-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

إمضاء العدل يقتضي المكافأة والعقوبة

أبو جرة سلطاني
  • 458
  • 0
إمضاء العدل يقتضي المكافأة والعقوبة

خيّر الله -جل جلاله- ذا القرنيْن بين أنْ يسوس هؤلاء الأقوام بسلطان القوّة والقهر وعدل الفعل وصرامة العقوبة. وبين جمال العفو وفضائل الإحسان: “قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا” الكهف: 86، فسلك مسلكا وسطًا جمع فيه بين سلطان القوّة الرّادعة وبين جمال القدوة الآسرة؛ أيْ بين الضّرب على أيدي النّاس جميعا بعصا واحدة وأخْذ المحسنين بجريرة المسيئين، وبين إنزال كلّ فرد منزلته حتّى لا يزر فاعل الخيرٍ وزرَ صانعي السّـوء. فالعدل يقتضي مكافأة المحسنين ومعاقبة المسيئين.

هذا هو منهج الإسلام في السّياسة والحكم والتّقاضي وفي معاملة النّاس جميعا، فليس المحسن كالمسيء: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) (القلم: 35- 36). لم ينزع ذو القرنيْن إلى سلوك سيّاسة القبضة الحديديّة فيضع السّيف في رقاب الجميع طغيانا وكفرا، وهو قادر على ذلك ومأذون له به من ربّه إذا شاء. كما لم يتهاون باتّخاذ الحسنى واللّين مع المحسنين والمسيئين على حدّ سـواء، فيضيع بذلك العدل ويشيع في النّاس الجور وتدبّ الفوضى ويفلت الأمن من عقال العقوبة. وإنما سلك سبيلا وسطا بين العصْر والكسْر.

فأرسى قواعد منهج يضمن به وقاية الخير بحماية أهله وتشجيعهم على الفضيلة والعمل الصّالح، ويضمن به ردْعَ الشرّ بالضّرب على أيدي المجرمين وخضْد شوكة المفسدين: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)) (الكهف: 87- 88)، لم يترك للظّلم سلطان عتوّ في الأرض وتمدّد في نسيج المجتمع. ولم يسكت عن ظالم حتّى يظنّ النّاس أنّ الحق مع القوّة وأنّ ذا الشّوكة هو من يقطع دابر المحسن والمسيء.

فالعدل أصل والإحسان استثناءٌ: فالظّالم يجب أن يلقى جزاءه ليوقن أنّ هناك قدرة فوقه تلوي ذراعه وتضرب بقوّة على أمّ رأسه ليذوق وبال أمره. والمظلوم يجب أن يوقن أنّ في هذا الكون حقّا لا يضيع باستضعاف ولا يسقط بتقادم. فمهما علا صوت القوّة فهناك عدل يردعه وينصره ويأخذ الحقّ له مهما كانت درجة استضعافه ومهما كانت قوّة ظالميه.

تلك قاعدة الفعل الإسلامي في سياسة النّاس: القويّ بنفسه ضعيف أمام العدل حتّى يُؤخذ الحقّ منه. والضّعيف بذاته قويّ أمام العدل حتّى يُؤخذ الحقّ له. وهو ما أكده الخليفتان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- في خطبتيْ التّولية وفي سيّاسة الرّعية خلال فترة حكمهما بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتقرير مبدأ المكافأة والعقاب.

  • فالظّالم يُردع ويؤخذ الحقّ منه مهما علا.
  • والمظلوم يُنصر ويؤخذ الحقّ له مهما كان متروكا.

وهي القاعدة التي وفّق ربّ العزّة -جل جلاله- لذي القرنيْن فنطق بها لسانُه وأجرتها أركانه: “قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)) (الكهف: 87 -88)، هما كفّتا الميزان الدّنيويّ العادل في استخلاص الحقوق وفي إمضاء الواجبات وإلاّ ظلّ الحاكم عاجزا عن نصبه عدلا وتوازنه واجبا يردّ الحقوق إلى أصحابها.

فالعدل في الأرض لا يتحقّق إذا لم تصحبه حركة أخذ بالأسباب تردع الظّالم بعدل وتكافئ المحسن بإحسان لتستويّ كفّتا الميزان على أصل الحقّ والواجب ويعلم النّاس أنّ جزاء الإحسان إحسانا وجزاء الإساءة ظلما ونكرانا.

وبغير هذا لا يمكن سوادُ الحقّ في الأرض ولا قيّام العدل في النّاس ولا توازن الحقّ والواجب بين محسن ومسيء. لذلك جعل الله بعد الموت بعثا، ونصَب ـ بعد عدالة الأرض ـ ميزانَ السّماء؛ فمن أفلت في هذه بذكاء وحيلة أو بقوّة وقهر.. لن يفلت في الأخرى. ومن ظلم فنال شيئا من العقاب في الدّنيا سوف يردّ إلى ربّه فيلقى عنده عذابا نُكرًا. وهذا هو العدل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!