-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إحياء علاقة ودّ بين مُربٍّ وتلميذه

إحياء علاقة ودّ بين مُربٍّ وتلميذه

في زمن مضى، كانت بين المعلمين والأساتذة، من جانب، ومتعلميهم، من جانب آخر، صلات أرحام معنوية غزلت خيوط نسيجها من حرير الود ومن عروق المحبة المخملية اللذين يقابلان بالاحترام والتوقير لما كان التعليم رسالة مقدسة وعظيمة. ومع طغيان موجات ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” التي حوّلت العملية التعليمية إلى تجارة مربحة يلهث فيها المعلمون والأساتذة خلف بريق الدينار، وجعلت من المتعلم زبونا يرتفع قدره أو ينخفض بقدر ما يمنح والده من جيبه انطمست هذه العلاقة عن آخرها، ومحيت آثارها، واستسلمت للاختفاء في مدافن الصرود الصقيعي القاتل.

مازلت أذكر تتلمذي في مادة اللغة العربية والتربية الإسلامية في السنة الثانية من تعليمي في المرحلة المتوسطة على يد الأستاذ الوقور فاروق عبد الكريم البرازي الحموي مولدا ومنبتا والسوري موطنا في ثانوية الشهيد عباس لغرور الشامخة، وهي أول ثانوية معربة تأسست في مدينة باتنة. وكان مربيا خفيف الظل، لطيفا، رقيقا، نقيا وتقيا، وأنيقا في هندامه، يتحدث بصوت خفيض هامس، ولا يعاملنا إلا بالحسنى، ولا يقلق مما يصدر منا أحيانا من هفوات أو مخالفات. وكنا نسعد بلقائه داخل الفصل الدراسي وخارجه. ومن شدة اهتمامه بنا، كان يجتهد حتى في توضيح معاني ألقابنا في اللغة العربية. وكان يشجعنا على التعلق بطلب العلم في كل حصصه التي تمر دقائقها سريعة وخفيفة، ولا نكاد نشعر بها.

يبدو أن مناخ مدينة باتنة الذي يبلغ حده الأعظمي من قساوة البرد نتيجة كثرة هطول الثلج زمنئذ وتراكمه على قمم الجبال المحيطة بها كالعمائم البيض التي توضع على الرؤوس كان السبب الأول الذي فرض على أستاذنا اختصار مدة إعارته في سنوات قليلة والعودة إلى مدينته حماه عروس نهر العاصي. ووجد في رفض تحويله إلى مدينة قسنطينة أو إلى أي مدينة ساحلية ذريعته المقنعة.
بعد انقطاع زاد عن ثلاثة عقود من الزمن، وبفضل وسائل التواصل الحديثة، تمكنت من بعث العلاقة مع أستاذي الكريم. وبقينا نتواصل، بين الحين والآخر، حتى خروجه مع عائلته من سوريا بسبب الظروف القاهرة المعروفة. واستقر في ألمانيا كلاجئ يطلب لنفسه ولزوجته وأبنائه وبناته وأحفاده راحة وطمأنينة. وذات مرة، أسعدني برسالة أرسلها لي عبر بريدي الإلكتروني ضمنها ما يلي:

(ولدت في مدينة حماه في السابع فيفري من سنة 1936م، وأنا متزوج ولدي خمسة أطفال، ثلاث بنات وولدين. وابنتي الكبرى هي سُلافة حاصلة على الثانوية العامة، وهي متزوجه ولها من الأبناء ذكران، الابن البكر خالد حيدر يدرس الهندسة المدنية في جامعات ألمانيا، والثاني عمرو ويدرس هندسة الكهرباء بجامعه حلب. وابنتي الثانية هي سَلامة الحاصلة على دبلوم في الترجمة وآخر في علم الاستشراق من جامعه مدينة بون بألمانيا. وهي متزوجة، ولها من الأبناء اثنان، كبيرهما عادل المصري سيحصل على الثانوية العامة بعد شهر إن شاء الله، وأخته مريم المصري التي تبلغ من العمر أربع عشرة سنة. أما ابني عبد السلام، فهو مهندس معماري حصل على شهادته العليا من جامعه آخن بألمانيا ومن جامعة وينسور بكندا. وابني عبد الرحيم متحصل على شهادة من معهد تقني إلكتروني، وهو متزوج ولديه من الأبناء اثنين، الطفلة الكبيرة سحر “على اسم جدتها من أبيها” وعمرها ست سنوات، وأخوها الذي يصغرها عمرو “إحياءً لاسم أخي الفقيد في أحداث حماه التي جرت في ثمانينيات القرن الماضي” ويبلغ من العمر سنتين، وهو يعيش حالياً في تركيا نظرا للظروف الراهنة في سوريا. وأخيرا، ابنتي الصغرى سارية الحاصلة على دبلوم لغة أنجليزية من جامعه حمص بسوريا، وهي متزوجه ولها ابنتين، البكر اسمها سما ولها من العمر ست سنوات والثانية اسمها سلافة وعمرها سنتان، وهي مقيمة حاليا في الرياض بالسعودية.

انحدر من عائلة عريقة ذات أصول كردية تتمتع بصيت ذائع في سوريا وما حولها، ويلقبون بـ “الأغوات”، ولهم مكانه اجتماعية مرموقة. وكان الدكتور محسن البرازي أحد أبناء عمومتي رئيس الوزراء في حكومة حسني الزعيم في عام 1949م، وأيضاً حسني البرازي الذي شغل مناصب كثيرة، منها محافظ مدينة حمص وحلب واسكندرون، وساهم في تـأسيس العديد من الأحزاب في سوريا، وشارك في صياغة الدستور السوري. ويوجد لعائلتنا جاليات كبيرة في أمريكا والسعودية.
درست المرحلة الثانوية بمدينة حماه، ومن ثَم التحقت بكلية الآداب بجامعة دمشق في فرع اللغة العربية، وحصلت على إجازة في آداب اللغة العربية ودبلوم عام في فن التربية. واشتغلت بوزارة التموين أثناء دراستي الجامعية بدمشق لأنني اخترت بناء حياتي بعصامية، ولم اعتمد على موارد العائلة. وبعد التخرج عملت مدرسا ومديرا في مدن مختلفة من سوريا، ومن بعد ذلك قدمت للإعارة في الجمهورية الجزائرية، وكنت من أوائل المختارين لهذا المنصب. وجئت إلى الجزائر في عام 1969م، وقطنت في مدينة باتنة، ودرّست اللغة العربية بثانوية عباس لغرور، وغادرت عام 1972م.

باتنة مدينة جبلية هادئة ووادعة تقع بين الجبال، ولكنها باردة جداً شتاءً، وذات صيف معتدل وطبيعة هادئة ونسمات عليلة. وعندما قدمت إليها أول مرة، شاهدت في الجنوب جبلاً عالياً فقلت لرفاقي إذا تسلقنا هذا الجبل فإننا سنشرف من قمته على سهول أفريقيا كلها، وبقيت أغريهم بتسلق الجبل حتى استطعت أن أقنعهم بذلك. وتسلقنا الجبل في أصيل يوم، ولكننا فوجئنا بسلاسل جبلية ليس لها حد، فعدنا أدراجنا.

لقد شاهدت المهرجانات الأثرية التي تقام كل عام في مدينة تيمقاد على مدرجها العريق، وأعجبت بجمال الطبيعة في الجزائر وفتنت بمدينة قسنطينة وجسورها المعلقة، ولو طال بي المقام لعشت طوال حياتي بهذه المدينة حيث كنت أمضي فيها أكثر العطل.

بعد عودتي من الجزائر، واصلت العمل بالتدريس في ثانويات حماه. وفي عام 1977م تم اختياري للتدريس بثانوية الفيصل في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية. وبعد انقضاء خمس سنوات، أي في عام 1982م رجعت إلى سوريا وكلفت بإدارة شؤون الطلاب بكلية طب الأسنان بحماه لمدة عام. ومن بعدها عدت لتدريس اللغة العربية بثانويات مدينة حماه.

في عام 1994م، أُحلت إلى التقاعد قبل الوقت المحدد بعامين بطلب مني؛ وذلك بسبب ضعف النظر. وهذا دفعني إلى الاعتناء بالحديقة المنزلية وبتربية الطيور الأليفة النادرة مثل الطاووس والفازان وبعض أنواع الدجاج والحمام.

حالياً، وبسبب ما تعيشه سوريا من مآس ودمار، انتقلت للعيش وزوجتي بتركيا لفترة وجيزة. ومن بعد ذلك، تحولنا إلى مدينة بون بألمانيا حيث تقطن ابنتي سلامة. وسنبقى هنا ريثما يعود الهدوء إلى الوطن.

أشكر لكم اهتمامكم، وإني فخور بطلاب يحفظون العهد والود لأساتذتهم رغم بعد المسافات وطول السنين. وأنت يا لمباركية نوّار مثل يحتذى به ومشعل للعروبة والإخاء يثير الإعجاب. وأتمنى لكم ولعائلتكم مستقبلاً زاهراً حافلاً بالمزيد من النجاح والتوفيق. وأهلا بكم ضيفا عزيزاً في ألمانيا، وإن شاء الله، في حماه في القريب العاجل).

منذ أيام قليلة، أرسلت رسالة قصيرة إلى الأخت سلامة كريمة أستاذي الودود فاروق عبد الكريم البرازي أسأل فيها عن مآل أحوال وصحة والدها. وبعد أقل من أسبوع، فاجأتني بنعيه المحزن، وأخبرتني أنه توفي يوم السبت التاسع أكتوبر 2021م، وأن جثمانه الطاهر سيوارى ثرى مقبرة مدينة نوردفريدهوف الألمانية بعد صلاة ظهر يوم الأربعاء الذي يليه. ولا أخفيكم أنه آلمني معاكسة الظروف التي حرمته من توسد تربة مدينته حماه الفيحاء في نومته الأخيرة، وأبعدته عن الاستئناس بنعير نواعيرها وحفيف أصواتها الناعمة.

هكذا، طويت في مخيلتي صفحة فواحة من الذكريات الجميلة التي ربطتني بأستاذ غمرني وزملائي بأخلاقه وطيبته وصفاء طويته قبل أن يسقينا من رحيق علمه، وبذلك استطاع تسنم رتبة المربي عن جدارة.

رحم الله أستاذي ومؤدبي فاروق عبد الكريم البرازي، ورزقه الجنة، وأكرمه بكل حرف علّمه لي ولغيري من طلبته حسنة، وأجزل له في الأجر، وأوسع وأكثر له فيه وزنا وكيلا وعدا بمقدار كرمه ومنّه. وأحاط أهله وذويه بالصبر الجميل والسلوان الرائع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!