-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أنيميا إيمانيّة

أنيميا‮ ‬إيمانيّة

أنيميا‮ ‬إيمانيّة

قصّ عليّ أحد المجاهدين أنّ أحدًا ممن يُسمُّون “ضُبّاط فرنسا”- أي الجزائريين الذين كانوا ضبّاطا في الجيش الفرنسي ثم التحقوا بصفوف الثورة، والله أعلم بنية كل واحد منهم- أُمِر بُعيد التحاقه بالثورة في تونس أن يتهيّأ ويستعدّ للدخول إلى الجزائر، حيث كانت المعارك الطاحنة تجري صباح مساء.

  • ما إن تلقّى ذلك الضابط الأمر حتى امتُقِع لونه، وشحب وجهه، وزاغ بصره، ونشف ريقه، وجحظت عيناه، ويبست شفتاه، وارتجفت ركبتاه، وأسرع نبضه، وبلغ قلبه حنجرته، “وظنّ أنه الفراق”. 
  • وسوس له قرينه أن يتمارض، فيتراجع المسئولون عن قرارهم ويُبقُوهُ في تونس، فأسرع إلى الدكتور التيجاني هدام، ليمنحه شهادة مرضية يُدلي بها إلى أولى الأمر.
  • ما إن دخل على الدكتور هدام حتى افتعل السقوط، فساعده الدكتور على النهوض، وراح يسأله عن حاله، فبدأ الضابط يلتوي يَمنة ويَسرة، ويتأوّه كمن يعاني ألما مبرّحا، وراح يشكو وهنًا، ويدعي عِللاً، ويزعم أدواء…
  • فحص الدكتور هدام ذلك الضابط من أخمص رِجله إلى أمًّ رأسه، وقَلَّبه ظهرا لبطن، وقاس ضغطه وجَسّ نبضه فألفاهُ كما يقول العرب في أمثالهم: “حَسَن الحِبرِ والسِبّر”.. ورغم ذلك فقد وصَف له بعض المُقَوِّيات، ونصحه بتناول بعض المطعومات، تساعده على استرجاع قوته، واستعادة نشاطه، وطلب منه أن يعود إليه بعد مدة من الزمان..
  • بُعَيد ذلك التقى الدكتور هدام أحد المسئولين، فقص عليه قصة ذلك الضابط، فانفجر ذلك المسئول ضحكًا، ثم أخبر الدكتور هَدَّاما أنَّ ذلك الضَّابط سليم، ليس به داء، وأنه افتعل ذلك ليؤثر على المسئولين فينسَخُوا قرارهم، ويأتُوا بخير منه، وهو إبقاؤه في تونس..
  • بعد فترة من الزمان عاد ذلك الضابط إلى الدكتور هدام فَهَشَّ وبَشَّ به، وسأله عن حاله، فأجابه بأن حاله تسوء أكثر، وأن صحته تَتَدهور، وأن آلامه تَشتَدّ…
  • تبسم الدكتور هدام من قول الضابط المتمارض، وقال له: لقد عرفتُ مرضَكَ، ولا أكتمك أنه مرض خَطرٌ يؤدي بصاحبه إلى التهلكة..
  • ظن الضابط أن حيلته قد انطلت على الدكتور، فانشرح صدره، وذهب غمه، وزال همه.. ثم طلب من الدكتور هدام أن يعطيه شهادة طبية تثبت خطورة مرضه، وشدة علته، يقدمها بين أيدي المسئولين، وتخلصه من اجتياز خط الموت (شال -موريس)، وتنجيه من الاشتراك في المعارك التي تُشِيبُ الوِلدَان، وتُبَيّضُ الغِرْبان..
  • نهض الدكتور من مقعده، وتوجه نحو الضابط وهو يقول له: إن مرضك لا يحتاج إلى شهادة طبية.. فقاطعه الضابط باستغراب: أي نوع هذا المرض الذي لايحتاج إلى شهادة طبية؟ فتبسم الدكتور هدام، وقال لصاحبه: إن مَرَضَكَ يسمى “مرض نقص الإيمان”، فلو كان إيمانُكَ صحيحًا وقويًّا لسارعتَ إلى الالتحاق بالمجاهدين، فتناول شرف الجهاد، ومجد تحرير البلاد، وإن استُشْهِدْتَ كنتَ من الفائزين، ومن الأحياء إلى يوم الدين…
  • قصصتُ هذه القصة على الأخ الفاضل الدكتور بشار صناديقي فاقترح عليَّ أنْ أستعمل إذا رَوِيتُها، أو كتبتُها مصطلح “أنِيميَا الإيمان” بدلاً من “نقص الإيمان”، وهو باقتراحه يؤكد وفاءه لمهنته الطبية.. وقد استحسن كل الذين قصصتُ عليهم القصة مصطلح “أنيميا الإيمان”.
  • و”الأَنِيمِيا” (anemia) أو “فَقرُ الدَّمِ” كما يعرفها أهل الذكر في هذا الميدان هي حالة مرضية تَنْتُج عن نقصٍ في عدد الكريات الدموية الحمراء، أو في محتواها في اليَحمُور (الهِيمُوجْلُوبين) أو في كليهما – أي نقص كمي ونوعي – وأسباب هذا النقص متنوعة منها: النَّزْفُ، وقصور تكوين الدم، وتَهَدُّم الكريات الحمراء.. وأعراض هذا المرض هي شعور بالضعف، وسرعة التعب، فكريا وجسميا، والإغماء، والدوران.. (أنظر: الموسوعة العربية الميسرة، مادة: فقر الدم).
  • إن الأمر الذي أوَدُّ قوله من وراء سَوْقِ هذه القصة هو أن أُمّتنا – الإسلامية، والعربية، والجزائرية، تعاني “أَنِيميَا الإيمان”، ولولا أن اليأس حرام في ديننا لَيَئِسْنَا “كما يَئِسَ الكفار من أصحاب القبور”، وذلك لأن هذا الداء قد استفحل وانتشر، ولم يبق لنا حتى أَدْنَى شُعَبِ الإيمان، وهي إماطة الأذَى.. فقد ذكرت الصحف أن دراسة نُشِرَتْ صَنَّفَتْ مدينة الجزائر – التي نَصِفُها بالبيضاء، والبهجة- في الرتبة ماقبل الأخيرة من بين 140 مدينة عالمية، ولا يفوقها سوءًا، وقذارة.. إلا مدينة هَرَاري في زمبابوي.. (انظر جريدة الخبر في 10 جوان 2009)، كما أَوْرَدَتْ جريدة “الشروق اليومي” – منذ بضعة أيام- أن امرأة فرنسية زارت مدينة بوسعادة- التي كانت جميلة- فَهَالهَا ما رأت من أوساخ في شوارعها وساحاتها، فأخذت كيسًا وراحت تجمع تلك الأوساخ.. وقل مثل ذلك عن جميع مدننا وقرانا، ولاتَسْتَثْنِ لا حيًّا راقيا، ولا حيًّا شعبيا..
  • وَلْنُلْقِ نظرة على خارطَة العالم الإسلامي، من طانجاه إلى جَاكَرْتاه، فسنرى فِتَنًا كقطع الليل المظلم.. من فقر مدقع، وجهل فظيع، وعلل فتاكة، واستغلال بشع، ورشوة رهيبة، وذمم خربة، وهمم دَنِيَّة، وقتل لبعضنا مريع، وخيانة لأوطاننا، وولاء لأعدائنا، وتزوير في انتخاباتنا لم يسبقنا إليه سابق، ولم يلحقنا فيه لاحق، وسرقات بملايير الدينارات والدولارات.. وتحاسد، وتباغض، وتناحر، وسفاهة تجلت في تبذير ملايير على اللهو والفسوق باسم “الفن”، وتفاهة ظهرت في تملق الحكام وعبادتهم..
  • لقد أصيب بـ “أنيميا الإيمان” حتى من زَكُّوا أنفسهم، وادَّعَوا أنهم من الأخيار، وزعموا أن الأقدار هَيَّأَتْهُم لإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى.. فإذا هم بعدما ذاقوا فاقُوا، وظهرت سَوْءَاتُهم، وأقبل بعضهم على بعض يَتَلاَعَنُون، ويصف بعضهم بعضا بأقذر الصفات، وأبشع النعوت، وينشرون ذلك على صفحات الجرائد والمجلات، وأمواج الإذاعات، ولم ينْجُ أكثر المساجد والقائمين عليها، والأوصياء على تلك وعلى هؤلاء من “أنيميا الإيمان”، ووصل الخطر إلى “الزهاد” الذين يأمرون الناس بالزهد، ويحبون المال حبا جما، فيجمعونه ويُعَدِّدُونَه..
  • إننا لم نعد نخاف أعداءنا، بل صرنا نخاف بعضنا، وأصبح المكلفون بأمننا هم الذين يُرَوِّعُونَنَا، فكم قرأنا عن مسئولين سرقوا واحتقروا واغتصبوا، وزوَّرُوا..
  • إن هذه “الأنيميا الإيمانية” هي التي جعلتنا لانساوي في أعين غيرنا من الأمم والدول جناح بعوضة، ودَعْكَ من ألقاب “الجلالة”، و”الفخامة”، و”السمو”، فهي ألقاب في غير موضعها..
  • لقد قرأت عشرات الكتب عن سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فما وجدتُ صَحَابِيًّا يخاطبه بلفظ: “سيدي”، بالرغم من أنه سيد الكونين حقيقة، لكننا نسمع ونشاهد تملق “رجال” – كالنخل طولا- لهذا الحاكم أو ذاك.. هذا يقبل يدا، وذاك يقبل كَتِفا، وثالث.. وَلَيْتَهُم كانوا صادقين في ذلك.. فماهو إلا النفاق الذي يمحق الإيمان.. وياحسرة على الرجولة.. والمروءة..
  • ورحم الله الشاعر “الرجل” محمد إقبال، الذي عُرِضَ عليه منصب “نائب الملك” البريطاني في جنوب إفريقيا، فأبَى(1)، وكان يقول: “لك الحمد يارب، إذْ لستُ من سقط المتاع، ولستُ من عبيد الملوك والسلاطين، لقد رزقتني حكمة وفراسة، ولكنني أحمدك على أني لم أَبِعْهُمَا لملك من الملوك (2)”.
  • وإذا كان المتملقون والمنافقون عديمي المروءة، فإن شَرًّا منهم وأحط هو من يقبل ذلك التملق، وذلك النفاق.. ورحم الله – مرة أخرى- محمد إقبال القائل:
  • إذا الإيمان ضاع فلا أمان    ولا دنيا لمن يُحْيِ دِينا 
  • ومن رضي الحياة بغير دين   فقد جعل الفناء لهَا قرينا.
  •  
  • ————–
  • 1 – 2) محمد العربي بوعزيزي: محمد إقبال، فكره الديني والفلسفي، ص 105. 
  • ———————-
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!