-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أسواق المرابين يتخبطها الشيطان من المس

حبيب راشدين
  • 8107
  • 0
أسواق المرابين يتخبطها الشيطان من المس

لا قول أصدق من قول آينشتاين في الولايات المتحدة حين قال: “إن الولايات المتحدة تشكل دولة انتقلت مباشرة من البربرية إلى الانحطاط دون أن تعرف الحضارة” أو قول إدوارد هيريو: “أن تحيا حياتك هو أن تنغص على الآخرين حياتهم”، فهذه الدولة الجبارة لم تفوت فحسب على نفسها، مواعيد كثيرة، وتضيع فرصا عديدة لتشييد حضارة، مع ما توفر لها في تاريخها الممتد لأزيد من قرنين، من موارد كثيرة، وتراكم غير مسبوق للثروة، حتى صارت مثالا للدولة التي “تحيا حياة الرفاهية بتنغيص الحياة على بقية الشعوب”. ومنها ما تفعله اليوم بأزمتها المالية العميقة التي تقف بالاقتصاد العالمي على حافة الهاوية.

 .

تريليون دولار للمؤلّفة قلوبهم من الأولي غارك

 الزلزال العظيم الذي ضرب البورصات العالمية والأسواق المالية في المعمورة، انطلاقا من الأسواق المالية الأمريكية، استقبلته الحكومات الغربية بجزع عظيم، تداعت إليه الحكومات ومؤسساتها المالية بمواقف حازمة، وقرارات استثنائية، وإجراءات غير مسبوقة، تنكرت فيها الليبرالية الغربية لأهم أصولها الفكرية ومرجعيتها العقائدية، ومنها مبدأ “دعه يعمل دعه يمر” الذي يحرم على الحكومات التدخل في نظام السوق المقدس عندهم.
 . 
 
تريليون دولار لحفنة من الأولي غارك
 
 عتاة الليبرالية في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، لم يترددوا لحظة في الاغتراف من المال العام، وعوائد الجباية، لإنقاذ كبريات البنوك من الإفلاس، وهم الذين سلطوا على حكومات الدول النامية الفقيرة، عبر البنك العالمي وصندوق النقد الدولي بترسانة من المحرمات، ومنها تحريم استعمال جانب من المال العام لدعم أسعار المواد الغذائية، ويعتبرون دعم الحكومات لقطاعات اجتماعية خدمية، مثل الصحة والتعليم كفرا وخروجا عن الملة الليبرالية.
الولايات المتحدة وحدها، لم تتردد في الاغتراف من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين بلا تعفف، لإنقاذ واحد من أكبر المصارف الأمريكية من الإفلاس، تلاها ضخ مليارات الدولارات لإنقاذ واحدة من أكبر شركات التأمين، ثم الإعلان عن تخصيص ما لا يقل عن 700 مليار دولار من المال العام، من أجل إنقاذ بقية المتعاملين في البورصات الأمريكية من الإفلاس الذي كان يهدد البورصات طوال الأسبوع المنصرم، بيوم ألعن من “الخميس الأسود” الذي ضرب البورصات الأمريكية سنة 1929.
تقارير جهات مالية مختصة قدرت الجهد الذي ينبغي للحكومات الغربية أن تبذله، خلال الشهور القليلة القادمة، بنحو تريليون دولار، أي ألف مليار دولار من السيولة التي يجب أن تضخ إلى الأسواق لوقف النزيف. ومع ذلك، فإن المدير السابق للخزينة الأمريكية السيد غريسبان، وصف الأزمة التي تؤرّق اليوم زعماء الليبرالية على أنها أخطر أزمة منذ مائة عام على الإطلاق.

 .
 
كمن يتخبطه الشيطان من المسّ
 
العشرات من الندوات التي جمعت خيرة الخبراء الاقتصاديين والماليين، أحاطت بالأسباب التي كانت وراء هذه الأزمة، ولم تبق صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، باستثناء أن يتجرأ أحدهم على مجرد الإيحاء أو الإشارة العابرة إلى السبب الرئيس الذي كان ولا يزال، وسوف يظل يهدد النظام المالي والاقتصاد العالمي بأزمات دورية، وأعني هنا التعامل الربوي المقيت الذي يميز النظام المالي العالمي، والذي يجعل اليوم الحكومات الغربية تفزع “كمن يتخبطه الشيطان من المسّ” تصديقا لقوله تعالى: “الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس”.
مصرف ليمان بروذرز الذي أفلس، كانت له أصولا قدرها الخبراء بما يزيد عن 650 مليار دولار، وهو رابع مصرف عالمي، حقق في العام الماضي فقط ما يزيد عن أربعة ملايير دولار من الأرباح، فكيف صار بنك بهذا الحجم، وبهذا المستوى من الأرباح إلى الإفلاس في بحر شهور قليلة؟

 .
 
عبث حقيقي داخل فقاعات ثراء افتراضي
 
 الثقافة الاقتصادية المعاصرة المعقدة لا تسمح اليوم حتى لخبراء ماليين مرموقين الإحاطة بالتفريعات المستحدثة في الأنشطة المالية لكبريات المصارف والأسواق المالية، التي تتعامل داخل فقاعات من الثراء الافتراضي، وتتداول فيما بينها منتجات مالية وهمية ليس لها علاقة البتة بالواقع الاقتصادي المادي، من صناعة وفلاحة وخدمات. فمعظم السندات والأسهم المتداولة في البورصات العالمية ليس لها صلة بأصول حقيقية لشركات تمارس عملية الإنتاج والخدمات، بل ان معظمها أسهم مضاربة على هوامش الربح المتوقعة لقروض ائتمانية ربوية صرفة. فمصرف »ليمان بروذرز« الذي أفلس كان يضارب بأموال طائلة وبالمكشوف، على هوامش الربح من قروض أنجزت في المجال العقاري بلا ضوابط، وبتغييب كامل للضمانات المعتادة.

 .
 
سخاء ليبرالي للمؤلفة قلوبهم من الـمُرَابِين
 
من دون أدنى تردد قامت الإدارة الأمريكية بتحويل عشرات المليارات من الدولارات من المال العام لشراء ما أسماه خبير مالي بـ»المواد السامة« في الأسواق المالية، أي مجمل القروض غير الآمنة التي جازفت فيها المصارف الكبرى؛ بمعنى أن الإدارة ألزمت دافع الضرائب الأمريكي بشراء أصول فاسدة، ومنتجات مالية غير قابلة للاسترجاع، حتى ترفع الحرج عن المصارف المضاربة، وتبعد عنها المسؤولية الجزائية التي يتحملها الطرف المفلس، لأن هذه البنوك لم تكن تضارب بخالص أموالها، بل بأموال من الودائع البنكية أو بأموال من غررت بهم من زبائنها.
التريليون دولار الذي سوف تدفع به البنوك المركزية في كبريات العواصم الغربية للتغطية على جرائم زمرة من المضاربين، كان سيكفي لاجتثاث المجاعة من المعمورة بلا رجعة، ويساعد على القضاء على وباء السيدا الذي يبيد القارة الإفريقية، ويمحي الأمية من وجه المعمورة، ويكفي أن نقول إنه يعادل أو يزيد عن الميزانية السنوية لـ25 دولة نفطية بحجم الجزائر، أو يعادل الدخل الفردي السنوي لمليار وثلث مليار من فقراء العالم. وبوسعك أن تعقد ما تشاء من المقارنات والموازنات. بل إنه يزيد بكثير عن الجهد المالي الذي يقول خبراء المناخ إنه يكفي لإنقاذ مناخ الأرض من كارثة الاحتباس الحراري.

 .
 
نهاية مأساوية لأسطورة نهاية التاريخ
 
ما يعنينا أن نحرره في هذا المجال وبعجالة أمور خمسة من وحي هذه الأزمة المالية الكبرى التي تعد بزلزال أعظم بات يهدد الاقتصاد العالمي.
 
الأول: أن النظام الغربي لا يتردد، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الاقتصادي، في التنكّر السريع لأهم مبادئه ومرجعياته العقائدية، حين تكون مصالح الصفوة المتنفّذة مهددة في المقام الأول، ثم مصالحه القومية في المقام الثاني. فكما تنكرت الحكومات الغربية لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في مواطن كثيرة، وحللت لنفسها الفسوق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في حق الشعوب المستضعفة، قبل أن تطال شعوبها ببعض مما تمكر به في حق الشعوب المستضعفة، فإنها تكفر بسهولة كبيرة، بأهم المبادئ التي يقوم عليها النظام الليبرالي، ومن أهمها مبدأ “امتناع الحكومات عن التدخل في قوانين السوق”.
 سلة الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية بكلفة تقدر بسبعمائة مليار دولار من المال العام لشراء القروض الفاسدة من المصارف المفلسة هو صيغة من صيغ التأميم الذي حاربته الليبرالية بقوة وحرمته على بقية الدول.
يذكر الجميع كيف أن صندوق النقد الدولي كان ولايزال يشترط على الدول النامية الإقلاع عن دعم القطاع العام، والتشجيع على خصخصة بلا حدود، ويمنع أي شكل من أشكال الدعم للقطاعات الخدمية، مثل التعليم والصحة، ناهيك عن تحريم دعم المواد الاستهلاكية. فهل بقي شيء من أساطير فوكو ياما حول “نهاية التاريخ” على يد الليبرالية الغربية؟
الثاني: أن النظام الغربي، بحكوماته المنتخبة، لا يكيل بمكيالين فقط حيال الدول والشعوب المستضعفة، بل نراه في مثل هذه المناسبات يكيل بأكثر من مكيال حين يتعلق الأمر بالأزمات والمصاعب التي يواجهها عامة الناس من جمهور الناخبين، والأزمات التي تتعرض لها نخبة النخبة من الأولي غارك، وأرباب المال والأعمال. فقبل أن تهرع الإدارة الأمريكية بهذه السرعة، وبهذه المبالغ الخيالية لنجدة حفنة من أرباب المال المرابين الذين يلعبون في ساحات البورصات يوميا بتريليونات الدولارات، لم تلتفت إلى مآسي ضحايا أزمة الرهن العقاري التي أحالت آلاف الأسر الأمريكية إلى قارعة الطريق. وقبلهم ظل ضحايا إعصار كاترينا ينتظرون أسابيع طويلة، قبل أن تصلهم النجدة من الحكومة الفدرالية بقدر من التقتير والشح.

 .
 
عندما يجدد كيسنجر خطاب القرصنة والافتراس
 
الثالث: وهذا هو الأهم بالنسبة لدولنا وشعوبنا، أن الإدارة الأمريكية وحكومات الدول الغربية سارعت لإنقاذ كبريات المصارف الغربية التي كانت على حافة الإفلاس، ولم يلتفت أحد إلى الخسائر التي سوف تتكبدها مصارفنا ومؤسساتنا المالية، التي جعلتها العولمة تنصهر في هذا النظام المالي العالمي الذي ينخره الربا. فالبورصات العربية على سبيل المثال كانت من أكثر البورصات في العالم التي تأثرت سلبا بمضاربات كبار المصارف الغربية، حيث خسرت البورصة المصرية في بحر أسابيع قرابة أربعين في المائة، نتيجة هروب المستثمرين الغربيين المضاربين منها، ونقل ما بيدهم من السيولة لتعزيز مواقفهم في البورصات الغربية. ويلاحظ المتتبع للبورصات الخليجية في الأشهر القليلة المنصرمة حجم التقلبات والاضطرابات التي تمنعها من أن تكون مصدرا يعول عليه في جلب الأموال للاستثمارات المنتجة.
– الرابع: قد يكون الوقت جد مبكرا للإحاطة بحجم الخسائر التي سوف تلحق بالأموال النفطية العربية التي يتداول الجزء الأكبر منها في المضاربات بالبورصات الغربية، سواء على يد الخواص، أو على يد الحكومات التي تفضل المضاربة بعوائد النفط بدل استثمارها في القطاعات الإنتاجية، وبناء المنشآت القاعدية الضرورية لقيام اقتصاد سليم وجذاب للاستثمارات.
– الخامس: لم نسجل أي تحرك عربي في اتجاه استشراف هذه الأزمة المالية العالمية، التي يرى فيها خيرة الخبراء الاقتصاديين والماليين عرضا لداء عضال، لن يصيب الاقتصاديات الغربية خاصة، بل يتوقع له أن تكون الدول النفطية أولى ضحاياه، سوف ينتهي بالتهام عائدات هذه الطفرة النفطية الثالثة والأخيرة.
أخطر ما في هذه الأزمة أنها تزامنت مع تفسخ في العلاقات الدولية واستهتار صارخ بالقانون الدولي، وسقوط مدوي لجميع أوجه ومعاني سيادة الدول والشعوب، بما يهدد بمرحلة قادمة، لن تتردد فيها الدول الغربية المستكبرة في السطو علانية ودون حرج على ما بين أيدي بقية الدول والشعوب، كما فعلت الولايات المتحدة في العراق. وليس من الصدفة أن يخرج علينا في هذه الأيام هنري كيسنجر بخطاب لا يختلف عن أقوال القراصنة في القرن التاسع عشر بالقول إنه من غير المنطقي أن تكون دولة مثل الأمارات العربية المتحدة بهذا العدد القليل من السكان متفردة بملكية هذه الثروة النفطية، وما يصلح على الإمارات يصلح على السعودية وفنزويلا وليبيا وقطر والجزائر. ومن يعرف مكانة كيسنجر في الدوائر العليا لصناعة القرار الإمبراطوري لا يأخذ مثل هذه التصريحات على محمل الهزل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!