الرأي

الأمن ورجال الأمن في‮ ‬غرداية‮.. ‬معامل الزمن‮ ‬يُربك المعادلة

محمد سليم قلالة
  • 3600
  • 11

كان ومازال الوضع في‮ ‬غرداية‮ ‬يحمل إشارات واضحة عن‮ ‬المستقبل الذي‮ ‬ينتظر بلادنا من حيث الوحدة الوطنية ومركزية السلطة والتماسك الاجتماعي،‮ ‬باعتبار أن‮ ‬غرداية هي‮ ‬الجزائر مصغرة،‮ ‬وليست فقط جزء من الجزائر،‮ ‬وجاءت الوقفات الاحتجاجية لرجال الأمن انطلاقا من هذه المدينة بالذات ثم من العاصمة لتؤكّد بالفعل أن تلك الإشارات الحاملة للمستقبل تحوّلت إلى متغيرات‮ ‬يمكن من خلالها قياس حاضر ومستقبل الاستقرار في‮ ‬بلادنا‮. ‬

تتوقف درجة استقرار دولة حسب بعض تقنيات الاستشراف على محصلة تأثير المتغيرات الفاعلة فيها مقارنة بالزمن الذي‮ ‬تستغرقه هذه الدولة في‮ ‬التكيف مع هذه المتغيرات،‮ ‬كلما تكيفت الدولة مع المتغيرات بالسرعة اللازمة،‮ ‬كلما ارتفعت نسبة درجة الاستقرار بها،‮ ‬وكلما تباطأ تكيفها كلما أصبحت‮ ‬غير مستقرة أكثر؛ أي‮ ‬أن للزمن دورا كبيرا في‮ ‬جعل متغير من المتغيرات ضاغطاً‮  ‬على استقرارها أو‮ ‬غير ضاغط،‮ ‬وهي‮ ‬المسألة التي‮ ‬بدا جليا أن مسؤولينا لم‮ ‬يدركوها،‮ ‬بل عكس ذلك راهنوا على أن الزمن سيكون باستمرار في‮ ‬صالحهم،‮ ‬بل وافترضوا عكس ما تقول به نظريات تحليل الأزمات أن الزمن سيجعل من المتغيرات الفاعلة‮ ‬غير ذات تأثير،‮ ‬باعتبار أن طاقتها ستتبدّد مع مر الأيام والأشهر مثلما تتبدد الطاقة الكامنة تدريجيا،‮ ‬وهو ما لم‮ ‬يحصل باعتباره مناقضا لنواميس الحياة الاجتماعية والسياسية في‮ ‬مثل هذه الحالة‮.‬

عكس ذلك،‮ ‬الذي‮ ‬حدث أنه بمرور الأيام والأشهر أضعف ميكانزم التكيف لدى الدولة،‮ ‬وبدأ‮ ‬يتأكد أنها‮ ‬غير قادرة على إيجاد مخرج لأزمة طالت،‮ ‬ونتيجة لذلك ارتفعت حدة تأثير المتغيرات المختلفة على الواقع السائد سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية،‮ ‬ووصل الأمر في‮ ‬آخر المطاف إلى وقوع تغيّر حاد في‮ ‬المتغير الأمني‮ ‬السائد ببؤرة التوتر الأولى ولاية‮ ‬غرداية تجلى في‮ ‬شكل موقف اتخذه رجال الأمن،‮ ‬تحول إلى وقفة ثم إلى مسيرة ثم إلى مطالب،‮ ‬وانتقل تأثيره فورا إلى العاصمة،‮ ‬حيث تتحرك متغيراتٌ‮ ‬مشابهة ضاغطة على الواقع ولكن بدرجة مختلفة‮.‬

وهكذا تجلت بوضوح نتائج ضعف ميكانزم التكيف لدى الدولة في‮ ‬الزمن الملائم،‮ ‬وأفرز التلكؤ في‮ ‬إيجاد مخرج أو مخارج للأزمة التي‮ ‬تعيشها مدينة‮ ‬غرداية،‮ ‬النتائج التي‮ ‬نراها اليوم من حيث تحول العامل‮ (‬المتغير‮) ‬الذي‮ ‬كان الرهان عليه لوقف الاحتجاج في‮ ‬آخر المطاف،‮ ‬هو ذاته إلى الاحتجاج،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يستوقفنا أكثر من أي‮ ‬عامل آخر‮.‬

إن احتجاج هذا المتغير الأمني‮ ‬على مواصلة العمل لوقف الاحتجاج‮ ‬يعني‮ ‬أننا أصبحنا أمام طريق مسدود،‮ ‬لقد فشل التعاطي‮ ‬مع كافة المتغيرات الأخرى في‮ ‬احتواء الأزمة في‮ ‬الوقت المناسب‮: ‬المتغيرات السياسية والثقافية،‮ ‬والاجتماعيةـ الاقتصادية،‮ ‬وها هو التعاطي‮ ‬مع المتغير الأخير‮ ‬يفشل بأن‮ ‬يشرع في‮ ‬الاحتجاج على أوضاعه‮. ‬

‭ ‬توصيف في‮ ‬غاية الخطورة‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نعترف به،‮ ‬بعيدا عن كل تحليل آخر مغالط،‮ ‬يتحدث عن مؤامرة خارجية أو أيادي‮ ‬أجنبية أو‮ ‬غيرها‮… ‬باعتبار الأمر‮ ‬يتعلق بتفاعلات لمتغيرات داخلية لم‮ ‬يتم التحكم فيها،‮ ‬وتدخلٍ‮ ‬لمعامل الزمن زادها تعقيدا؛ أي‮ ‬أن المسألة هي‮ ‬بالأساس داخليةـ داخلية‮ ‬ينبغي‮ ‬أن لا نصفها كما فعل بعضهم بأنها تقدّم خدمة للأجنبي،‮ ‬بل أن نسعى لإدراكها بموضوعية من‮ ‬غير تحيز أو انحياز أو اتهام لهذا أو ذاك،‮ ‬باعتبار أن المشكلة قائمة،‮ ‬وقد تتفاقم وستتفاقم أكثر في‮ ‬المستقبل إذا لم‮ ‬يتم الرفع من ميكانزم التكيف ولم‮ ‬يتم اختزال معامل الزمن فيها اختزالا لكي‮ ‬لا‮ ‬يرفع من وتيرة تسارع حِدِّيَتَها‮.‬

مطالب سكان‮ ‬غرداية موضوعية،‮ ‬ومطالب رجال الأمن موضوعية هي‮ ‬الأخرى،‮ ‬واتفاقهم حول أن الزمن قد طال أمر مؤكد،‮ ‬وذلك ما‮ ‬يفسر الرضا المتبادل بين رجال الأمن والمواطنين بشأن احتجاج هؤلاء وهؤلاء،‮ ‬بل وما‮ ‬يفسر التعاطف الشعبي‮ ‬في‮ ‬كامل ربوع الوطن من قبل مع سكان‮ ‬غرداية واليوم مع رجال الأمن الذين حملوا مطالب مشروعة واتخذوا قرار الخروج للشارع رغم علمهم بصعوبته وما‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينجر عنه من تَبعات‮.‬

لقد بَيَّن ذلك،‮ ‬كم هو متخلف من حيث التوقيت الزمني‮ ‬القرار القاضي‮ ‬بالتكفل بانشغالاتهم،‮ ‬وكم هو‮ ‬غير مجدٍ‮ ‬اليوم التعامل معهم خارج نطاق الاحتجاج،‮ ‬لقد ترك مسؤولونا الأوضاع تتعفن في‮ ‬غرداية إلى درجة لم‮ ‬يعد سكانها‮ ‬يتحملون،‮ ‬وكشفت لنا احتجاجات الشرطة بأن مسؤولينا أيضا تعاملوا أيضا ببطء مع انشغالات أجهزتهم الداخلية مما تركها تصل إلى حالة البحث عن حلول لأوضاعها بسرعة أكبر،‮ ‬أي‮ ‬أنه لم‮ ‬يكن لدى مسؤولينا أيّ‮ ‬قدرة على الاستشراف فما بالك الاستباق وإلا ما وقع ما وقع إن في‮ ‬غرداية أو مع رجال الأمن أو‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقع في‮ ‬مناطق أخرى من البلاد‮.‬

لذا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نسجل ومن باب التفكير الاستباقي،‮ ‬أنه علينا اليوم أن نطرح السؤال الرئيس التالي‮: ‬ماذا سيحدث لو استمرت الأوضاع على ما هي‮ ‬عليه الآن؟ وكيف‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نتصرف من الآن إذا حدث؟ كاستشراف استراتيجي‮ ‬نحن في‮ ‬أمس الحاجة إليه‮.‬

أعتقد أنه علينا أن ننتبه إلى عامل الزمن في‮ ‬المعادلة القائمة اليوم،‮ ‬باعتباره المتحكم في‮ ‬القدرة على التكيف،‮ ‬وأن نعترف بأننا تركناه بعيدا عن تصورنا للحل،‮ ‬سواء لما‮ ‬يحدث في‮ ‬غرداية أو لدى رجال الأمن أو ما‮ ‬يحدث أو سيحدث في‮ ‬مناطق أخرى أو قطاعات أخرى‮.‬

إننا نعتقد خطأ وباستمرار أن الزمن في‮ ‬صالحنا،‮ ‬بل هناك فئات من المجتمع لا تتصور بأن الزمن ليس اتجاها خطيا لا‮ ‬يدور ويعود إلى نقطة المنطلق ذات‮ ‬يوم،‮ ‬فتتصرف وكأنها باقية في‮ ‬مواقعها في‮ ‬الحكم وعلى رأس مصالح اقتصادية للأبد،‮ ‬بل وتفترض جدلا أنها ستبقى في‮ ‬تلك المواقع إلى ما لا نهاية وترى بأن الزمن‮ ‬يسير باستمرار في‮ ‬اتجاه تصاعدي‮ ‬لصالحها‮.‬

لذا تجدها مطمئنة للخمس سنوات القادمة،‮ ‬وربما تفكر في‮ ‬العشرين سنة القادمة دون أدنى مراعاة للآثار السلبية التي‮ ‬يتركها هذا الزمن على الآخرين،‮ ‬ولن تفيق حتى تجد هذه الآثار السلبية قد تحولت من احتجاجات لمواطنين على الشغل والسكن وانعدام العدالة الاجتماعية إلى احتجاجات أخرى إلى مسائل أخرى تبلغ‮ ‬ذروتها عندما تصل إلى الوسيلة التي‮ ‬توقعت أنها كفيلة بوضع حد للاحتجاجات‮.‬

وهو ما‮ ‬يحدث عندنا للأسف ويحملنا مسؤولية التنبيه إليه‮.‬

ما فائدة الحصول على سكن في‮ ‬سن الخمسين أو على شغل في‮ ‬سن الأربعين أو على أجر مقبول قبيل التقاعد؟‮ ‬

لعل‮  ‬الكثير من مسؤولينا اليوم‮ ‬يتصرفون بمنطق كسب الوقت بدل استباق الزمن إن في‮ ‬القضايا السياسية أو الأمنية أو الاجتماعية،‮ ‬كل الخبرة منصبّة حول كيفية تأجيل المشكل إلى حين‮ ‬ينسحبوا من الساحة أو‮ ‬يموتوا،‮ ‬وهو سلوك لا علاقة له بالوطنية الحَقَّة التي‮ ‬يهمها مستقبل الأجيال قبل مستقبلها خلافا لتلك الوطنية المشبوهة التي‮ ‬تقوم على فهم محدود لمن هم الأبناء،‮ ‬وعلى مبدأ قاتل أنا ومن بعيد الطوفان‮.‬

‭ ‬إن أبناء‮ ‬غرداية ورجال الأمن هم أبناؤنا جميعا وينبغي‮ ‬أن نعرف بأنه إذا كان الزمن لا‮ ‬يهم البعض ممن‮ ‬يتحملون المسؤولية تجاههم،‮ ‬فهو بالنسبة لهم زمنٌ‮ ‬قاتل،‮ ‬كل دقيقة‮ ‬يدفعون الثمن فيها لوحدهم ولا أحد‮ ‬يحس بذلك،‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نفهم ذلك قبل فوات الأوان‮.‬

مقالات ذات صلة