-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

إذا أراد الله التّمكين لأحد يسّر له الأسباب

أبو جرة سلطاني
  • 640
  • 0
إذا أراد الله التّمكين لأحد يسّر له الأسباب

ذو القرنيْن رجل صالح مكّن الله من أسباب القوّة ما يعينه على إنفاذ صلاحه في من تسوقه الأقدار إليهم. وأعطاه الله من الأسباب ما يجعله موفّقا في سيرة حياته كلّها: ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)) (الكهف: 84). فالله هو مؤتي الملك وميسّر التّمكين ومسخّر الأسباب.. فهو من أعطى نمرود المُلك ولكنّه سلبه التّوفيق: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)) (البقرة: 258)، فلما طغى سلبه ما أعطى من أضعف ريش وبأوهى سبب.

فالتّمكين إرادة ربّانيّة يسخّر الله أسبابها لمن يريد ويذلّلها لمن يشاء؛ فالله هو الذي مكّن لذي القرنيْن في الأرض فجعل له فيها سلطان قوّة وسلطان حكْم وأسباب نفوذ، وأعطاه من كلّ شيء سببا فأخذ بالأسباب المتاحة له فبلغ المشرق والمغرب وترك في الأرض آثار خير دالّة على صلاحه.

التّمكين في الأرض يأخذ معنييْن، الأوّل: هو السّيادة السيّاسية التي تتيح للمَكين سلطة واسعة لبسط النّفوذ على من هم تحت إمرته، لقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين)) (يوسف: 56). والثّاني: هو الاستقرار الاجتماعيّ في رقعة معلومة من الأرض والتّفرّغ لعمارتها بالزّراعة والصّناعة والتّجارة والفنون وبسائر شؤون العيش فيها بطول ثواء، لقوله تعالى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)) (الأعراف: 10).

بهذا المعنى يكون تمكين ذي القرنيْن تمكينَ قوّة وسلطان بإتيان الأسباب وتذليلها للقدرة على الحركة في الأرض وإقامة العدل فيها. وبهذا الفهم يصير التّمكين عبادة إيمان وتسخيرَ سلطان وقدرةً على الفعل النّافع بإصلاح ما يمكن إصلاحه ممّا يقع تحت اليد والبصر بجعْل الأسباب في خدمة المقاصد والمقاصد في خدمة الإنسان والإنسان متحرّكا في طاعة الله متناغما مع منظومة الكون ذكْرًا وتسبيحًا وركونا إلى الحقّ وعمارة واستخلافا كما أُمر.

ولكنْ.. هل كان ذو القرنيْن مُسلمًا موحّدا آلى على نفسه إنفاذ أمر ربّه فسخّر الله له أسبابًا خاصّة؟ أم إنه كان مُصلحا أخذ بما هو متاح له من أسباب فبرع في فنّ الرّحلة فكانت له وسيلة لإصلاح ما يصادفه فاسدا في طريقه؟

من حيث المبدأ العام: ليس شرطا أنْ يكون الإنسان مُسلما ليسخّر الله له الأسباب. فليس شرطا اقتران التّسخير بالعطاء، وليس شرطا أن يكون مؤمنا ليؤتيه الله الملك والثّروة والجاه والسّلطان. وليس شرطا أن يكون موحّدًا ليتيح الله له فرصة نشر الخير وإقامة العدل في الأرض. فالأسباب مسخّرة تسخيرًا طوعيّا بالّسّنن العاملة للمؤمن وغير المؤمن، وانفعال السّنن مع الحركة تسخيرٌ حياديّ لا صلة له بالإيمان والكفر، فتسخير السّنن كتفاعل عناصر الكيمياء وسُخْرة قانون الطّفو والجاذبيّة وجمود قوانين الفيزياء والأرقام الرّياضيّة.. كلّها مسخّرات بأمر الله للمشرك وللموحّد على حدّ سواء؛ لا دخل للإيمان فيها ولا للكفر. وهو ما حاولنا فهمه من قوله تعالى: ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) (الإسراء: 20).

فالأسباب مسخّرة في التّفاعل وفي العطاء والتّذليل لكلّ من يركضها، لأنّ الله خلقها مسخّرة ذلولا: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور)) (الملك: 15)، وقد بعث الله على الظّالمين عبادا له من العدول ذوي بأس شديد لم يكونوا مؤمنين ولكنّهم كرهوا الظّلم فسلّطهم الله على من ظلموا وطغوا فأهلكوهم بظلمهم وولّى بعضهم بعضا: ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا)) (الإسراء: )5. وقد مضت سنن الله -جل جلاله- بنصرة العادل ولو لم يكن مسلما، وبخذلان المسلمين إذا ظلموا. فلا حصانة لظالم؛ ومن جار أسقطت الأقدار عنه الحصانة ولو بعد حين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!