الرأي

الأمازيغية… لا نريدها قنبلة موقوتة!

أرشيف

بطرح مسودة الدستور للنقاش العام، تطفو المسألة الأمازيغيّة في بلادنا إلى واجهة السجال الفكري والاجتماعي من جديد، بشكل يثير الكثير من المخاوف والقلق من طغيان العصبيات العنصريّة واستفراد دعاة الفرقة بتوجيه دفّة الحوار، والذي يُفترض أن يكون عقلانيّا هادئا وجامعًا وساعيًا لمخارج واقعيّة وآمنة، تعزّز الهوية الجزائرية ضمن أبعادها التاريخيّة، بما يكرّس الوحدة الوطنية، السياسية والحضارية والثقافية، ويجعلها بمنأى عن التجاذبات الاقصائية والاستقطابات الإلغائية التي صارت تكشف عن أنيابها الحادّة وسط الجزائريين.

ما سجلناه من تفاعلات متوتّرة عقب مقال واحد نشره صاحبه مؤخرا، لا يعدو في الحقيقة أن يكون رأيا فكريّا عامّا، تناول الجزائر ضمن محددات الانتماء الحضاري، وخارج السياق السياسي والاصطفاف العنصري المقيت، شكّل مؤشرا مرعبًا على هشاشة التصوّر الوحدوي للهويّة، وكشف مرة أخرى منسوب الشحناء تجاه مكوناتها المرجعيّة التي لا تنفكّ عنها الأمازيغية الأصيلة ولا تنبت نباتا وطنيّا حسنًا إلا فوق تربتها الخصبة.

لقد تابعنا على خلفيّة ذلك تعليقات صادمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم تكن جديدة، تحاول عبثا الطعن في الهوية العربية الإسلامية للجزائر، بل والإساءة بخلفيات عنصرية بغيضة إلى الأمة العربية دون تمييز، بحجة أنّ الكاتب المعني تجاوز المكوّن الأمازيغي، مع أنّ الموضوع لم يتعرض إلى أبعاد الشخصيّة، بل إلى مفهوم الانتماء الحضاري، وحتّى لو افترضنا أنّ دعواهم صادقة، فهل يبرّر ذلك تحاملهم العصبي على مقومات الهويّة الجامعة؟

يجب أن يكون محسومًا لدى الأغلبية الوطنية المؤمنة بهوية الجزائر أنّ تكريس الأمازيغية لن يكون منفصلاً عن العربية، لغةً وثقافةً، ولا عن الإسلام عقيدة وانتماء، ناهيك على أن يتمّ طرحها في حالة تنافسيّة أو صداميّة معهما، لأنّ ذلك سيكون تزويرا للحقيقة التاريخيّة وتشويها للهويّة الأصيلة التي صُقلت على مدار خمسة عشر قرنا من التمازج والتفاعل والتكامل، حتى أنتجت الشخصية الجزائريّة الحاليّة بوجدانها وكيانها وفكرها وثقافتها وانتمائها الحضاري، ولن تتحول إفريقيةً أو متوسطية أو أوربيةً أو عولميّةً.

لذلك وجب التنبيه والتأكيد على المقاربة الوطنية للمسألة الأمازيغية في بلادنا، والتي تلقى قبولا وتأييدا من جميع العقلاء، وهي ترقيتها ضمن وعائها الحضاري الطبيعي حتى تكون منسجمة مع حركية التاريخ الجزائري، بمعنى أن نعمل على تكريسها بصفتها رافدا أساسيّا يعبّر عن التنوع اللغوي والثقافي، ويشكل ثراء وبُعدًا إضافيّا للهوية الجزائريّة، بحيث تكون في تكامل طبيعي مع اللغة العربية والدين الإسلامي، باعتبارهما الأساس الصلب في تبلور الهويّة الحضاريّة وفق ما ارتضاه الأجداد واعتنقوه طواعية منذ الفتح الإسلامي، بل إنهم تمثلّوها جهادًا وإبداعًا وتراثًا شاهدا على أصالة الجزائر، حيث بذلوا دماءهم في الوصول بها إلى أوروبا وتوطينها في بلاد الأندلس، وبفضلها تمكنوا من الصمود في وجه الهجمات الغربية على مدى قرون، ثمّ إجهاض مخطط الاستيطان الفرنسي طيلة 132 عاما.

إننا نريدها أمازيغية أصيلة، تشكل امتدادا تاريخيّا لمسارات وبطولات طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت ومحمد بن آجروم ومحمد البصيري وعبد الحميد بن باديس والفضيل الورتلاني والعربي التبسي والعربي بن مهيدي والعقيد عميروش وغيرهم من الأمازيغ الأقحاح، الذين رفعوا لواء العربية والإسلام، معتزّين بهويتهم ومنافحين عنها في وجه الأعادي، إلاّ إذا كان هؤلاء الرموز العظام خونةً أو مستلبين في نظر “الأمازيغ الجُدد”، ممّن غسلت المخابر الكولونيالية عقولهم بالأباطيل المزيفة.

أمّا ما نراه اليوم من تنطّع عصبي يغطّي هديرُه الصاخب على صوت العقل وسط دعاة الأمازيغيّة، متنكّرا لدائرة الهويّة الواسعة، فهو للأسف عنصريّة انقساميّة موقوتة، تنطلق من الأدبيات المسمومة التي أسس لها مشروع الاستدمار الفرنسي الخبيث، عبر الدراسات الإثنوغرافية والأنتروبولوجيّة المزعومة، وما رافقها من سياسات احتلاليّة تمييزيّة لفصل جهات الوطن عن بعضها البعض منذ الدخول الفرنسي في 1830، وذلك بهدف توفير مناخ من الانقسام القبلي يهيئ للاستعمار ظروف البقاء في بلادنا، أو يضمن له على الأقل شروط الهيمنة والنفوذ عليها بعد جلائه العسكري الاضطراري.

لسنا ناكرين للأمازيغية الباديسيّة الوطنيّة، بل هي قضيتنا جميعًا، نتبنّاها لغةً وثقافةً وتراثًا في كنف الهويّة المُوحِّدة، لأننا نرفض القوميّات العرقيّة النتنة، ونحلم بدولة مواطنة، نعيش تحت سقفها الواحد كجزائريين عربًا وأمازيغ.

مقالات ذات صلة