-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أفول الوطنية من الدولة القُطرية

أفول الوطنية من الدولة القُطرية

الناظر من الفضاء العالي إلى الأرض لا يبصر الحدود الموضوعة بين الدول على كوكبنا الأزرق، بل إنه لا يكاد يميز بين الدول القُطرية المتجاورة لضآلة ما تقوم عليه من مساحة، بخلاف من يقطن تلك البلاد، فإنه غالبا ما يراها متسعة وحدودها بيّنة، ووجودها حاضرٌ في وجدانه لا يكاد يفارقه؛ لذلك تعمد الأنظمة السياسية كلها إلى ترسيخ كينونتها بنشر الشعارات التي تدلّ المواطنين عليها، كرفع الأعلام، وكتابة اليافطات، وتعليق صور الزعيم، والدمغ بخاتم الدولة على كل الوثائق الرسمية، وتلاوة الأناشيد الوطنية… قائلة: إننا هنا، معك حيثما كنت، فلزاما عليك أن تسمع وتطيع، وإلا فالويل لك والثبور، وعظائم الأمور!

وطني حيث تمتد أمتي
المواطن في الدولة القُطرية -التي نشأت عندنا فعليا عقب الغزو الأوروبي لبلدان الخلافة العثمانية- لا يستوعب كثيرا “الكانتون” الذي وُضع فيه، بعدما كان حرا طليقا يحيا في دولة ممتدة امتداد الأمة التي ينتمي إليها؛ دستور ينظم العقد بين السلطة والشعب، وقوانين تسيّر المجتمع، وقطعة أرض مرسومة جغرافيتها بحدة، يجب على من يعيش عليها أن يقدِّم إليها، من دون غيرها، قرابين الولاء والحب، وإلا فقد خان الوطن. ومع طول العهد بهذه الأدبيات واطّرادها في العالم، بات الإنسان يسلم قياده لها من دون أن يراجع واقعه الذي فيه يعيش، لعل في واقعه ما يضرّ.
عندما كتب المصطفى صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة المنورة في السنة الأولى للهجرة، خط فيها بنودا مهمة للغاية في مفهوم الأمة المسلمة الواحدة، وقد وُجد في قراب سيف عليٍّ (كرم الله وجهه) كتابٌ فيه كلمات جامعة لها علاقة بهذا الشأن: “المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويردُّ عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم”؛ أي أن الانتماء “الوطني” يستند إلى العقيدة ابتداء، فحيثما وُجدت العقيدة مُدّ حبل الوطنية، انحسرت الرقعة الجغرافية عليها أم اتسعت. وبما أن الأرض تحت أقدام الأمة تتقلص وتتسع بحسب الكيان السياسي الذي يحتضنها، فإن الوطنية باقية بقاء الأمة؛ بعبارة أوضح وطني حيثما توجد أمتي، ولو كانت أمتي أكبر من دولتي. من هنا ندرك خطر انحباس الوطنية، وهي شعورٌ بالانتماء يستدعي محبّة وولاءً وفداءً، على الدولة القُطرية، فيصبح وطني بحجم وكر وُلدت فيه وترعرعت، وقلدني منه وثيقة رسمية تثبت للناس هويتي: هذا أنا وهذي جنسيتي وكفى.
لا يمكن للمسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا سول الله العيش أن يكون مبتور الصِّلات مع أمته المترامية الأطراف، ولهذا لم يكتف المواطن في الدول القُطرية بدولته، فعدد الجنسيات، مثنى وثلاث ورباع، ولم تستطع أيُّ دولة من هذه الدول أن تُقنع مواطنيها بالاكتفاء بها، نظرا لقصور إمكاناتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية عن بلوغ الغايات التي يحلم بتحقيقها رعايا تلك الدول المستحدَثة بعد فترة الاحتلال، ناهيكم أن الصِّلات السالفة الذكر متشابكة جدا بين شعوب أمةٍ مسلمة تقسمت سياسيا شذر مذر، وإن بقيت متوحدة ثقافة وتاريخا ولغة.

الأمة في عهدة نوفمبر
ولأمر ما خُطت، بلا تكلّف، في بيان الفاتح من نوفمبر غاية كانت من نبل الثوار بمكان، أن الثورة الجزائرية قامت لـ”تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي”. وتأمَّل معي -أيها القارئ الكريم- لفظة “الطبيعي” لتتلمَّس نقاء الفطرة الإنسانية في الجزائر أيام الاحتلال، وهي فطرة كانت لا تزال على صفائها رغم كدر الظلم والطغيان. فكيف تبدلت الحال غير الحال في غضون سنوات، ليُلغى هذا المطلب المضمخ بالدماء ويغدو نسيا منسيا!؟
إن من حق الأجيال الصاعدة أن تسائل سادتها عما أنجزوه من عهدة نوفمبر فتثيبهم عليه ثوابا، وعما قصّروا فيه فتُحاسبهم عليه حسابا. الساسة عندنا لما تقدّموا من تلقاء أنفسهم ليحكموا فقد تشرّفوا بخدمة الشعب، فمن غير المعقول أن يتصرّفوا كملوك لا يُسألون عما كانوا يفعلون. ولعلها كانت للحكام، في تركة الاستعمار، غنيمة حرب بعدما قضى الصقورُ نحبهم وبقي آخرون يتربصون بالشعب الدوائر؛ فالتحكّم في قطعة من الأرض بحجم دولة قُطرية ليس من العسر كما لو كانت الدولة إقليما يضم شمال إفريقيا أو بلاد الشام أو شبه الجزيرة العربية أو غيرها من أقاليم مثلا، كانت بعد الفتح الإسلامي تخضع مجتمعة بطواعية لسلطة موحّدة.

“الحرقة” بين الحق الإنساني والقانون الدولي
يتجسد منطق القوة في القانون الدولي، الذي صاغ بنودَه “المستكبرون” ليحكموا به العالم بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، وقد حصّن هؤلاء بلدانهم بترسانة من القوانين تمنع النزوح إليها من دول الجنوب، رغم التناقض الصارخ لذلك مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو إعلانٌ محرِج لدول الشمال، إن تعلق الأمر بحقوق البشر في البلدان المستعمَرة؛ وتلكم مفارقة تدين الفكر الغربي الذي يسيطر على دوائر القرار العالمي عامة. ليتبدّى للناظر من علو، في هذا المشهد المرسوم بأنامل البشر، الظلم الذي تعيشه الإنسانية على البسيطة، فبات من العدل ألا يستمر الحال على هذا المنوال.
تتماهى السياسات الدولية الفاعلة والمنفعلة على حد سواء في تجريم ظاهرة “الحرقة”، إذ لم يروا فيها غير نزوح غير مشروع لجماعات من البشر انطلقوا من دول المنبع تخالف قوانين الهجرة في دول المصبّ، فكان لزاما مواجهة الظاهرة بكثير من الحزم لأنها ستشوِّه العالم المتحضر وقد تدمر اقتصاده؛ من دون أن يطرح هؤلاء القضية بإنصاف وعدل على مائدة البحث، فتقارب الجذور العميقة لها، وهي جذور تضرب في أعماق التاريخ، عندما سطا الغرب على الشرق، فنهب خيراته وجعل منه تابعا لا يقدر على الفكاك منه إلى يوم الناس هذا.
إننا إذا استبعدنا الجانب المهين من ظاهرة “الحرقة”، والمخاطر الذي تهدد حياة الراكبين إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، يمكن أن نستشفّ جوانب أكثر إشراقا في ما يفعله هؤلاء بأنفسهم وبالمجتمعات التي غادروا منها والتي هاجروا إليها. وهم في حالهم هذا خيرٌ من الأفارقة الذين ساقهم السادة البيض عبيدا إلى العالم الجديد في القرن السابع عشر سخرة لجشعهم الذي لا حدود له. إن معظم المهاجرين اليوم من السواحل الشمالية للقارة السمراء لديهم شبهة حق في ما يقدمون عليه، فمن جنى عليهم وسرق أحلامهم وأفقر أمتهم وعضد الاستبداد في بلدانهم، هو من يجب عليه التعويض عما فات، وما فات ليس أمرا هيِّنا يسيرا.
إن “الحرقة”، وقد غدت أمرا مقضيا، تحمل في جرابها لأوروبا الغربية خيرا كثيرا، أوروبا التي شاخت اليوم بحاجة ملحّة إلى دماء تجدِّد الحياة فيها؛ فهاهي الأقدار قد بعثت إليها بسيول متدفقة من الشباب اليانع شرقا وغربا فلتهتبلها، سيول تنبض بالإيمان والحيوية، افتقد إليهما الإنسان الأوروبي فعاش في كوخه المذهَّب كئيبا وحيدا.
قد لا يتحسس الذي “يغزو” أوروبا اليوم بقوارب الموت أنه يقوم بفتح جديد يشبه ذاك الذي كان، لأن النيات التي دفعته لذلك الفعل مختلطة لم تنخل بعد، ولو درى هذا المسكين أنه ربيئة تحمل مشعل الحق الذي بين جوانحه لكان من الوارثين. فليعلم، إذن، كل واحد من هؤلاء أنه لو أقام من أركان دينه الصلاة وأدى الصيام، وعفّ نفسه عما حرّم الله، كفاه ذلك لأن يتشبه بالفاتحين الأولين. وبقي عليه أن يجد في بنات أوروبا المسلمات ثم من الكتابيات خير معين على الحياة، حياة رومنسية تحلم بها هؤلاء النسوة فلا يجدنها في القرين القريب، ويقرأن، وهن مستلقيات على الأسرة، حكايات شهرزاد، أن مع الفرسان القادمين من بعيد صفاء الطوية، وحرارة اللقيا، ودفق الحياة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!