-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أحلام مستغانمي وذاكرة "الميل فوي"

“أصبحت أنت”.. سيرة مجاهد ظلمه الاستقلال

زهية منصر
  • 782
  • 0
“أصبحت أنت”.. سيرة مجاهد ظلمه الاستقلال
ح.م
كتاب مستغانمي الجديد

تقف أحلام مستغانمي في كتابها الأخير “أصبحت أنت”، من شرفة التاريخ لتطل على سيرة والدها المجاهد الشريف مستغانمي، وتعبر صاحبة “ذاكرة الجسد” تاريخ الجزائر عبر “ثلاث حقب” الثورة، الاستقلال، وما بعد الانهيار ودخول الجزائر مرحلة الإرهاب، إذ يكتشف القارئ في هذا الكتاب مدى ارتباط الكاتبة بوالدها وأثره عليها ودوره في مسارها الأدبي والعلمي، ومن خلاله تفتح أحلام نافذة لقارئها لاكتشاف جزء من مسيرتها ومن يقف وراء أشهر أعمالها “ذاكرة الجسد”، كما لم تنس في السياق أن تفتح بعض ذكرياتها ومحطاتها وتشير للذين ساهموا في عرقلتها .
تعود أحلام لدفاتر والدها المجاهد الشريف مستغانمي، الذي عرف سجون فرنسا رفقة كاتب ياسين عقب أحداث 8 ماي 1945 وحياته في تونس وعودته إلى الجزائر عشية الاستقلال، ثم انهياره العصبي على إثر محاولة اغتياله، بعد أن دخلت الجزائر مرحلة تصفية الحسابات بين رفقاء السلاح، ثم رحيله عام 1992 بعد دخول الجزائر نفق العنف والإرهاب.
تحيلنا أحلام في هذا الكتاب إلى سيرة والدها “الشاعر المثقف التقدمي”، الذي منعه الاستعمار من تعلم اللغة العربية فوجد فرصة لتثأر له ابنته أحلام وتكون من ضمن الخرجين لأول ثانوية معربة في الجزائر.
في هذا الكتاب الصادر عن “هاشيت أنطوان نوفل”، يكتشف القارئ مصدر إلهام أحلام ومدى تعلقها بوالدها وأثر تلك العلاقة على إبداعاتها لاحقا، فقد عمل والدها على دعمها في أول أمسية شعرية نظمتها رفقة الراحل الطاهر جاووت بقاعة الموقار “يوم دخلت القاعة أحلام وخرجت منها أحلام مستغانمي”، فعلى غير عادة رجال جيله دافع الشريف مستغانمي عن ابنته ولم يقمعها وتصدى للهجومات التي طالتها من القاعة فكانت بدايتها للانطلاق الإبداعي.
في سيرة أحلام وسيرة والدها إطلالة أيضا على الجزائر وشعارات الثورة وحرب التحرير وصراعات ما بعد الاستقلال، إذ لم تفوت الكاتبة الفرصة لتقف عند من تسبب في إقصائها والوقوف حجر عثرة في طريقها، منذ أن منعتها مديرة الثانوية من اجتياز امتحان البكالوريا في الثانوية، لأنها صارت وهي مراهقة نجمة عبر برنامجها الإذاعي، بعد أن اضطرتها الظروف للتكفل بعائلتها، لأن معاش والدها المجاهد تم إيقافه عندما دخل مصحة الأمراض العقلية، ومُنعت أحلام أيضا من حضور مؤتمر اتحاد الكتاب، رغم أنها كاتبة ومبدعة وكانت عضوة فيه، وبالطريقة ذاتها مُنعت من مواصلة الدراسات العليا واجتياز الدكتوراه التي حصلت عليها لاحقا من جامعة السوربون، لكنها فضلت دائما لقب أحلام مستغانمي وأهدت لقب الدكتوراه لوالدها.
بقدر ما كانت علاقة أحلام متينة ومتواطئة مع والدها، كانت علاقتها بوالدتها صدامية فعلى عادة الأمهات أرادت لها أن تكون “ست بيت”، لكنها ربحت في الأخير المعركة وتمكنت من الخروج من دائرة “العيب”، ونفضت عنها قدر “ست البيت”، واعتنقت قدرا آخر له علاقة بما راكمته من خسارات وانكسارات على مر العمر والمحطات.
كسبت مستغانمي معركتها العائلية في الأخير، بعدما راكمت خسارات لم تعوضها عنها سوى الكتابة.
بعض الأماكن في العاصمة الجزائرية نعبرها بدون أن تلفت الانتباه، لكن مع أحلام صار لتلك الأماكن ذاكرة وتاريخ وقيمة تاريخية أو معنوية على غرار حديقة قصر الحكومة، رواق العرض محمد راسم، مصحة مايو بباب الوادي، ثانوية عائشة وغيرها.
ومن خلال الكتاب السيرة، تحيل أحلام قراءها إلى بدايات أو إرهاصات روايتها الأشهر “ذاكرة الجسد”، وكيف ولدت تلك الرواية المدهشة، وكيف جمعت فيها كمية الألم والفخر، وكيف امتزجت فيها أقدار وأمزجة وتاريخ الجزائر، لتعطي لنا رواية تؤرخ لذاكرة الجزائر.
في هذا الكتاب يلتقي القراء ببن بلة وبومدين وجميلة بوحيرد، كما يلتقون بهنري مايو وهنري علاق وفرنان أفتون وفرانس فانون وغيرهم “من المناضلين وأصحاب المبادئ الذي ساهموا في صناعة قدر الجزائر قبل أن يختطفها الحركي وتجار الساعات الأخيرة للنضال”.
تمزج أحلام في هذا الكتاب، بين السرد والاعتراف، وتبوح بأولى علاقاتها زمن المراهقة وهي تكتشف وتتلمس العالم من حولها وتمنح القارئ بعضا من أسرار الشريف مستغانمي وهو يكتب رسائل الحب بفرنسية أنيقة، رسائل بوح ومنفي لم تسعه العربية ليقولها، لتصبح ابنته أحلام أمله في أن تنتقم له منها، ولاحقا ستكتب أحلام الشعر وسيقودها إلى الاختطاف من البيت من قبل “مخابرات الثورة”.
وأحلام التي اكتشفت زوربا اليوناني وأراغون ونخبة الكتاب الفرنسيين في مكتبة والدها، نكتشف لاحقا أنها استغلت كل ذلك المخزون من ذكريات والدها لتتكئ عليه في كتابة “ذاكرة الجسد”، فعندما أتمتها كان والدها قد رحل إلى العالم الآخر في تسعينات القرن الماضي والجزائر تدخل مرحلة أخرى من تاريخها.
تكشف مستغانمي من خلال كتابها هذا أن والدها تحايل على طبيبه الذي أراد استعمال جسر الكتاب لمعرفة أسباب انهياره، فكان يدون أراءه السياسية في كراس يخفيه ويدون مذكراته أو رسائله العاطفية في كراس آخر يتركه في متناول الطبيب، لأن “التعري أمام عدو الأمس فضيحة أو منقصة”، لم يرد مجاهد الأمس منحها لعدو الأمس.
خلف المجد الذي صنعته أحلام، تختفي حياة مليئة بالكفاح وإثبات الذات نكتشفها من خلال الكتاب، لدرجة يصير فيه شراء قطعة حلوى “ميل فوي” حدثا يستحق الاحتفاء، إذ تتحدث أحلام عن اللحظات التي كانت تتوقف فيها عند المخبزة لشراء حلوى “الميل فوي”، في زمن كانت فيه تناضل وتكافح وهي في بداية شبابها من أجل ضمان حياة كريمة لعائلتها بعد توقيف معاش والدها المجاهد، وعندما تحسنت وضعيتها وزادت إمكاناتها المادية ظلت قطعة “الميل فوي” في حيها ومدينتها أفضل من تلك التي يقدما أشهر محل في باريس.
تتكئ أحلام مثل العادة على لغتها وموهبتها في تطويع الكلمات واختيار العبارات في عبور أزمنة الجزائر وجزء من حياتها وحياة والدها المجاهد الشريف مستغانمي، وفي هذا الكتاب تنصف أحلام مستغانمي بكل عفويتها اللغوية وجمالياتها وحكمتها الأدبية والدها وتهديه بعد رحيله سيرتها أو سيرته، وكأنها تريد أن تقول له أنها صارت تستحق أن تكون ابنته، وأنه بإمكانه أخيرا أن يفتخر بها، وتعيدنا أحلام عبر كتابها الى الطفولة والعفوية والصدق، الذي يسمح لك أن تطل من شرفة العمر وأنت تتأمل خساراتك وتعدها بكل ابتسام لا لشيئ إلا انك نجحت اخيرا في مخالفة توقعات من كان يراهن على سقوطك، ولا بأس بعدها أن تكون وصلت بعد عمر من الخسارات والانكسارات والجروح.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!