الإبانة عما يحدث في مصر الكنانة(2)
في السياسة كما في الدين، كبائر، قد تفضي إلى الكفر البواح، كما قد تفضي إلى الخيانة العظمى.
وإذا كانت الكبائر في الدين، قد حظيت بإجماع العلماء والفقهاء، فإن الكبائر في السياسة هي أيضا قد لقيت موافقة كل الزعماء العقلاء والشرفاء.
فالكبائر في الدين، كما نصت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، تهوي بصاحبها إلى الدرك الأسفل من النار، والكبائر في السياسة كما تؤكد على ذلك مواثيق وقوانين حقوق الإنسان، تودي بأصحابها إلى أسفل دركات الخيانة الوطنية.
وإن من الكبائر في السياسة، أن يقدم المواطن العسكري المسلح، على قتل أخيه المواطن المدني الأعزل، ومن اكبر الكبائر، وأنكاها في السياسة أن يكون القتل جماعيا، وأن ينصَبَّ على أناسٍ رُكّع خُشّع، يستقبلون ربّهم بالدعاء، ويومهم بالبكاء، في اعتصام سلمي، وفي تعبد إسلامي، آمنين مطمئنين، ولا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربّنا الله، ووطننا مصر.
وما كان للجندي المصري المسلّح أن يتجرّأ على قتل أخيه المصري المدني الأعزل لولا أنّ قائده العسكري قد سبقه إلى الاعتداء على حق قائده في الحكم السياسي، وذلك بعزله بالتعسّف والقوّة، وسجنه ظلمًا وعنوة.
كنّا نريد لجيش مصر أن يتحلّى بحكمة أكثر، فيتعظ بما حدث للجزائر من المجازر، فيُجنِب شعبه مثل هذه المغامرة التي هي الشرارة الأولى للحرب الأهلية، والتي إن لم يطفئها عقلاء قوم ستقضي على الأخضر واليابس، وتحوِّل الآمِل إلى يائِس.
إنّنا كلما قلّبنا صفحات أيام المحنة المصرية لم نجد لها تعليلا شافيًا، ولا سببًا كافيًا. فإذا كان السبب كما يدعي القائد العسكري للانقلاب هو أنّ الرئيس المصري المنتخب “محمد مرسي” قد ارتكب أخطاء خلال سنته الأولى للحكم، فإنّنا مع تسليمنا بإمكانية الخطإ، نقول وأيُّ حاكم عربيٍّ أو غير عربي قد سَلِم من الخطإ؟ ولو كان المقياس هو ارتكاب الخطأ. فإنّ المنطق المصري هذا يقتضي أن يقع انقلاب في كلّ أسبوع في بلادنا العربية.
وإذا كان المعيار الآخر هو الاستجابة للإرادة الشعبية، فأين نضع إرادة المعتصمين في ساحة “رابعة العدوية” وباقي الساحات المصرية؟
ألم يكن الأجدى والأجدر أن يحافظ الجيش المصري؛ وهو الذي يحمي ولا يحكم على الحيادية الإيجابية بين المؤيدين والمعارضين للحكم في مصر؟
لو فعل الجيش المصري ذلك لرفعه الشعب -كل الشعب- على الأعناق، ولجنّب وطنه كلّ هذا التأزّم والاختناق، والانشقاق.
إنّ ما أقدم عليه وزير الدفاع المصري من تهديد للشرعية، واعتداء على الديمقراطية، وعبث بالإرادة الشعبية، لهو تحويل لمجرى نهر الثورة المليونية عن مسارها الصحيح، وزّجٌ بالبلاد في أتون الصراع الدموي الصريح.
ولكن ما العمل، وقد بلغ السيل الزبى؟ هل يترك أبناء مصر شعبهم عرضة للتيارات الأجنبية الدخيلة؟ وهل يتمادون في صمّ الآذان عن سماع الحقيقة الأصيلة، وهي إعادة الرئيس المنتخب إلى قصره، وتحريره من قيده وأسره، والعمل معه من جديد على تحقيق نصره وتوحيد مصره.
إنّ الوطن المصري بما عرفناه فيه، وبما يتصف به من أريحية، وشيم حضارية ليصبو إلى نظام يحفظ لمصر تنوّع أعراقها، وتسامح أبنائها، وتوحيد علمائها وعقلائها. إنّه لمن العار على مصر أن تسقط في حضيض الكبائر السياسية وهي الخيانة، وفي مكائد المؤامرات الأجنبية وهي نذالة.
فارحمينا يا مصر مما نعانيه بسبب ما أنت فيه! فوّتي الفرصة على أعداء وحدتك وأنصار فرقتك. إنّنا بدافع من حبِّنا لمصر نتوجه بالدعاء إلى كلّ مثقفي مصر، وخاصة إلى عقلائها، وعلمائها أن يهبّوا لإنقاذ وطنهم من براثن الفوضى الجماهيرية وإعادة الحكم إلى من سُلب منهم بكلّ وطنية وروح رياضية. إنّ التاريخ صحائف فليخلّد فيها كلّ واحد، وكلّ واحدة بالتضحية والتخلّص من الأنانية، جميل الذكر. يجب أن يوضع حدٌّ للانحدار نحو المجهول، فالوطن المصري قادر على الوفاء للأصول، ويملك تحقيق المطلوب والمأمول.
وليذكر شعب مصر بجميع أعراقه، أنّ العنف في مصر ككرة الثلج تبدأ صغيرة ثم تأخذ في الكبر، ولهم في الجزائر الجريحة بمأساتها أسوأ الاقتداء، بما خلّفه العنف فيها من دموع ودماء، وضحايا أبرياء.
ليتمثل أبناء مصر باستغاثة وطنهم التاريخي على لسان شاعر النيل حافظ إبراهيم، وهو يهيب بأبناء مصر قائلا:
لا تبخلوا بمائها على ضمي
وأطعموا من خيرها كلّ فم
ودافعوا عنها تعِش وتسلم
إنّ الخطوة الأولى في طريق المصالحة الوطنية بين جميع الفرقاء تبدأ بالاعتراف بارتكاب الخطإ، وإنّ الاعتراف سيّد الأدلة. كما أنّ الخطوة الموالية يجب أن تتمثل في إعادة الأمور إلى نصابها، وعفا الله عمّا سلف، والبدء بوضع قاعدة صلبة، وشاملة للبناء الذي يشترك فيه الجميع بقيادة الرئيس الذي يسلِّم برئاسته الجميع.
فإنْ لم يفعل المصريون ذلك، وإن فقدت مصر العالم الأزهري الرّشيد، والمثقف العقلاني السديد، والمواطن الواعي الحميد، فليتوقعوا لوطنهم الوعد والوعيد، وذلك هو الخسران الشديد، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، ومن شرّ البلاء وشماتة الأعداء.