نفسه، ويعود لأصله الطيب، وليتذكر الجلسات التي كان يقضيها مع البشير الإبراهيمي -كما تذكر أخته- حينما كان يفر من دروس ذلك الأستاذ الفرنسي المتعصب، الذي تخاصم معه وهو شاب صغير، لما شتم أمامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصار يجد نفسه أقرب لكل من يرى في الإسلام والعروبة منهجا لوحدة الأمة ومجدها وسؤددها في داخل الوطن وخارجه، وصار همزة وصل بين حماة الانتماء العربي ودعاة الإسلام، يعتبرونه جميعا سندا لهم ومُلهِما لفكرهم، لا سيما وأنه هو الثوري العالمي صديق شي غيفارا وماندلا، يرى نفسه بأنه -وفق ما صرح به-أُبْعِد عن الحكم خدمة للامبريالية، عشية مؤتمر عدم الانحياز الذي كان يعتزم تنظيمه في الجزائر، والذي كانت تُتوقع منه نتائج كبيرة في إعادة ترتيب المنظومة الدولية. علم بن بلة بأنه هو المسؤول الأول عن الوضع الذي وجد فيه نفسه، فلم يحاسب أحدا بعد خروجه من الإقامة الجبرية، ولم يلم أحدا، ولم يذكر أحدا بسوء، وغفر للجميع، وتعامل مع خصومه بسماحة مدهشة، قل نظيرها، لا نقرأها إلا في كتب الأوّلين، جعلت منه حكيما وقدوة مثاليا، قلّ مثله على أبواب هذا الخُلق العظيم. نسأل الله أن يتغمده بمغفرته ورحمته… فهل من معتبر؟