الرأي

إسلام التعايش لا إسلام داعش

محمد بوالروايح
  • 3940
  • 21

“دعشنة الإسلام” تيارٌ دخيل على الإسلام، تحوّلت الخلافة الإسلامية بموجبه إلى مخالفة إسلامية صريحة بكل المقاييس،لا يحكمها قياس، ولا يسندها أساس من الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين.

لقد حاول تيار “الدعشنة” أن يغير الإيديولوجيا الإسلامية، وأن ينشر عقلية “قابيل” التي تميزها غريزة الانتقام من الآخر، الذي ليس بالضرورة أن يكون من غير المسلمين، لأن الفكر الداعشي -إن جاز لنا أن نسميه فكرا- يصنف كل من لا يحمل عقلية “قايبل” من المسلمين وغير المسلمين في خانة واحدة، وينظر إليهم على أنهم جماعة واحدة “مرتدة”، تُستباح دماؤهم، وتطبَّق عليهم “أحكام الإسلام” التي لا تعني في “الفكر الداعشي” إلا التقتيل والتمثيل، فهذه الصورة الداعشية للإسلام هي نتاج الفكر المنحط والعقل المحنَّط الذي لا يرى الإسلام إلا مرادفا للحرب وعنوانا للحرابة.

أكثر الحروب التي تخوضها “داعش” ليست ضد “الكفار المعتدين” بل ضد المسلمين المعتدى عليهم، وما مشاهد القتل الهمجي للمدنيين الآمنين في سوريا والعراق وليبيا إلا دليل على أن “داعش” لم توجد للدفاع عن الإسلام والمسلمين كما تزعم.

لقد أفسد تيار الدعشنة الذي ابتلي به العالم بعد ما يُسمى “الربيع العربي” ثقافة التعايش التي يقررها الإسلام بين أتباع الديانات والحضارات، وقد يقول قائل: أليس هذا الكلام متناقضا مع نصوص الإسلام التي تحرض على القتال وتدعو إلى اجتثاث شأفة الباطل؟ ونقول: إن السلم في الإسلام هو الأصل والحرب عارضة، يقول الله سبحانه وتعالى: “كُتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم”، إن الإسلام يحرص على السلم كلما تهيأت أسبابه، يقول الله سبحانه وتعالى: “وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”، وقد يقول قائل: إن “داعش” وُجدت للدفاع عن الإسلام ضد “الكفار المعتدين”، ونقول: إن أكثر الحروب التي تخوضها “داعش” ليست ضد “الكفار المعتدين” بل ضد المسلمين المعتدى عليهم، وما مشاهد القتل الهمجي للمدنيين الآمنين في سوريا والعراق وليبيا إلا دليل على أن “داعش” لم توجد للدفاع عن الإسلام والمسلمين كما تزعم، بل وُجدت للانتقام من الكل ومن بينهم المسلمون، إن لم يكن المسلمون أول من يُنتَقم منهم، نقول هذا لأننا نجزم بأن “داعش” صنيعة صهيونية وُجدت لتمزيق العالم العربي والإسلامي وتحويله إلى ساحة حرب مفتوحة.

وقد يقول قائل: إن “داعش” وُجدت لإقامة “الدولة الإسلامية” ونقول إن الإسلام بريء من نموذج “الدولة الإسلامية” التي تجعلها “داعش” شعارا لحربها المزعومة، لأن الإسلام لا يقيم دولته على الأشلاء والدماء، ولا يحتاج إلى خلفاء “قابيل” لكي يقيموها بإفناء النوع الإنساني والانتقام من القاصي والداني، إن “الدولة الإسلامية” في التصوّر الداعشي أشبه ما تكون بدولة الملوك الكاثوليك الذين أقاموا محاكم التفتيش في الأندلس فساموا المسلمين وغيرهم سوء العذاب باسم عدالة السماء وتوجيهات القديسين واستنارة الإنجيل !.

وقد يقول بعض لصوص النصوص إن ثقافة التعايش التي تقرّرها النصوص الإسلامية ليست إلا صورة نصية غير واقعية أي لا وجود لها في الواقع، وأحيل هؤلاء على قراءة تاريخ الخلافة الإسلامية للتأكد من أن التعايش هو المبدأ الذي قامت عليه هذه الخلافة بالرغم من أن الإسلام قد خرج من الحرب منتصرا، وللمنتصر كما يقال أن يفرض منطقه ويملي شروطه، كما فعل الحلفاء بألمانيا بعد هزيمتها المذلة بعد الحرب العالمية الثانية حيث أجبروا الألمان على الاستسلام غير المشروط وتوقيع وثيقة الاستسلام الأولى في “رانس”. على خلاف ذلك، أقر الإسلام المنتصر مبدأ التعايش وأقر للمنكسِر حقوقه الدينية والمدنية بشكل يعدُّ سابقة في تاريخ العلاقات الدولية، ولا بأس هنا من سياق جزء مما ورد في “العهدة العمرية” بعد انتصار جيش الإسلام في معركة القدس وتسلم الخليفة عمر بن الخطاب لمفاتيح بيت المقدس من البطريك “صفرونيوس”: “هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملته، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود”. 

ولو أعمل لصوص النصوص عقولهم في “العهدة العمرية” لأدركوا البون الشاسع بين ثقافة التعايش التي يقررها الإسلام تجاه الآخر وهمجية التصفية العرقية والدينية التي انتهجها على سبيل المثال الملوك الكاثوليك في حق الموريسكيين الذين تصوِّر رواية “الموريسكي الأخير” معاناتهم وأشكال الاضطهاد التي تعرضوا لها، ولو أعمل لصوص النصوص عقولهم لأدركوا أيضا البون الشاسع بين الإسلام الحقيقي القائم على ثقافة التعايش و”الإسلام الداعشي” القائم على عقلية الانتقام من الآخر، فأين العهدة العمرية بإعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ودينهم من الهمجية الداعشية بقتل الآمنين والاعتداء على الموحِّدين والمثلثين على سواء وهدم الكنائس على رؤوس النساك وكسر الصلبان بدعوى “الانتصار للإسلام”؟.

من الحقائق التي يجب أن يعلمها لصوص النصوص هي أن الإسلام حريص على إرساء ثقافة التعايش مع الآخر وبخاصة مع أهل الكتاب، وفي سورة “الروم” صورة جميلة لهذا التعايش: “الم.غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”، تنطوي هذه السورة على حقيقتين اثنتين يؤسس عليهما موقف الإسلام من أهل الكتاب، الحقيقة الأولى: وهي ما جاء في التفاسير بأن المسلمين كانوا يحبّون انتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب والفرس مشركون، ومن شأن انتصار الفرس الذين يشتركون مع المشركين في المنهج الضال أن يقوِّي شوكة المشركين، والحقيقة الثانية هي أن القرآن الكريم يقرر قاعدة “الولاء والبراء” في حالة المواجهة حينما يتعلق الأمر بنصرة الحق ومقاومة الباطل، ولأجل ذلك عطف الله سبحانه وتعالى في السورة بقوله: “ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”.

مقالات ذات صلة