-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
المربي والشاعر والخطاط محمد وزناجي

اسم لن يسقط من الذاكرة

اسم لن يسقط من الذاكرة
أرشيف

قد يكون التأبين، أحيانا، من لغو الكلم، ولا يجني كاتبه أو مرتجله إلا خيبة ظلماء؛ لأنه لا يجدي نفعا، ولا يضيف شيئا ذا قيمة إلى مسيرة المؤَبَّن (بفتح الباء المشددة) الذي وطّأ دربه، وزيّنه بأحسن المعروضات، وحوّله إلى مُتحف مفتوح يرى الناس فيه من بعده بدائع صنائعه وجمائل درره الثمينة المعلقة أمام أعين من يدانيها بعينين خاليتين من العشى الليلي والعمش. فيجدها ساحرة للألباب حتى في السحر وقبل انفلاق الإصباح.

في لحظة خاطفة وفاصلة، لم تدم إلا ثوان قليلة ضجت صفحات الديوان الأزرق بنعي الفقيد المربي والشاعر والخطاط محمد وزناجي، رحمه الله، بعد أن التهبت مشاعر الصادقين، واستفاق قناص الفرص الذين يبحثون عن مكان تحت ظل شجرته المورقة المورفة. وأطلق العنان للكلمات، فتنافست في بكائه وفي إظهار خصاله.

طوقتني الحيرة هنيهة، ثم جال في خاطري سؤال فحواه: كيف استطاع فراق هذا الفقيد العزيز أن يحرك الكوامن في قلوب أحبائه الصادقين، ويدفعها إلى الانفجار كالبركان دفعة واحدة؟. ولم أهنأ بجواب إلا من بعد أن نظرت في أسلوب عيشه الذي اعتمده في مسيرته، والنظر في فلسفة حياته التي تقيد بها. وانطلقت أكابد جمع أشتات هذه الفلسفة، فوجدتها مرتكزة على دعائم متينة منها:

مع بداية فجر حياته في مرحلة الرشد، وضع الأستاذ محمد وزناجي قدمه على أثر أقدام أسلافه أبناء قبيلة البوازيد الهلاليين الأحرار والشجعان الذين يلتقي نسبهم بأرومة الأشراف الطاهرة. ويروي التاريخ أنهم كانوا أهل فطنة وعلم، ويرفضون انتهاك العهود والغدر بأهل الذمم. وهم من ثاروا في وجه فرنسا العبوس كريح صرصر عاتية ذات هدير وصفير في ثورة واحة العامري سنة 1876م بالجنوب الشرقي من الجزائر. واختار السير على خطو والده وجدّه بفضل ما دس في عرقه النقي وطاقمه الوراثي الصافي من بذور فعل الخير ونشره. فقد كان جده العالم الفقيه الشيخ أحمد لخضر من كبار خدام الطلبة في الزوايا التي طاف بها في الأوراس الشمالي تعليما وتعهدا وتفقدا. ولم يتوقف والده الشيخ وزناجي وزناجي عن تعليم القرآن للصبيان إلا بعد أن بلغ به العمر عُتيا. ومن يتخذ في حياته نماذج مثالية وأسوات حية يقتدي بها سيمضي في وصب، ولا ينال منه التعب، ولا يقعده النصب.

عاش الأخ محمد وزناجي جنديا مخلصا في ميدان التربية، فأحب هذه الرسالة، وقابل ميله لها بالصدق والإتقان، والاجتهاد وبيان البرهان. فعاش لها بكل طاقاته وأنفاسه، وأعطاها من أثمن ما يملك وهما صحته ووقته، ولم يضن عن متعلميه بالعلم والتوجيه والنصح، حتى ملك قلوبهم، وكسب ود الكثيرين منهم. وبفضل ذكائه وأريحيته وخفة روحه وظله، استطاع أن يضع يده على استعدادات بعضهم، وأن يأخذ بأيديهم، ويرعى نزعات كل واحد منهم كما يرعى البستاني غراسه ويغنيها حتى تفتقت عن أجمل الأزاهير. وفي ظل رحلته المهنية، حفظ للمدرسة حرمتها، ولم يشارك في إخراج العملية التعليمية خارج أسوارها، ولم يجعل منها موردا تجاريا كما فعل غيره من زملائه الذين أغوتهم جاذبية الدرهم والدينار، فأهملوا الواجب، واستمالهم تضخيم الراتب بعد أن تهافتوا على مستنقع ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية”، وثملوا من مائه العفن، وازدردوا حتى تخموا من أوحاله النتنة. ولو كانت قرة عينه ذاهبة إلى طلب المال، لفتح دكانا كما فعلوا لبيع الحروف بالحبة والعنقود، وتزاحمت أمام بابه الحشود، وتحلقت بين يديه في تدافع الوفود. وإنما احتكم إلى ضميره الصاحي فأنكر هذا الفعل وتعفف. ومنعته عزة نفسه عن إتيان ما لا يليق من مبغوض هذا الترف، واحتشم عن السطو على لقمة عيش الفقراء وعلى ألبان صغارهم، وترفع عنها وتأفف. ورضي أن يرحل عن دنيانا العابرة تاركا أسرته بلا مأوى أو سقف؟.

عشق الأخ محمد وزناجي اللغة العربية العزيزة، وحمل لها في قلبه، وهو قلب شاعر رقيق وفنان مبدع، حمل لها تمثالا من الذهب المرصع، ونصب نفسه جنديا يدافع عن حياضها في كل تلة وإفجيج، ويذود عن حماها في عقلانية ومن غير تهوّر أو ضجيج. وخدمها في الأقسام، وناصرها وانتصر لها في محيط عيشه بالاحتجاج والمحاججة والرأي الرجيح. ولم يكتف بذلك، وإنما أضاف لها منحة من مواهبه التي وُهب مما ساعده على تبليغ جمالها وعبقريتها إلى كل الناس. فكان شعره الذي ينسج أبياته كحبات القمح المنضدة في سنابلها، والذي لم نقرأ منه سوى القليل، أداة من أدوات تحبيبها للأنفس كلما سرّبه إلى خاصته مكتوبا أو أسر به في الجموع. ولم تكن تشكيلات خطوطه التي يبدع فيها بأنامله إلا وسيلة أخرى رفعت من عدد المعجبين بهذه اللغة. وفعلا، كانت اللغة العربية النقية هي رفيقته في مجالسه وفي خلوته، وصاحبته التي لا تبارحه في القسم وفي الشارع، وفي كل مكان يجلس فيه لمغازلة سيجارته أو احتساء قهوته. وكان لا يتوقف عن إتحاف جلسائه الذين كان مظهر أناقة ثيابه يقدمه إليهم قبل كلامه، عن إتحافهم بلغة صافية من خلال مقطوعة شعرية أو بيت مختار أو قول مأثور أو مروية فيها مزحة مهذبة أو نكتة مضحكة تجعل الدمع يخدعهم ويسيل من مآقيهم، أو لقطة تعليق يخرج فيها من أحكام المنطق المألوف، ويخالف فيها الاستنتاج المرصوف أو رأي مخالف غير مسبوق.

ومن معالم فلسفته الحياتية أنه لم ينشغل بسفاسف الشواغل الأخرى التي اعتبرها من أنكر التوافه، فاحتقرها وذمها، وعدّها جهلا والتقاطا لغث غثيث وطيش طائش وسفاهة سافلة. فلم يقترب من لهو السياسة، وتحاشى عبث نقابات التربية، ولم يقترب منها؛ لأنه يكره المهازل ويعرف أن أرضها سائبة وسماءها مهانة. ولم يكن يخوض في سجالات ومناقشات الخائضين الذين شوّهوا السياسة وهردوا (من الهرد، وهو من فصيح اللغة العربية) المدرسة، وحرفوها عن أهدافها في خدمة المجتمع وتوجيهه في بشاعة ووضاعة.

ولد الفقيد محمد وزناجي صاحب المواهب المتعددة والثقافة اللغوية النضيرة في سنة 1957م بذراع القبور القريبة من سريانة. وما كاد أن يستكمل سنوات طفولته الأولى حتى أجلسه والده في كتابه القرآني يحفظه القرآن الكريم. وفرض عليه الانقطاع عن هذه الحلقات بعد أن زج بوالده في السجن حين تفطنت الإدارة الفرنسية إلى نشاطه الخفي ووقوفه إلى جانب الثورة التحريرية. وبعد الإفراج عنه، واصل الطفل محمد حفظ آي القرآن الكريم على يديه في مسقط رأسه. وختم استظهاره كاملا في حي بوعقال بباتنة كما استظهره من قبله أخوه عبد الرزاق، أطال الله في أنفاسه الزكيات، الذي يكبره بعدة سنوات.

كان مسار تعلمه في المدرسة النظامية متذبذبا قليلا، ومن يعرف الظروف المجتمعية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي سيراكم له الأعذار ويجمع له المبررات. فبعد أن درس تعليمه الابتدائي في مدرسة الشهيد أحمد إمرزوقن، انتقل إلى إكمالية صالح دحمان. وأما مرحلة تعليمه الثانوي فقضاها متأرجحا بين ثانوية عباس لغرور للتعليم العام وثانوية صلاح الدين للتعليم الأصلي، ومتراوحا بين الفرعين العلمي والأدبي. ومن هذه الأخيرة، حصل على شهادة البكالوريا التي مهدت له طريق الالتحاق بمعهد اللغة العربية وآدابها في جامعة باتنة. وبعد تخرجه، اشتغل أستاذا لسنوات طويلة في ثانوية صلاح الدين الأيوبي، ثم تولى منصب النظارة في عدة ثانويات منها متقن أريس.

كأنني أقرأ إسقاطا مخفيا عن حال الفقيد الأخ محمد وزناجي على ذاته شخصيا في بعض أبيات المقطوعة التأبينية التي خص بها المربي الراحل عمار زروال في حفل أربعينيته من جراء ظرفه الصحي المعقد الذي كان يتأزم يوما بعد يوم. فقد كابد أتعاب المرض المضني الذي حرمه من السير طويلا، وفرض عليه العزلة والانقطاع عن محيطه الاجتماعي إلا في مناسبات قليلة وأوقات محصورة. ولما كتب تأبينيته رثى نفسين بدل نفس واحدة، ومما قال فيها:

وإن الموت راحة من يعـاني

من السقم المبرّح والعــضال

وما الدنيا سوى لعـب ولــهو

كعاصفة تغزل بالــــــــرمال

تبسمَ للمنية حيـــــــن حلّت

ولو نكصت لقال لها: تعالي

رحم الله أخانا المربي الألمعي والشاعر الظريف والخطاط الماهر محمد وزناجي، وألهمنا الصبر بعد فراقه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • KF

    اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافيه. انا لله وانا اليه راجعون. كل نفس ذائقة الموت.

  • ابا دجانة

    الشعر لم يقدم ولم ياخر في تقدم الشعوب العربية البائسة يا ابا عرعور
    قال تعالي :وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۝ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۝ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[الشعراء:224-226]