-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أيُّ قوة تفرِّق أبناء يعرب وأبناء مازيغ؟

أيُّ قوة تفرِّق أبناء يعرب وأبناء مازيغ؟

82 عامًا تمرُّ على رحيل إمام الجزائر المعاصر بلا منازع، العلامة عبد الحميد بن باديس، رائد نهضتها الحضارية في القرن العشرين، حين انتشلها من براثن الاستعمار الاستيطاني الخبيث، فنفخ في كيانها المفكك روح الإسلام والعربية والوطن، متسلحًا بهديْ العلم والمعرفة في تنوير العقول وإيقاظ القلوب وتحريك السواعد، للدفاع عن الأرض والعرض.

إنّ واجب الحفاظ على الذاكرة الوطنية، ناهيك عن أخلاق الوفاء، تفرض الامتنان لهذا الرجل العظيم الذي سجَّل اسمه ضمن الخالدين في تاريخ الإنسانيّة، فقد عاش حياته للدين والوطن في أحلك الظروف، حيث انبرى لإحياء أمّة استفرغ الاستعمار الغاشم كل وسعه لوأدها وإدماجها عقديّا ولسانيّا وثقافيّا، ليطمس أثرها التليد من الوجود بعد قرون من المجد والسيادة المتوسطيّة.

لقد أسعف ابن باديس الأمة الجزائريّة في اللحظة التاريخية الحرجة، واختار مئوية الاحتلال البغيض، حين اطمأن الاستيطانُ الفرنسي الملعون إلى نفاذ مخططه الاندماجي، ليستنهض الشيخُ عبد الحميد همم رجال البلد وأعلامها عبر جمعيّةٍ مباركة، ثبت بمرور الزمن أنها شكلت الوعاء الحيوي لوقود الحركة الثوريّة المسلحة وبذورها الخصبة، فقد غرس في وعي الأجيال روح الانتماء الحضاري، وطنًا ودينًا ولغةً، ليميزها عن المستعمِر، فكان ذلك هو الدافع الرئيس لها في رفض مشروعه الإلحاقي.

وفي زمن عزّت فيه الإمكانات وران الجهل الممنهج على الكيان الجزائري، قرّر الإمام ابن باديس مع ثلة من إخوانه السّابقين الانطلاق في العمل الجليل من الصفر، بإعلاء صرح “جمعية العلماء” وإطلاق منابرها الصحفيّة، قبل أن يشقّ البلاد الواسعة طولاً وعرضًا، مُؤسسًا لشعب الجمعية الطيبة، ومشيّدا لمدارسها الحرّة ومحاربًا للدروشة والخرافات، ولسان حاله يستنفر قومه بشعار “هلمُّوا معي إلى قمم المجد”.

إنّ تلك الجهود العظيمة التي انصهر فيها الإمام ابن باديس بنكران ذاته كليّة وإيثار العيش المطلق للوطن هي التي تخلده اليوم بين الأنام، وتوقّع رسمَه ونهجه وآثاره في أسفار التاريخ ومناهج المدارس ومقررات الجامعات وأطروحات الباحثين ومنصات الإعلام.

مضت عقودٌ على دسائس الاستعمار وأخطاء الاستقلال في حق ميراث “جمعية العلماء”، ولكن الله كتب لها الخلود بإخلاص رجالها وأثرهم في كل بقعة من أرض الجزائر، فلا تمرّ مناسبة وطنيّة إلا علا فيها اسم ابن باديس مرصّعا بنياشين الفخر والاعتزاز، ولا يزال أبناؤنا يحفظون نشيده وكبارُنا يتداولون مقولاته، فهي منهج إصلاح حضاري متكامل، يظلّ منهلا لا غنى عنه للدولة الوطنية الحديثة، فضلا عن مرجعيّات تيارات الإصلاح الاجتماعي.

لقد أحسن توجيهًا رئيسُ الجمهورية، عبد المجيد تبون، بقوله في رسالة يوم العلم للشباب الجزائري إنه “لجدير بنا أن نجعله فرصة للذكرى، ومحطة للعبرة، وحافزا للوعي، ودافعا للتأمل، ومسلكا للإصلاح والمراجعة، باستظهار الفهم الأصيل، والفكر المتوازن النبيل، وتوخي الوسطية في التعامل، كما كانت على ذلك جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، لأنّ باديس مدرسة حضارية وطنيّة تعلمنا على مرّ العصور.

وبمقتضى ذلك، صار لزامًا على السلطات العمومية في كافة المستويات والمجتمع المدني والعلمي صيانة تراث ابن باديس وترقيته ليبقى نبراسًا للناشئة، بل من الواجب حماية حتى معالمه الماديّة بقسنطينة، على غرار الجامع الأخضر، والمطبعة الجزائرية الإسلامية، ودار الطلبة، ومعهد ابن باديس، ومدرسة التربية والتعليم، وغيرها، باعتبارها أعمدة شامخة وشاهدة على تاريخ وطن وشعب وأمّة تحدّت الهمجية الأوروبية المعاصرة ضدّ الشرق الإسلامي.

إنه لا معنى لاحتفائنا بأيَّام ابن باديس دون أخذ العبرة والاقتداء بقيمه العليا، حتى لو تغيّرت الوسائل وفق تحديات الزمن، فقد جعل الرجلُ من الإحياء الإسلامي والقومي والوطني همَّه الأول، وفي سبيل ذلك كان رجلا جامعًا، عمل مع جميع أبناء الوطن، واستثمر في كل الطاقات من مختلف الأطياف، لأجل التمكين للقضية الجزائريّة.

ولعلّه من الضروري، والجزائر تواجه مخططات الفتنة العنصرية والطائفية بإشاعة مقولات العرقيّة المدحوضة وخطابات الكراهية المقيمة، أن نستمسك بهدي ابن باديس حين تصدّى لهذا المشروع في طبعته الاستعماريّة الأولى، حين كتب بمداد الحكمة وخطّ بحبر الوعي، فقال “إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحّدهم في السرّاء والضرّاء، حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام”.

وقد “كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون، بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابر في مجالس الدرس لخدمة العلم. فأيّ قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرّقهم لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع”، مثلما أضاف الإمام ابن باديس، والويل لنا إن كنّا من الذين خلفوا من بعده فأضاعوا وحدة الوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!