-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في صحبة موسى والخضر(8)

إعادة ترسيم الخارطة الإيمانيّة

أبو جرة سلطاني
  • 393
  • 1
إعادة ترسيم الخارطة الإيمانيّة

من كان يزعم أنّه على دين موسى -عليه السّلام-، فإنّ نفادَ صبْره وعدم سكوته عمّا رآه مخالفا لمنطوق الشّريعة ومفهومها دليلٌ على أنّنا مأمورون بعبادة الله بالشّريعة وليس بالكشْف؛ فكلّ ما يعارض حكما شرعيّا يُعدّ منكرًا ظاهرًا، وهو حجّة على من يتحجّج بعلم الكشْف ويرْفع مقام الخضْر فوق مقام النّبوّة. فما اعترف به الخضر نفسه لموسى -عليه السّلام- عندما سأله الصّحبة يُبطل زعمهم؛ فقد حدّد موسى نوع العلم الذي كان يريد أخذه عنه بأنه علم رشاد: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) (الكهف: 66)، أيْ مزيدا من الحكمة المرْشدة إلى الكمال البشري.

الغاية الأولى من سرد هذه القصّة هي إعادة رسْم “الخارطة الإيمانيّة” في قلوب المؤمنين وفي عقولهم، وهي الخارطة التي يدرك بنو إسرائيل عامّة وعلماؤهم خاصة أنّ معالمها الكبرى قد اندرست من كتبهم؛ ولا يمكن لأيّ بشر -مهما أوتيّ من العلم- إعادة رسْمها إلاّ عن طريق النبيّ موسى -عليه السّلام- الذي حرّرهم من أسر فرعون ورأوا معجزات الله تنتصر إلى ضعفهم حتّى دخلوا الأرض المقدّسة.

سنرافق موسى -عليه السّلام- في رحلة علميّة بصحبة الخضر -رضي الله عنه- نتوقّف في ثلاث محطّات يتقرّر فيها مبدآن مهمّان في حياة كلّ مسلم وفي صلته بربّه وبما حوله من النّاس وبالكون كلّه؛ أوّلهما طلاقة علم الله تعالى بالتّسليم المذعن أنّ فوق كلّ ذي علم عليم. وثانيهما فكّ الارتباط بين مقام الرّسالة ومقام الولاية، أو بين ما نحن مأمورون به وما لم يكلّفنا الله به رحمةً من عنده لتحرير المقال في ما يترتّب عن ذلك من انحراف في اعتقاد بعض أهل القبلة له تأصيله الشّرعي من الكتاب والسنّة ومن أرجح أقوال علماء الأمّة بفقه ما جاء على لسان موسى -عليه السّلام- من قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) (الكهف: 60)، إلى قوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) (الكهف: 82)، فمِن مطْلع القصّة تتأكّد حقيقتان دامغتان؛ الأولى: أنّ العلم موزَّع بين النّاس جميعا بدرجات متفاوتة، وليس منحصرًا عند أهل الكتاب ولا عند غيرهم؛ فزعم اليهود والنّصارى أنهم أعلم النّاس بالحقّ وأعرفهم بالدّين لكثرة ما بعث الله فيهم من رسل زعم مردود عليهم بسعي نبيّهم موسى -عليه السّلام- بحثا عن رجل أيقن أنه أعلم منه في فرع لم ينزل به كتاب، واشترط على نفسه أن يتّبعه ويصبر عليه ولا يعصي له أمرا ليأخذ عنه العلم والحكمة والرّشد: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) (الكهف: 66)، والثّانيّة: أنّ ما جاء به محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- كان أقرب إلى ما في التّوراة من حقائق، رغم اندراس معالمها، وأنّ التّفاصيل التي تحدّث بها القرآن هي نفسها التّفاصيل التي كانت ترويها كتبهم قبل تحريفها. فلما عبثت بها أيدي الأحبار والرّهبان صار في القرآن الكريم أدقّ وأوثق مما بقيّ مكتوبًا عندهم، ولو أنّهم قارنوا قصّة موسى -عليه السّلام- مع الخضر -رضي الله عنه- كما وردت في القرآن وكما تلاها عليهم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- بما هو مكتوب عندهم في التّوراة، لافتضح أمرُ التّحريف الذي أدخلته أيدي الذين كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم مدّعين أنها من عند الله، وقد تحدّاهم القرآن أن يأتوا بالتّوراة ويقرؤوها كما أنزلت إنْ كانوا صادقين في زعمهم: ((قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)) (آل عمران: 93).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عمر

    فهْم شخصية الخضر ولغز قصته مع موسى عليهما السّلام ..هي موجودة في ستور النص القرءاني.. إنْ أمْعنّا النضر وتأمْلنا تسلسل لقطات القصة التي خلّدها القرءان الكريم..فالنبيّ لا يعلم كل شئ وجوبا ولكن يحيط علما برسالته..وهناك من هو ليس بنبيّ ويعلم ما لا يعلمه النبيّ خارج الرسالة.. والأفعال اللتي قام بها العبد الصالح كلها تنافي الشريعة الموساوية وغيرها وتنافي العقل و المنطق البشري والواقع الظاهري..ولم يتقبلها موسى.. ولكن موسى سلّم الأمر لله ويعلم أنّ لله في خلقه شؤون.. ولذلك نبيّ الإسلام الصلاة عليه والسّلام كان يدعو ويقول" وقل ربّ زدني علما ".. هناك الفعل وحكمة وقصد الفعل.."وعسى وعسى...كما ينبهنا إليه القرءان في آياته.وأعمال العبد الصالح المأمور قد ييجريها الله مباشرة بواسطة أو بغير وسطة..قد يقوم الله بأفعال غير مفهوم حكمتها ككثير من العبادة..لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)..فهو يسأل ولا يوسأل. والله أعلم.