-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإدارة الجزائرية… إنجازات حضارية وتطلعات استشرافية

بشير فريك
  • 1412
  • 0
الإدارة الجزائرية… إنجازات حضارية وتطلعات استشرافية

عندما نغامر بالكتابة عن الإدارة الجزائرية ونحن نحتفل بستينية استرجاع السيادة الوطنية، فإنه من الأهمية بمكان استقراء المنهج التاريخي حيث إنه لابد من استرجاع في عجالة عاجلة واقع الإدارة من منظور الموروث الاستعماري في بلادنا، ثم كيف كان وضع هذه الإدارة غداة الاستقلال مركزيا ومحليا؟ وكيف خاضت جزاء الاستقلال معركة الجزأرة الإدارية من خلال التكوين والممارسة على اعتبار أن العمل الإداري في أعمال السيادة فلا بد أن تتولاه أياد جزائرية وطنية فكرا وممارسة، وكذلك لا بد من الإشارة إلى مدى النجاح والإخفاق اللذين واكبا المسيرة الطويلة “60” سنة لإطاراتنا وأعواننا ثم ما هي التطلعات الاستشرافية لمستقبل إدارتنا في ظل التحولات والرهانات التنموية الوطنية.

أولا الإدارة الاستعمارية:

في الواقع، لا يمكن الحديث عن إدارة جزائرية خلال الحقبة الاستعمارية لأنها كانت ومنذ الغزو العدواني في 1830 إلى 1962 تاريخ اندحار العدو ومغادرته التراب الوطني، كانت عبارة عن إجراءات ومحاولات وأنماط إدارية مرحلية في محاولات احتواء الثورات والانتفاضات الشعبية ومواجهتها ثم السعي لتكريس الاستيطان من خلال جملة من القوانين التعسفية، على غرار قانون الأهالي المجحف سنة 1871 الذي جعل الجزائريين من الدرجة الثانية بعد الأوروبيين ثم قانون التجنيس الذي جعل من يرفض التجنيس تحت رحمة الأوروبيين، وكذلك قانون الحالة المدنية 1882 الذي أجبر الجزائريين على حمل ألقاب أغلبها مشينة لحد الآن لدى العائلات الجزائرية، وكذلك قانون التجنيد الإجباري الذي أدى إلى ثورة 1916 بالأوراس وكانت كل الإجراءات عبارة عن محاولة لطمس الهوية والجزائرية لغة ودينا وعادات وتقاليد، وبطبيعة الحال تولت الإدارة الاستعمارية تدسيها عمليا خدمة للسياسة الاستعمارية العدوانية لخدمة المستوطنين الأوروبيين من شداد الآفاق الأوروبية والفرنسية، وإذ تولت الإدارة المدنية تجسيد تلك النصوص وغيرها فإنها كانت تحت رعاية بل امتدادا للعمل العسكري الفرنسي في الميدان، حيث كان الحاكم العام هو الحاكم المطلق من خلال جنرالات الميدان، وذلك باعتماد بعض النظم الفرنسية على غرار المحافظون (الولاة) في كل من الجزائر ووهران وقسنطينة مع نواب المحافظين في أهم المدن الأخرى لمساعدتهم، وذلك بدعم قوات الاحتلال، مع إنشاء أنواع من البلديات كاملة الصلاحية يقطنها الأوروبيون والمختلطة والجنود الخاضع للإدارة العسكرية، وابتداء من 1947 وإلى غاية 1962 فقد تم اعتماد نظام لا مركزي بإشراك بعض الجزائريين في المجالس المحلية شكليا مع إسناد بعض المهام على أعوانهم من الجزائريين Caïd القواد عن كل قرية أو عرض والذين مازالت بعض جذورهم في إدارتنا لحد الآن !

وفي 1956 ولمواجهة المد الثوري عززت السلطة الاستعمارية تواجدها محليا من خلال إنشاء 12 عمالة (ولاية) ليرتفع العدد في 1959 إلىى 15 عمالة وعدد البلديات بلغ 1485 بلدية جل منتخبيها وموظفيها من الأوروبيين. وقد حاولت الإدارة الاستعمارية انجاز بعض المرافق المدرسية والتكوين لسكان المدن حيث يتواجد الأوروبيون بالإضافة إلى المرافق الأخرى كالمستشفيات والطرق إلخ..

في حين ظلت المناطق الداخلية في القرى والأرياف تكابد دون عناية ولا اهتمام من السلطات الاستعمارية سوى إرهاق كامل الفلاحين والتجار بالضرائب. ولعل المشروع الوحيد الذي سجل أثناء الثورة من طرف الجنرال دوغول هو مخطط قسنطينة سنة 1958 مما تضمنه من مشاريع وإنجازات كانت تهدف إلى استمالة السكان وخنق الثورة، ولكن هيهات ! حيث كانت الثورة في مراحلها المتقدمة متهيئة لأخذ مشعل الاستقلال !

ثانيا: الإدارة غداة استرجاع السيادة الوطنية

كان وضع الإدارة في السنوات الأولى للاستقلال في حالة متقدمة من التدهور لاسيما برحيل المعمرين تاركين المرافق العمومية في حالة فراغ رهيب مما انعكس سلبا على أدائها وخدماتها العمومية، فكان من الضروري المستعجل لمواجهة الوضع المأساوي لواقع الإدارة الموروثة مع ما هو مطلوب منها في تأطير المجتمع وتقديم الخدمات لأفراده وفق تطلعاته الجديدة التي حملتها آلام وآمال سبع سنوات من الحرب و132 من هيمنة الاستعمار وما واكبها من تضحيات جسام صدرت سلطة الاستقلال نصا يبقى على الاستمرار في العمل بالقوانين واللوائح والتنظيمات الفرنسية في مختلف الإدارات العمومية باستثناء ما يتعارض مع السيادة الوطنية، وذلك من أجل ضمان الحدود الدنيا من استمرار الخدمات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية في انتظار إنشاء المنظومة التشريعية والتنظيمية الوطنية المنظمة والمؤطرة للدولة والمجتمع.

فبصرف النظر عن دور الهيئة التنفيذية الانتقالية المشتركة المنصبة في “الصخر الأسود” بومرداس في أفريل 1962 إلى غاية سبتمبر من ذات السنة والتي واجهت أساسا الأعمال الإجرامية لمنظمة الجيش السري OAS مما قامت به من مجازر وأعمال تخريبية.

ومباشرة بعد دخول جيش الحدود واستيلائه على السلطة والأخذ بزمام الأمور بقيادة أحمد بن بلة توالت الإجراءات السياسية والاقتصادية والتنظيمية من إصلاح زراعي والحكم في الثروات الوطنية عصيب الدولة الجديدة فتم إنشاء سونطراك في أواخر 1963 فكانت أولى الخطوات للحكم في الثروات الطاقوية ليليها بسط النفوذ على مؤسسة الكهرباء والغاز والبريد والمواصلات آلخ..

وعلى الصعيد المحلي تم تقليص عدد البلديات إلى 676 بدية وتم تعيين مندوبيات خاصة لتسييرها وذلك لمواجهة العجز الذي خلفه رحيل المعمرين من البلديات، وتم تعيين عمال العمالات الخمسة عشر الموروثة ونوابهم، وذلك من الكفاءات المهادية الوطنية حيث إن جلهم من المجاهدين أو أعضاء المنظمة التابعة لجبهة التحرير الوطني أثناء الثورة لاسيما أولئك الذين لم يظهروا العداوة للثورة الجزائرية.

ومن أكبر التحديات التي واجهت إدارة الاستقلال هو قرار تأميم المحروقات في 24 فيفري 1971 حيث خاضت إطارات سوناطراك معركة شرسة للحكم في الإدارة والتسيير والتقنيات المتعلقة بالإنتاج والاستكشاف بانسحاب الفرنسيين، لتنشئ الدولة بعهد المحروقات في بومرداس، الذي تخرجت منه الإطارات والكفاءات التي أوجدت لنا العملات الاقتصادي الوطني “سوناطراك”.

وعلى الصعيد الإداري البحت، نجد أن جل الإطارات العليا والمتوسطة من ذوي الماضي الثوري المشرف قد تم تعيينها في مناصب المسؤولية بالإدارات المركزية والمحلية من مديرين ونواب مديريهم وولاة ورؤساء الدوائر ومديرين عامين للمؤسسات الاقتصادية ومختلف الدواوين، ومع ذلك ظلت الهياكل الإدارية وإلى اليوم بتحكم في جلها العناصر المفرنسة الموروثة لتشكل النقطة السوداء في مؤسساتنا الإدارية السيادية والاقتصادية.

ولمواجهة العجز الفادح في التأطير الإداري فقد تم إنشاء المدرسة الوطنية للإدارة سنة 1964 وكانت بنظام صارم ولكنه ببعد فرانكوفوني منهجا وتكوينا وفكرا.

وقد تولت هذه المدرسة في البداية تكوين الإطارات في الإدارة العمومية والاقتصادية والديبلوماسية والقضاء ورئيس الجهورية، السيد عبد المجيد تبون، من خريجي هذه المؤسسة الفرع الاقتصادي الدفعة الثالثة ومنها تخرج جل الولاة والوزراء، والمديرون العامون ورؤساء الدوائر وجل الإطارات المحلية والمركزية، فرغم المآخذ المنهجية والعملية المنطقية إزاء المدرسة الوطنية للإدارة إلا أن خريجيها من الإطارات قدمت خدمات جليلة للإدارة الجزائرية بالأمس واليوم.

ثالثا: إنجازات حضارية شاهدة

تعرضنا بإيجاز وجيز إلى واقع الإدارة الجزائرية غداة استرجاع السيادة الوطنية والجهود المبذولة في التكفل بكبريات الانشغالات الوطنية والخدمات العمومية وكيف بذلت جهود كبرى في التكوين والتأطير، وموازاة مع ذلك علينا أنه نسجل بفخر واعتزاز تلك القفزات والانجازات الحضارية التي عرفتها وتعرفها البلاد اقتصاديا واجتماعيا وإداريا حيث قطعنا خطوات تنموية عملاقة للرفع من مستوى معيشة الوطن (رغم النقائص).

وسنحاول هنا الإتيان على بعض الانجازات الشاهدة حيث تم إسكان الملايين من المواطنين في المدن والأرياف وتشغيل ملايين أخرى في مختلف القطاعات الإدارية والاقتصادية العمومية والخاص، وفي الفلاحة والخدمات، وتم إنجاز الملايين من الأقسام الدراسية في مختلف الأطوار التعليمية وبلغ عدد التلاميذ 8 ملايين والجامعيين يقارب المليونين ناهيك عن معاهد ومؤسسات التكوين.

وتم تغطية التراب الوطني بشبكة من الهياكل الصحية ومستشفيات ومراكز صحية وتخرجت الآلاف من الإطارات الطبية إلى درجة “تصدير 15 ألف طبيب لفرنسا وحدها) ناهيك عن كفاءاتنا المهاجرة التي أثبتت كفاءتها عبر العالم.

لقد تم إنجاز العشرات من السدود، والمطارات والموانئ والمركبات الصناعية الضخمة من الحجار إلى أرزيو وسكيكدة وحاسي مسعود وحاسي الرمل، وتم مد شبكة من الكهرباء الريفية حيث بلغت نسبة التغطية الوطنية حوالي %90، ناهيك عن الطرق والطرق السريعة والجسور العملاقة، والمعركة متواصلة للقضاء على مناطق الظل حسب البرنامج الرئاسية.

لقد استطاعت الجزائر أن تتبوأ مكانة متميزة في المحافل الدولية إفريقيا ودوليا سياسيا واقتصاديا وحتى رياضيا وغيرها كثير وكثير جدا جدا.

فكيف تحققت هذه المنجزات ومن تولى ذلك ومن يتصدر اليوم القاطرة الأمامية لمعركة التنمية الشاملة المتواصلة. إنها ببساطة الإدارة وجنودها من إطارات وأعوان وموظفين، هي تلك الإدارة “بمآخذها” التي كانت وراء المنجزات الحضارية المادية والمعنوية لجزائر الأمس واليوم والغد، رغم جل الذات بتوجيه أصابع الاتهام لكل ما هو إداري هنا وهناك. لقد كانت إدارتنا بسلبياتها وإخفاقاتها هي الحصن الحصين على جانب الجيش الوطني الشعبي لبناء الدولة وضمان عزتها وقوتها وأمنها واستقرارها وازدهارها اقتصاديا واجتماعيا بفضل الجهود والتضحيات للملايين من الإطارات والأعوان المتعاقبين على إداراتنا المركزية والمحلية وهي تحترق بأجور زهيدة من أجل إنارة درب الأجيال والمواطنين لما هو أفضل.

رابعا: من أجل آفاق أفضل

رغم الإنجازات الكبرى التي أتينا على ذكر اليسير منها والتي لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها والتي كانت الإدارة الجزائرية بأعوانها وإطاراتها من ورائها تخطيطا وبرمجة ودراسة وإنجازا.

إلا أن طموحاتنا إلى آفاق مستقبلية مشرقة تعجلنا دائما منادين إلى إحداث ثورة إصلاحية استشرافية عميقة تطلعا إلى تحسين الأداء الإداري من خلال آليات العصرية والرقمنة والتكوين والرسكلة وتطوير الفكر الإداري الوطني ليتماشى والتوجهات العصرية الحديثة للإدارة اقتصادية أو اجتماعية أو خدماتية.

إن الاختلالات كثيرة والبيروقراطية بمفهومها السلبي أصبحت كابوسا وطنيا للرئيس والمرؤوس وتبعاتها تهدد الوطن والمواطن.

وعليه علينا بإجراء المعاينات الميدانية للوقوف على مكامن الخلل هنا وهناك، لاسيما في الإدارات ذات الصلة المباشرة مع المواطنين ومع إدارة الشأن العام من الصفقات العمومية وإيجاز المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية، فرئيس الجمهورية وهو ابن الإدارة يدرك جيدا الواقع الإداري بسلبياته ومحاسنه فقد استحدث مؤسسة وسيط الجمهورية بصلاحيات واسعة، والمفتشية العامة برئاسة الجمهورية ناهيك عن الهيئات الرقابية التقليدية كمجلس المحاسبة والمفتشية العامة للمالية بصرف النظر عن البرلمان ودوره في رقابة عمل الحكومة ومن خلالها عمل الإدارة محليا ومركزيا.

كل ذلك يدعو إلى ضرورة تطوير هذه الهيآت الرقابية لآليات عملها وعدم الاكتفاء بالتقارير الاتهامية “الردعية” بل عليها القيام بدراسات لنوعية الاختلالات المسجلة والشكاوى التي تصلها أو التي تتوصل إليها وأسبابها وطرق معالجتها بإبراز هل هي نتيجة لتجمد النصوص القانونية والتنظيمية وعدم مسايرتها لخطاب التطور والعصرنة، أم هي ناتجة عن تحجر الذهنيات لدى فئات واسعة من الموظفين وعدم قدرتهم على محاكاة العصر.

علينا الذهاب فورا وبدون تأخر إلى العصرنة الإدارية من خلال إدخال الرقمنة وتحديث النصوص القانونية والتنظيمية والاقلاع عن نصوص العرقلة والتعقيد بفرض شروط لا جدوى منها في أي ملف أو مبادرة استثمارية مهما كانت، فعلى الوزارة المعنية بالرقمنة والاستشراف أن تقود قاطرة التغيير والتحديث في أساليب ومنهجيات العمل الإداري وإحداث ثورة في ذهنيات الموظف العمومي من خلال التكوين والرسكلة أو التسريح للتقاعد.

والاستفادة من تجارب من سبقنا بعد أن كان أسوأ منا خلال ثلاثة أو أربعة عقود فقط، حيث قطع أشواطا كبرى في النمو الاقتصادي والاجتماعي بفضل استحداث أدوات وآليات للإدارة العصرية.

وأخيرا، علينا ألا نخاف من لومة لائم في التصدي بقوة الظاهر الفساد والانحراف باستعمال الترهيب والترغيب حسب الحالة لأن التصدي لأشكال الإهمال والتعسف في استعمال السلطة والعرقلة تعد من آليات الإدارة العصرية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!