أنا… وبعدي الطوفان
هم عشرات الملايين وهو نفر واحد ووحيد، هم بعضهم دون سن العشرين “شتاء”، وهو في سن الثالثة والثمانين “ربيعا”، هم معظمهم لا يأكلون وهم جائعون وإذا أكلوا هيهات هيهات أن يشبعوا، وهو في حالة تُخمة مزمنة، هم يحلمون بأن لا يفشلوا..
-
وهو مقتنع بأنهم سيفشلون ويذهب ريحهم ويموتون ويبقى وحده إلى ما بعد يوم الدين.. الأيام تمر ثقيلة جدا على أمة جذورها مغروسة في الحضارة الفرعونية وأغصانها تتطلع إلى زمن بلا ديكتاتورية، وتمر سريعة جدا في حياة رجل يؤمن بأن مغادرته الحكم سيُغرق بلده في الفوضى وكأنه يقود قطيع أغنام، رجل يأخذ عن توت عنخ آمون تحنيطه وعن أبي الهول صموده ويرفض أن يأخذ عن فرعون توبته بعد الطوفان ويتمسك بـ “ونجيناه ببدنه”، رجل يعمل على أن يجيء الباطل ويُزهق الحق برغم الأرقام التي تتهاطل على رأسه الداكن السواد من خسائر اقتصادية وهجرة قرابة المليون سائح ومعاناة أرباب أسر من دون رواتب ومعاشات في مآس لم تحرك شعرة سوداء من رأسه، وبرغم الأخبار التي تحاصره من انقلاب المقربين منه وابتعاد الأمريكان والأوروبيين عنه في مواجع لم تزده سوى تمسكا بأن يبقى رئيسا من دون شعب في زمن تغيرت فيه الشعوب العربية ورفض الحكام أن يتغيروا، شعوب قررت أن تلاحق من سبقوها في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا بعد أن غادر القطار الأوروبي السريع المكان والزمان وانتهى زفيره.. هم يعصفون ويبرقون لأجل التغيير والحكام لا يرعدون، هم يقرعون طبول الحرب والحكام لا يخرجون للمبارزة، هم يعلكون صيحات النفير والرفض والحكام لا يهضمون ولا يبلعون.
-
ماذا ينتظر الرجل أكثر من صيحات النساء والعجائز والرضّع وهم يدعونه للرحيل، وماذا ينتظر أشباهه في الوطن العربي وهم يدركون أن المسلسلات العربية الثورية لا تشبه مسلسلات الحب القديمة بلقاء الحبيب وحبيبته وإنما بهروب البطل وموته في الغربة بلا جنازة ولا تأبينية ولا حتى… رحمه الله.
-
الشاب المصري الذي سيحتفل الخريف القادم بعيد ميلاده الثلاثين وُلد فكان مولده “مباركا”، فرح فكان عيده “مباركا”، حزن فكان حداده “مباركا”، حلُم فكان حلمه “مباركا”.. ويرفض الآن أن يكون موته أيضا “مباركا”.
-
المثل العربي المتشائم جدا يقول “أنا وبعدي الطوفان”، والحكام العرب أرادوه أكثر تشاؤما فجعلوه.. نحن وبعدنا الطوفان والجراد القمّل والضفادع؟