-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أوراق امتحان الدكتوراه شاهدٌ على انهيار منظوماتنا التعليمية

أوراق امتحان الدكتوراه شاهدٌ على انهيار منظوماتنا التعليمية

درَّسْتُ هذا السداسي كسابقه من العام الجامعي 20/21م ستة مقاييس علمية مختلفة تدخل ضمن تخصصي العلمي الدقيق، بحيث درس الطلاب عندي ستة كتب علمية من تأليفي، منها الورقي ومنها الإلكتروني الرقمي الموجود على موقعي بالكلية، وقد شملت مرحلتي الليسانس والماستر لقرابة أكثر من سبعمائة وخمسين طالبا، وأجريت امتحانات السداسي الأول كغيري من الأساتذة وشارك عندي في الامتحان ستمائة وخمسون طالبا، فضلا عن مشاركتي في مسابقتي دكتوراة وحراستي لثالثة، صحَّحتُ فيهما قرابة المائة ورقة غير التي اطّلعتُ عليها أثناء فترة المراقبة وتسليم الطلبة لها، مع احتساب مائة ورقة امتحان أخرى كنت قد كلفت الطلبة بإعدادها للتدرُّب على كيفية كتابة المقال الذي لا يحسنونه، لأنني لم ولا ألجأ خلال مساري التعليمي إلى الأسئلة المباشِرة والسهلة والسريعة للطالب والمصحِّح معا، التي تُسهِّل عمليات الغش والنقل والنجاح الكاذب، وما يترتب عليها من تداعيات وانهيارات أتت على حاضر ومستقبل الأمة الجزائرية.. فصار مجموع ما صححته فعليا ثمانمائة وخمسين ورقة امتحان في المراحل التعليمية الجامعية الثلاث: (ليسانس، ماستر، دكتوراه).

وبعد أن أمضيت قرابة أسبوعين في التصحيح وأسبوع في الرصد على المنصة تبيَّنت لي جملةٌ من الملاحظات وددتُ رصدها وتقديمها لزملائي الأساتذة الحريصين على مهنتهم ومستقبل الأمة، فضلا عن تنبيه أولي الأمر ولاسيما الوزارات المعنية بالعملية التعليمية (وزارة التعليم العالي، التربية، التكوين المهني، الشؤون الاجتماعية والعمل، الإعلام، الشؤون الدينية..)، وهذه الملاحظات هي:

1– أن أوراق الامتحان هي إحدى بدائل منهج دراسة الجمهور، وأحد أهم أركان الدراسة الميدانية والاستبيان الحقيقي والعيّنات الطبقية المختارة والمتجانسة لمجتمع البحث، لانضباطها وتخصصها في تحديد المطالب البحثية المقصودة من دراسة الظاهرة، ومن ثمَّ صدق ودقة نتائجها، على العكس مما هو جاري العمل به في الدراسات الميدانية الخاطئة منطلقا وممارسة، والتي يتحايل فيها أفراد العينة لاعتبارات وأسباب ليس مقام مناقشتها الآن.

2– أن أوراق الامتحان التي يكون السؤال فيها إجباريا لكتابة مقال علمي في الإشكالية العلمية المطروحة، تشكل شلالا من المعارف والمعلومات والبيانات المجانية والصادقة والدقيقة عن حقيقة ونفسية ووجدان وتفكير وعقل وقدرات وإمكانات ومواهب واتجاه الطالب الممتحَن، على العكس من الأسئلة المباشِرة والمجرَّدة التي تحتفي بمدى إيراد المعلومة فقط ولو عن طريق الغشِّ الإلكتروني ونحوه. ومنه وعليه، فكتابة المقال يمنحنا استمارةً دقيقة عن الطلبة المبحوثين، إن كان لدى واضع السؤال فهمٌ وعمقٌ وإستراتيجية في بناء أفراد أمته.

3– أن أوراق الامتحان تمنحنا جملة من الإمكانيات الثرية والفرص النادرة للتعرف على حقائق وأمراض وعقد ومزاعم وأسقام رائجة في أذهان ومخيال والرأي العام السائد في الوسط الطلابي عن شخصيات ونوعيات الطاقم الإداري ونوعية الأساتذة وسمعة ومهابة وحال المؤسسة التي يزاولون تعليمهم فيها.

4– أن أوراق الامتحان المقالية تكشف لنا طبيعة ومكونات هذا الطالب، بل تذهب أبعد من ذلك حينما تضع الأستاذ النبيه والمخلص والمحبّ لمهنته ووطنه أمام جمع غفير من الطلبة والطالبات قلّما يتهيأ أن يجتمع له مثل هذا العدد من طلبة العلم في ظل العزوف المشين عن مراكز العلم والثقافة والكتاب والقراءة.. فتستحيل الورقة التي بين يدَيْ المصحِّح مرآة عاكسة لنفسية وحقيقة إنسانها، فتصير أنت أمام إنسان يتكلم بمستويين، أحدهما علمي ومعرفي ومنهجي، يضم أصول ذلك العلم، ومصطلحاتِه، ومنهجَه، ولغتَه المطلوب توفرها في الإجابة للفوز بنقطة النجاح المطلوبة. وثانيهما يكتشف من خلالها الأستاذ الواسعُ الاطِّلاع والمعرفة والمحبُّ لمهنته، الأبعادَ الاجتماعية والبيئية والثقافية والدينية والأخلاقية والتربوية والدينية والتاريخية والنفسية.. للورقة التي استحالت بقدرة العلم والمعرفة والقراءة التأويلية إلى إنسان مكشوف، لا كما يتخيلها البعض –للأسف- أنها مجرد ورقة إجابة للطالب فقط.

5– أن أوراق الامتحان تعرِّفك على حال التفكير والنشاط العقلي أو التقليدي أو الإتِّباعي أو النسقي أو الخامل أو الاجتهادي التحليلي.. الذي يَرينُ على جماهير الطلبة، من خلال خطّهم وكتابتهم وجُملهم وتوقيعاتهم التي تلقوها منذ الصغر برموز اللغة الفرنسية.. فضلا عن استخدامهم  لنوعية الأقلام والألوان والترتيب والتنظيم والتسطير والتشكيل والضبط اللغوي ونحوه..

6– أن أوراق الامتحان بوابةٌ للتحليل النفسي وحل الكثير من مشكلات الجيل المثخن بالعُقد والأسقام والترسُّبات المركبة التي جاءت معهم من سنين الطفولة الأولى، حيث الأم والأب والإخوة والأسرة وسائر المؤسسات الضائعة وغير المبالية..

7– أن أوراق الامتحان تكشف لك أهمية الحضور والسماع والانتباه والتدوين.. على حساب الغياب والإهمال، أو تكتشف من خلالها أهمية الكتاب الرقمي الإلكتروني على الورقي؛ ففي تجاربي الأخيرة صرتُ أُقدِّمُ أثناء الحصص التدريبية عدداً من الأسئلة ثم أطلب منهم الإجابة عليها وجلبَها للتصحيح الجماعي، على أساس أنها ستكون شبيهاتها في الامتحان، ولكن تكتشف أن الحضور غُيَّبٌ، وأن الغائبين أموات.. وأن العاجزين يوم الامتحان عن الإجابة هم غالبية الطلبة.

8– أن أوراق الامتحان طريقٌ للكشف عن عمق الحيلة والمكر والروغان لدى فئات كثيرة من الطلبة، فمن خلالها تكتشف أن دعاية تسري بين الطلبة مفادها أن ترصيع الطلاب مقدمة مقالهم بذِكر اسم كتاب الأستاذ الذي درَّسهم إياه مصحوبا بجملة من أوصاف التشريف والاحترام قد يؤثر في تعديل مزاج الأستاذ المصحِّح، ومنهم من يختم ورقته في مدح الأستاذ والإشادة بجهوده في سبيل التربية والتعليم ونشر الفضيلة ونحوها..

9– أن أوراق الامتحان تكشف مكر الغالبية العظمى من الطلبة ولجوءَهم إلى أساليب النفاق في سبيل كسب ودّ الأستاذ والتأثير والتضليل عليه في عملية التصحيح بهدف التشويش لرفع النقطة، من ذلك قولهم: إننا اعتمدنا على كتابكم القيِّم الذي تم اقتناؤُه من المكتبة الفلانية.. وقد روى لي أحدُ الأساتذة أنه وضع كتاب المادة على موقعه في الجامعة في شكله الرقمي، ثم وضعه في مكتبةٍ قريبة من الكلّية في شكله الورقي، ولم يقتنِ طلابُ تلك الدفعة المكوَّن من ثلاثمائة طالب وطالبة سوى سبع عشرة نسخة فقط، ولكن في ورقة الامتحان ادَّعى الطلابُ أنهم اقتنوا الكتاب، وهذا أوضعُ الكذب الذي تكشفه أوراقُ الامتحان.

10- أن أوراق الامتحان كشفت أن الطلاب لا يقرأون لا الكتاب الورقي ولا الكتاب الإلكتروني الرقمي، وأنهم مجرد مجموعة من المغيرين الذين يحترفون الإغارة في كل صوب، سواء أسنحت الفرصة أم لم تسنح.

11- أن أوراق الامتحان تكشف لك أن القليل فقط من استطاع أن يحصل على نقطة النجاح الدنيا، أما أصحاب النقاط العالية فهم عادة القادمون من الماضي الجامعي الجميل، من خرّيجي دفعات التسعينيات وما قبلها، يوم أن كانت الجامعة تخرِّج الرجال، ثم صارت تمنح الشهادات على غثها وسمينها، أما اليوم فهي للأسف لا تُخرِّج سوى بضع خرِّيجين حقيقيين ونافعين ومن القدامى الذين صار مستقبلُهم وراءهم، أما الباقي فهم –للأسف الشديد- الذين جنوا على التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والمهني وعلى مهنة الإعلام، ممن يطعنون اللسانَ العربي طعنا في الصميم في وسائل الإعلام الرسمية والمستقلة، عدا البعض القليل، ودون أن أنسى فهُمْ الذين يعتلون منابر المساجد ويلحنون بقواعد العربية الفصحى بما يضير من قدر العربية حد الإسفاف..

12- أن أوراق الامتحان تكشف لنا باستمرار فداحة الخسارة والهزيمة الشنيعة التي مُنيت بها أمتنا العربية والإسلامية والجزائرية في هذه الأجيال المنكوبة من المعلّمين وجحافل المعلمات اللائي كن يتسكعن بخطوطهن المعيبة وكتاباتهن الرديئة ممن لا يفرِّقن بين الضاد والظاء، ولا بين الألف المقصورة والممدودة، ولا يعرفن مواقع الهمزة، على الرغم من عكوفهن المجّ على تماثيل وأصناف القرن الواحد والعشرين من الهواتف المحمولة الحديثة الطراز.. وهنا سأتوقف عن الاسترسال وأقول:

أعتقد أن أوراق الامتحان تكشف لنا الكثير –وهي إحدى أدواتنا البحثية فضلا عن الملاحظة والمقابلة- لو أحسنَّا استثمارَها وتوجيهها والاستنادَ عليها في إصلاح ما أفسده البناة، ولعل وزارة التربية أصابت عندما أجرت دراسة على فئات المعلمين في الطور الابتدائي المتخرِّجين من الجامعة والمدارس العليا، فكشفت نتائجُها جانبا من جوانب انهيار منظومتنا التعليمية، (الشروق السبت 17/04/2021م عدد 6770، ص 4).

فمتى يتنبه مسؤولو وزارة التعليم العالي لهشاشة التكوين الجامعي الحزين؟

ومتى يبادرون إلى إلغاء محرقة نظام (l.m.d) الذي جنى على العلوم الشرعية الدينية؟

ومتى يوكلون الإصلاح لأهله؟

أللهم اشهد أني بلَّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • أيوب الشامي

    كلامك شامل ودقيق سيدي الكريم قد أظهرت أن الورقة البسيطة ذات المستوى ثنائي الأبعاد تكشف ايضا عدة أبعاد أخرى منها التربوية والثقافية والمنهجية والنفسية والعقائدية الخ ولكن هنالك من لا يستطيع أن يترجم أفكاره على مستوى ثنائي الابعاد ليس لأنه جاهل بل لأنه لم يجد من يساعده في صقل أفكاره التي لم يستطيع أن يسجنها في مربع مقررات دراسية محدودة نظرية منزوعة الروح .....فكم من طالب ضاع في ثنايا هاته الطفرة وكم من طالب حفظ المعطيات والقواعد والنتيجة ووضعها على الورقة وأصبح معلما في الجامعة فقط لان لديه قدرة حفظ الجاحظ .

  • الجزائر جزائرية

    " تخصصي العلمي الدقيق" أي علم تقصد ، هل هو علم الذرة أو الفيزياء النووية أو علم الفضاء أو الفيروسات التاجية ؟؟؟

  • سعيد

    بذلك يتم تفخيخ مستقبلنا وهو مفخخ بالفعل ولا أعتقد انه بقيت فرصة لإصلاح ذلك فالعفن تراكم عبر الزمن والله المستعان.

  • قل الحق

    ما تقلقش روحك مثلهم هو وردة شارلومونتي فهم يدرسون للاسترزاق لا للتعلم و التثقف و حمل المشعل

  • طارق بن زاوي

    كالعادة

  • عبد القادر

    صدقت.

  • استاذ باتنة

    اوافق الاستاذ على ما ذكره فالمشكلة جد خطيرة لان البلد لا يتطور بالرداءة فالعلاج يكمن في اعادة النظر في الكم و مستوى المدرسين انفسهم

  • محمد عبد المالك

    اشفيت الغليل يا استاد .بارك الله فيكم

  • نورة بن عيسى

    يا استاذ احمد يا محمود يا عيساوي: بالله عليك انت تحمل بقساوة على نظام ل.م.د, وانا مواطن بسيط واريدك ان تجيبني عن هذه الاسئلة: 1-هل انت تهاجم هذا النظام لانه جديد وانت من انصار كل قديم؟ 2-لماذا نجح هذا النظام في كل الدول المتقدمة فلما فشل عندنا هل لانه يستعمل وسائل ليست قديمة؟ 3-هل ان السبب الرئيسي للفشل هو الاستاذ الذي بقي قديما؟ 4-الا ترى ان الهجمة على هذا النظام داخل الجامعة هي خلاصة المعركة بين الجديد والقديم؟ 5-هل ترى نفسك يا استاذ قادرا على استيعاب روح العصر المتوثبة الحلاقة بما تحمله من كل جديد؟ ارجو منك الاجابة بوضوح ودقة علمية وبتسلسل منهجي ومفردات منطقية.