-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأبعاد الاستثنائية لمعركة طوفان الأقصى

ناصر حمدادوش
  • 396
  • 0
الأبعاد الاستثنائية لمعركة طوفان الأقصى

قد لا نكون مبالغين بالقول إنَّ معركة طوفان الأقصى قد حلَّت فيها من البركات ما تتجاوز آثارُها حدود العقل الاستراتيجي الذي خطَّط فصولها، والسَّواعد التي نفَّذت تفاصيلها، ومن هذه الأبعاد الاستثنائية:

1 – إيقاظ الأمة والعالم:
أدّت معركة طوفان الأقصى دورًا استراتيجيًّا في إيقاظ الأمة والعالم، وهو شرفٌ لا يُعطى لأحد، واصطفاءٌ رباني لا يحظى به أيٍّ كان. ولذلك نلمس قوة هذا التأثير العالمي لها، ونتلمَّس نتائج أكبر بكثير مما هو متوقع منها، وهي جزءٌ من تلك البركة المنصوص عليها في قوله تعالى عن سيِّدنا إبراهيم عليه السلام في هجرته إلى فلسطين “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:71).
وتدرك حماس أنَّ هدف “تحرير كلِّ فلسطين”، وما دونه: “تحرير القدس” هو أكبر من قدراتها، وأعظم من إمكاناتها الذاتية، وهو ما يتطلب رمي هذا المشروع التحرُّري إلى الشارع العربي والإسلامي لتحتضنه الشعوب، بل ويجب الانتقال بهذا الهدف إلى خوض معركة الوعي بالخطر الصهيوني على الإنسانية جمعاء، ما يتطلب خوض معركةٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ وقانونيةٍ وفكريةٍ لإيقاظ الأمة والعالم لصالح هذا المشروع التحرُّري، وعدالة هذه القضية الإنسانية، وشرعية خيار المقاومة في سبيلها. يقول الشيخ “راشد الغنوشي” من سجنه عن معركة طوفان الأقصى، هي: “هدية أهل غزة إلى الأمة، وقوةُ تجديدٍ ودفعٍ واستنفارٍ وتعبئةٍ وإيقاظٍ وصحوةٍ وشعارِ بطولة”.
ويقول الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمان” صاحب كتاب “ثغور المرابطة” عن معركة طوفان الأقصى، هي: “استئنافٌ جديد للحضارة، وانبعاثٌ جديد للأمة، وميلادٌ جديد للإنسان، من خلال قيمٍ جديدةٍ، يكتشف فيها المرءُ ذاته، فيغوص إلى أعماقها، ليتّصل ظاهرُه بباطنه، وعاجله بآجله، ومفاهيم جديدة يتلمَّس فيها حريته، في ظلِّ شيوع قيم التعبيد للإرادة الإسرائيلية، وشروطٍ جديدةٍ يستعيد فيها فطرته، في واقعٍ شاعت فيه قيمُ الضلال”، ويضيف: “تكتب المقاومة الفلسطينية اليوم تاريخ الأمة، وتقود الإنسانية نحو النور، بما ينفتح بصنيعها من عقول، وما يقع -وسيقع- جرّاء فعلها المبهِر من مراجعات ذاتية: فردية وجماعية، وهي بحقٍّ استئنافٌ راشدٌ للعطاء المتواصل، وتوريثٌ إبداعيٌّ للطاقة المتجدِّدة في مسارات التاريخ الإسلامي والإنساني”.

2- التسريع بتغيير النظام العالمي:
هذه المعركة محطةٌ مفصلية، ولحظةٌ تاريخيةٌ استثنائية، تناغمت مع مسارٍ يتَّجه إليه العالم، وهو تغيير النظام الدولي، بإنهاء الزمن الأمريكي، والهيمنة الغربية، والأحادية القطبية، وتعديل موازين القوة فيه. يقول راشد الغنوشي في رسالته: “طوفان الأقصى مثل طوفان نوح، يغمر العالم كلَّه ويعيد بناءه مجدَّدًا، ليكون إنسانيًّا، متعافيًّا من كل ما هو متعفن. هذا تجديدٌ للإسلام، وتجديدٌ للبشرية، وتبشيرٌ بعالم جديد”. صحيحٌ أنَّ الحرب الرُّوسية- الغربية في أوكرانيا هي معركةٌ وجودية، وهي ثورةٌ روسية على الغرب، وكانت أغلب العقول الاستراتيجية تبشِّر بأنَّ تلك الحرب ستكون صاحبة الفضل في تغيير النظام العالمي، ومع أن هذا الهدف ليس خافيًا على القيادة الروسية، وقد صرَّح به الرئيس “بوتين” بشكلٍ مباشر، فقال: “أنَّ انهيار الهيمنة الغربية بدأ بالفعل، ولا عودة عنه”، إلا أنَّ تداعيات معركة طوفان الأقصى أقوى من حيث التسريع بمحاصرة المشروع الصهيوني، وإنهاء الهيمنة الغربية، وانهيار الأحادية القطبية في هذا الزمن الأمريكي الظالم أهله، وهو ما استشعره العقل الاستراتيجي الأمريكي جيدًا، فهرع إلى إنقاذ “إسرائيل” كمشروعٍ استعماريٍّ غربي، ليقينه بأنَّ زوال إسرائيل هو توقيعٌ على نهاية الهيمنة الغربية، صاحبة الإيديولوجية السرطانية “الصهيونية المسيحية”.
ولذلك فإنَّ معركة طوفان الأقصى تمثِّل بالنسبة لنا تفوُّقًا في الذَّات المقاوِمة، ووعيًّا بالذَّات التاريخية للأمة، وهي أمام سانحةٍ ذهبيةٍ للتقدُّم نحو الأمام، وفرصةً إستراتيجيةً للتسريع بعالمٍ متعدِّد الأقطاب، تجد الحضارة الإسلامية مكانًا لها تحت الشمس.

3- ضربةٌ عميقة لأصل أزمة الإنسانية:
تتلخَّص أزمة الإنسانية في هذا المشروع الصهيوني المتحكِّم في العالم، وقد عزَّزت هذه المعركة الشكَّ في المستقبل الوجودي لعنوانه، وهو: إسرائيل، كآخر مشروعٍ استعماريٍّ غربيٍّ يهيمن على العالم العربي والإسلامي، وقد قلبت هذه المعركة الطاولة استراتيجيًّا على الجميع، ووضعت حدًّا فاصلاً بين عهدين من تاريخ الإنسانية المعاصر، وستُنْهِي العديد من المشاريع التي حاول التحالف العضوي الصهيو- أمريكي فرضه على الأمة والعالم.

4- صدمةً في العقيدة الأمنية الصهيونية:
وهي العقيدة التي يقوم عليها الوجود الإسرائيلي، باعتماده على غرور القوة في حماية الشعب اليهودي داخل هذا الكيان، فإذا بمعركة طوفان الأقصى تزرع الخوف وتبثُّ الرُّعب في قلوب الصهاينة، إذ بلغ عددُ النازحين داخل الكيان بغلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة نصف مليون مستوطِن، بسبب العجز عن حمايتهم، بل دفعتهم إلى مصيدة “الهجرة العكسية”، إذ وصل عدد اليهود الذين غادروا إسرائيل نهاية 2020م إلى 756 ألفًا، ثم ارتفع العدد إلى 900 ألف نهاية عام 2022م، وبلغ نحو 250 ألف منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى يوم 07 أكتوبر 2023م فقط، وهو رقمٌ مخيفٌ جدًّا مقارنةً بعدد سكان الكيان الصهيوني، وهو ما تخشاه إسرائيل، التي استثمرت كثيرًا في هجرة يهود العالم إليها، فإذا بهذا “الطوفان” يمزِّق الصورة الخادعة التي رسمتها عن نفسها، باعتبارها قوةً لا تُقهر، ودولةً لا تُهزم.

هذه المعركة محطةٌ مفصلية، ولحظةٌ تاريخيةٌ استثنائية، تناغمت مع مسارٍ يتَّجه إليه العالم، وهو تغيير النظام الدولي، بإنهاء الزمن الأمريكي، والهيمنة الغربية، والأحادية القطبية، وتعديل موازين القوة فيه. يقول راشد الغنوشي في رسالته: “طوفان الأقصى مثل طوفان نوح، يغمر العالم كلَّه ويعيد بناءه مجدَّدًا، ليكون إنسانيًّا، متعافيًّا من كل ما هو متعفن. هذا تجديدٌ للإسلام، وتجديدٌ للبشرية، وتبشيرٌ بعالم جديد”.

لقد فَقَد الصهاينة اليقين بالشعور بالأمان، ما دامت المقاومة تضع يدها على الزناد عبر مختلف الساحات والجبهات، ولذلك تعترف إسرائيل بأنها تخوض معركةً وجودية من أجل البقاء، ولابد من القضاء على هذا الخطر الاستراتيجي لها، وهو المقاومة.

5- تعرية الكيان أمام العالم:
عرَّت معركة طوفان الأقصى بعض الأنظمة الغربية والعربية أمام شعوبها، وأوقفت مشاريع تصفية القضية (التهويد، والتطبيع، وصفقة القرن، واتفاقات أبراهام، والمشاريع الاقتصادية، والعلاقات الديبلوماسية السرية والعلنية…)، وكسبت تعاطفًا عالميًّا في الرأي العام الدولي لصالح القضية الفلسطينية، وكشفت عن الوجه الحقيقي النازي للعدو الصهيوني أمام العالم، وأسقطت تلك السرديات الصهيونية والروايات الإسرائيلية، التي لعبت بها دور الضحية للنازية، والاختباء وراء المسْكنة أمام المحيط العربي المعادي، وتقديم نفسها كدولةٍ استثنائيةٍ ديمقراطيةٍ مدنيةٍ أمام العالم، فإذا بمعركة طوفان الأقصى تكشف عن الوجه القبيح لهذا العدو العنصري، الذي يمثِّل -بحقٍّ- النسخةَ الأشدَ سوءًا من النازية، وأنها رأس الإرهاب والإجرام في العالم، وهي الغارقة في ثقافة العنف والتوحُّش.

6- المقاومة أنموذجٌ مثاليّ للأجيال الجديدة:
أنزلت معركة طوفان الأقصى خيالية الانتصار على الكيان الصهيوني إلى واقع الإمكان العملي، وذلك بالحسم في خيار المقاومة، وإسقاط أوهام السَّلام، والمسلسل العبثي للمفاوضات، ومزاعم الحل النهائي عبر المسار السياسي السلمي فقط. لقد أصبحت معركة طوفان الأقصى وأبطالها أنموذجًا ملهمًا للشباب المعاصر، وهو ما أثبتته استطلاعات الرأي العام؛ فحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” بالضفة الغربية، وبالرغم من محاولات تدجين الضفة بالسلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني ومشروع “دايتن”، والإصرار على استئصال خيار المقاومة، فإنَّ 70% من الفلسطينيين طالبوا بحلِّ السلطة الفلسطينية، وطالب 90% منهم الرئيس عباس بالاستقالة، وأنَّ 60% يرون “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”، وأنَّ 72% يؤيِّدون طوفان الأقصى، و60% يفضِّلون حكم حماس في قطاع غزة بعد الحرب، رغم حجم الآلام والدمار والجراح.
وفي عقر الصهيونية العالمية، وقلب المشروع الغربي، وعاصمة الأحادية القطبية أمريكا، تمَّ استبدال شعارات: “معاداة السَّامية” و “حق إسرائيل في الوجود”، و”حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” أمام الإرهاب، التي سيطرت على المشهد الأميركي لعقودٍ من الزمن، وحلَّت مكانها شعارات: “الفصل العنصري”، و”سرقة الأراضي”، و”التطهير العرقي” و”جرائم الإبادة” و”الجرائم ضدَّ الإنسانية” التي تمارسها إسرائيل في نظر الشباب الأميركي، فوفقًا لاستطلاعٍ حديثٍ للرأي، أجراه مركز “بيو” للأبحاث، فإنَّ: 61% من الشباب الأميركي (بين 18 و29 عامًا) ينظرون بإيجابية إلى الفلسطينيين على حساب الإسرائيليين.

7- أنموذج المعجزة العسكرية للمقاومة
وجّهت معركة طوفان الأقصى ضربةً عميقة لإسرائيل، لم تشهد لها مثيلاً في تاريخها الطويل، رغم الغرور القوة وجنون التفوُّق، على الصعيد السياسي والعسكري والاستخباراتي والمعنوي، قدَّمت خلالها حماس -وجناحها العسكري كتائب القسام- أنموذجًا أسطوريًّا في القوة والإعداد والجهاد والاستشهاد، وهي التي تشغل العالم كلَّه، سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا وفكريًّا، رغم حجم الاستهداف لها والتركيز عليها من طرف إسرائيل وأمريكا والعديد من الدول الغربية وبعض الدول العربية المطبِّعة، ومع ذلك فقد انتهجت خيار المقاومة المتكاملة سياسيًّا وعسكريًّا، وفرضته على الجميع طوْعًا أو كرْهًا، كخيارٍ يجتاح العالم رسميًّا وشعبيًّا. ومع اليقين بأنَّ حروب التحرير ليست رخيصة الثمن، فإن الحاضنة الشعبية تتلقى ضريبة هذا الخيار بكلِّ صبرٍ جميلٍ، وجَلَدٍ جليل، وهي تعلم يقينًا بأنَّ لهذه الأسطورة آثارٌ في انبهار العالم بهذه المقاومة الباسلة، وبهذا الشعب الاستثنائي، وهذه العقيدة الإيمانية النادرة، ما جعل بعض الغربيين يدخلون في دين الله انبهارًا، وينخرطون في دعم هذه القضية العادلة أفواجًا.
ورغم ما يبديه العقل البشري من قراءةٍ متبصِّرة لهذه المعركة متعدية الآثار ومتعدِّدة الأبعاد، فإنه لا يمكنه إغفالُ ذلك الاعتبار العقدي لتلك اليد الإلهية التي تعمل في الخفاء من أجل نصرة المظلوم، والانتقام من الظالم، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حَتَّى إِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ”، ثُمَّ تَلَا قوله تعالى: “وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ، إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ” (هود:102).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!