احموا الربيع العربي!
عندما يضع مركز أمريكي لدراسة السلام العالمي، دولة قطر في مقدّمة الدول العربية الأكثر استقرارا في المنطقة، فليس معنى ذلك، أن الإمارة الخليجية الصغيرة بخير، فقبلها كانت سوريا تحتل مراتب متقدمة في الأمن والطمأنينة وراحة البال، ولكنه أمنٌ ملوّث بالدم، أساسه القمع والكبت ومصادرة الحريات!
التقرير ذاته الذي تم نشره هذا الأسبوع، يقول أن دول الربيع العربي باتت تنافس الصومال وأفغانستان في حجم التوتر الشعبي وكثرة الاحتجاجات، وتناقص الأمن، بل وغيابه في كثير من المناطق، وهي حجّة سرعان ما تلقفها عدد من خصوم التغيير ومؤيدي الدكتاتوريات باسم الاستقرار، للقول أن ما عاشته البلدان العربية، على غرار تونس ومصر واليمن هو خريف دموي وليس ربيعا للحريات!
لا يعرف هؤلاء ربما أن تغيير دكتاتوريات دموية استمرت عقودا، ما كان له أن يتم دون دفع فواتير باهظة، أو كأنهم يتباهون بالاستقرار الذي كانوا يعيشونه في ظل حكم بن علي والقذافي ومبارك، رغم أن هؤلاء وأمثالهم من الطغاة العرب، شيّدوا هذا الاستقرار الشكلي على جثث المعارضين، وقمع الحريات وفتح مزيد من السجون والمعتقلات بدلا من بناء المدارس والمستشفيات.
لا يمكن أيضا الحكم على الربيع العربي خلال أشهر بسيطة، فما تعيشه تونس حاليا هو وضع طبيعي لخروج فئات متدينة عن صمتها بعدما شبِعت تهميشا وإقصاء لسنوات باسم العلمانية البشعة، وهي تريد التعبير الآن عن نفسها بطريقة تبدو فوضوية في البداية، لكنها سرعان ما ستلجأ لأطر تنظيمية صحيحة، كما أن مصر التي تقاوم فلول العهد البائد، لا يمكنها أن تحلم بغدٍ أفضل في بضعة أيام بعد عقود من الاستبداد والفساد والظلم والقهر، والأمر ذاته في ليبيا التي لم تكن لها مؤسسات سوى مؤسسة الزعيم الواحد والتي سقطت بمقتله الدولة ولاشك أن مرحلة بنائها تحتاج وقتا طويلا كذلك..
الأنظمة الاستبدادية نشرت مفهوما خاطئا للاستقرار، حيث حاولت مقايضته بالحرية والشفافية في التسيير، وربّت شعوبا على الخوف والسمع والطاعة، فلا يمكن لأحد أن يتنفس إلا بقدر ما تسمح به الأجهزة الأمنية، ولا يمكنه أن يحلم إلا في حدود ما ترسمه له السلطة من خطوط حمراء، فأيّ حياة تلك التي يهان فيها الإنسان ويصبح عبدا رخيصا، لا يفعل شيئا إلا الأكل والشرب والتناسل!
الربيع العربي ليس مفتاحا للجنّة، ولا يمكن القول بأنه سيكون خاليا من الفساد أو لن يعرف محاولة حثيثة لتكرار تجربة الاستبداد تحت أسماء جديدة وعناوين مغايرة، كما أنه ربما سيكون بالنسبة للبعض، تمهيدا لقوى تسمّي نفسها ثورية، ثم سرعان ما تنقلب بفعل طمع الطامعين وانتهازية الانتهازيين إلى قوى استبدادية جديدة، لكن ذلك ليس مبررا لإعادة إنتاج الدكتاتور بأيدينا، سواء تمثل ذلك في عباءة سلفيٍّ يبحث عن الانتقام في تونس، أو جنرالٍ يريد تكرار اللعبة في مصر، أو عائلة تبحث عن الاستحواذ على السلطة مجددا في اليمن.. قبل فترة، قلنا في هذا المكان بالتحديد: لا تحاكموا الربيع، واليوم نقول: احموا الربيع من نفسه ومن الآخرين؟!