-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
وقفات رمضانية

إنّ سعيكم لشتّى

سلطان بركاني
  • 2271
  • 0
إنّ سعيكم لشتّى

أقسم الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز على أنّ سعي عباده يتفاوت ويختلف، فقال جلّ شأنه: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى))، والمتأمّل لواقع النّاس يجد أنّهم يتمايزون في سعيهم تمايزا عجيبا غريبا، حتى إنّك ربّما تجد أخوين توأمين، حملهما بطن واحد، وولدا في يوم واحد، وتربيا في بيت واحد، أحدهما اختار طريق الاستقامة والصّلاح، والآخر اختار طريق الغفلة والغواية، أحدهما لا همّ له إلا أن يزداد قربا من خالقه ومولاه، والآخر لا همّ له إلا شهواته الدنية.

تجد جارين، مسكن هذا ملتصق بمسكن الآخر، أحدهما لا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام ولا يصلّي إلا في الصفّ الأوّل، لا تسمع منه إلا الكلام الطيّب، ولا ترى منه إلا الوجه البشوش والابتسامة الصّادقة والأفعال الحسنة، والآخر لا يصلي في المسجد إلا الجمعة، ولا يصلي إلا في آخر المسجد، لا تسمع منه إلا الكلام التافه والمنحطّ أحيانا، ولا ترى منه إلا الوجه الأسود العابس والأفعال السيّئة المشينة.

تجد الرّجلين يعملان في مؤسّسة أو إدارة واحدة، أحدهما مجدّ في عمله، متفان في خدمة إخوانه، حريص على أن يطعم أبناءه الحلال، والآخر كسول خامل، مضيّع لعمله، متكبّر على إخوانه، يلجأ إلى أتفه الحيل ليتملّص من عمله، لا همّ له إلا أن يتقاضى راتبه كاملا غير منقوص.

تجد امرأتين عمرهما واحد، إحداهما تلبس الحجاب الواسع وتتزيّن بالحشمة والوقار، وتتحلّى بالكبرياء والأنفة، لا همّ لها إلا أن يرضى عنها ربّها وخالقها، وأخرى تلبس ما يسرّ النّاظرين، وتتكلّم بما يرضي السّامعين، لا همّ لها إلا أن تحظى بكلمات الإطراء والإعجاب، لا مكان في حياتها لتديّن أو وقار أو حياء، ولا موضع في مساحة اهتماماتها لقرآن أو ذكر أو دعاء.

تجد رجلين يدخلان المسجد في وقت واحد، أحدهما يتقدّم إلى الصّفوف الأولى، ويشغل نفسه بالصلاة وقراءة القرآن وذكر الله ودعائه، والآخر يجلس في آخر المسجد، ويشغل نفسه بأحاديث الدّنيا، بأخبار المتزوّجين والمطلّقين، وبأخبار الرواتب والأسعار.

تجد الرّجلين يقفان في صفّ الصلاة جنبا إلى جنب، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض، هذا متصل بخالقه، خاشع بين يديه، مستشعر لعظم الموقف الذي هو فيه، وآخر جسده في الصفّ وقلبه يهيم في أودية الدنيا، لا يكاد يسمع إلا تكبيرة الإحرام والسّلام.

تجد الرّجلين يحجّان في عام واحد وينفقان من الأموال الملايين، ويركبان طائرة واحدة، وينزلان في فندق واحد، أحدهما لا همّ له إلا الصّلاة في المسجد الحرام، وختم القرآن، والإلحاح على الله في الدّعاء والبكاء بين يديه بالأسحار، همّه الأكبر أن يتقبّل الله حجّه ويرضى عنه ويستجيب دعاءه ويعتقه من النّار ويكتبه في سجلّ الأبرار، والآخر لا شغل له إلا التجوّل في الأسواق وتتبّع الأسعار.

تجد الرّجلين يصومان رمضان معا، أحدهما يصوم طاعة لله؛ يصوم عن الحرام قبل الحلال، يشغل نفسه في نهار رمضان بالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن، وفي ليله بالاستغفار والدّعاء والقيام، والآخر يصوم اتباعا لعادة النّاس في الصيام، يصوم عن الحلال ويفطر على الحرام، لا شغل له في نهار رمضان إلا جلسات القيل والقال، ولا شغل له في ليله إلا جلسات المقاهي وبرامج القنوات.

 

ولعلّ شهر رمضان يعدّ بحقّ من أعظم المواطن التي يظهر فيها التّباين بين النّاس، كيف لا وهو شهر الفرز، فمجتهد حائز، ومتوانٍ عاجز، وفي آخر يوم من رمضان عندما توزّع الجوائز، يتبيّن عند الله الخاسر من الفائز، فيجد الفائز طعم السّعادة والرّاحة، ويجد الخاسر الضّيق والحسرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!