-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإرهاب والمقاربات المغيَّبة

بن يغزر أحمد
  • 180
  • 0
الإرهاب والمقاربات المغيَّبة
ح.م

تطرح الاستراتيجيات التي يتم من خلالها التعامل مع آفة الإرهاب في العالم سؤالا ضاغطا وهو: هل يراد فعلا القضاء على الإرهاب أم أن المراد هو توظيفه؟

وأول ما يجعل هذا السؤال مشروعا هو هذا الإصرار على عدم إعطاء تعريف محدد ودقيق لمصطلح الإرهاب، الأكيد أن سبب ذلك لا يتعلق بعجز معرفي أو التباسٍ قانوني يحول دون ذلك، لكنه حرصٌ مقصود ومتعمد على إبقاء دلالة المصطلح فضفاضة، حمَّالة أوجه، حتى تبقى حدوده سائلة يمكن للقوى المتحكمة في وضع المعنى، وفي صياغة الإدراك العام، أن تحدد مضامينه وأطرافه بالطريقة وبالكيفية التي تخدم رؤيتها وأهدافها بعيدا عن الحقيقة والصواب.

وثمة عقبة حقيقية أخرى تحول دون الحسم في تعريف المصطلح وهي التخوف الموجود عند هذه الأطراف من إمكانية شرعنة وتمييز حركات المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار الأجنبي، باعتبار أن أي تعريف محدد للإرهاب، سيجعل هذه الحركات غير معنية بنطاقه، وهو ما يكسبها شرعية أخلاقية وقانونية لا تريدها قوى الهيمنة، أو تريد احتكار الحق الحصري في منح وتوزيع هذا التوصيف لمن تريد وعندما تريد ذلك.

كما أن تعريفا محددا وواضحا قد يجعل ما تقوم به بعض الدول –وليس فقط الأفراد والجماعات– قابلا أيضا أن يُصنف كأعمال إرهابية، بل قد يكون أسوأ أنواع الإرهاب بما يؤدي إليه في غالب الأحيان من نتائج وخيمة على مستوى الخسائر البشرية والمادية، لا يمكن مقارنتها بما تسببه الأعمال المعزولة لأفراد أو لمجموعات.

ولغلق هذا الاتجاه في النقاش وإحراج من يتبناه، فإنه عادة ما توظف تهمة جاهزة وهي تهمة “تبرير الإرهاب”، فكل من يطرح الأسئلة الصحيحة والعميقة حول الآفة أو يحاول أن يفهمها بعيدا عن الاصطفافات الإيديولوجية والأحكام المسبقة والنزعات الاستغلالية، سيجد نفسه في مواجهة سيل من التهم، وقد يصنف في دائرة “دعم الإرهاب” و”التعاطف معه”.

هناك إرادةٌ قوية من دوائر ومخابر سياسية عالمية، وتيارات إعلامية وفكرية، تحاول أن تفرض اتجاها مغلقا في مناقشة الآفة الإرهابية، يطغى فيه الصوت العالي وليس التفكير الهادئ، وتقدَّم فيه الطروحات الفضفاضة على التدقيقات العلمية المنهجية، وفي أجواء التهييج الحماسي، والدفق الإعلامي الموجه، عادة ما تغيب أو تُغيَّب الحقائق.

ليس من أهداف هذا المقال نفي وجود الإرهاب، ولا التقليل من خطورته، وهو ينطلق من تعريف بسيط له، أساسه استخدام العنف أو التهديد به لفرض قناعات ووضعيات سياسية أو دينية أو سلوكات اجتماعية… وهو بهذا المعنى يمكن أن يستخدمه فردٌ أو جماعة أو حتى دولة، ولذلك فهو يصطفُّ إلى جوانب آفات أخرى عانت منها البشرية كالاستعمار، والإبادة الجماعية، والعنصرية، والاستبداد، وممارسة الاستعلاء العرقي أو الثقافي أو الديني.

وعندما نتعامل معه على هذا الأساس فإنَّ كل المحاولات لربط هذه الآفة حصرا بدين أو بعرق أو بجغرافيا معينة، تصير آليا استغلالا غير شريف، ومنهجية غير علمية، في تناول آفة أنتجتها وتنتجها ظروفا تاريخية، وإذا كانت اليوم في هذا الطرف، فإنها يمكن عند تغير الظروف التاريخية أن تكون في طرف آخر، أما الشعارات التي يتلبس بها الإرهاب سواء كانت هذه الشعارات دينية أو شوفينيات وطنية أو عرقية أوعنصرية، فهي ليست إلا محاولات لإعطاء شرعية ما لهذا الانحراف غير الطبيعي أو تزويده بقدرات إقناعية وتجنيدية.

إن تجنُّب التعامل مع آفة الإرهاب بطريقة تتغافل عن كل ما سبقت الإشارة إليه ينمُّ إما عن ذهول عن أفضل الطرق في التعامل معها، أو أن القصد هو توظيف ما يسمى بـ”مكافحة الإرهاب” ليس بغرض استئصاله، وتفكيك وإزالة كل العوامل التي تنتجه، ولكن من أجل تحقيق غايات أخرى مضمَرة تحت هذا الشعار.

وفي الواقع، فإن مؤشرات كثيرة تدفع للاعتقاد الجازم بأن أطرافا متعددة تستثمر في مسمى الإرهاب، وفي مسمى محاربته، لتحويل الأمر إلى فزاعة، أو إلى سلاح ردع، أو إلى ذخيرة حقيقية في صراعاتها الإيديولوجية ضد من تعتبرهم خصوما أو منافسين أو أعداء، وبالتالي فإن مصلحة هذه الأطراف ليست في القضاء على الإرهاب واستئصال أسبابه، لكن مصلحتها في استمراره في حدود متحكم فيها، مع إدارة هذه الآفة وتوجيهها.

يمكن من خلال ملاحظة أولية تحديد ثلاثة أطراف مستفيدة من التعامل مع الآفة الإرهابية بهذه الطريقة “الاستعمالية”:

القوى الكبرى المهيمِنة والمشكَّلة من القوى الاستعمارية التقليدية السابقة، ومن القوى التي أفرزتها تحولاتُ الحرب العالمية الثانية، والتي لاتزال تتحكم في صياغة المنظومات العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكلها حريصة على استمرار هيمنتها وتوسيع مساحات نفوذها، ويعدُّ شعار مكافحة الإرهاب أحد الأدوات المفضلة والفعالة من أجل تحقيق ذلك، فضلا عن استخدام فزاعة الإرهاب من أجل تسويق ما تنتجه شركاتُها من الأسلحة ومنظومات الأمن، وما يوفره لها ذلك من موارد مالية ضخمة، فضلا عن مكاسب إستراتيجية أخرى، وأحدث مثال واضح يؤكد هذا التوجه هو ربط الإدارة الأمريكية قرار رفع السودان من “قائمة الدول الراعية للإرهاب” بشرط إعلان تطبيع حكومة هذا البلد علاقتها مع الكيان الصهيوني.

الأنظمة الاستبدادية غير الديمقراطية والتي وجد الكثيرُ منها في شعار الإرهاب ومكافحة الإرهاب وسيلة فعّالة في تثبيت سطوتها، وفي تبرير كل سياساتها القمعية في حق شعوبها، واستجلاب الحصانة والحماية من القوى العالمية الحريصة على ضمان مصالحها من خلال الأدوار الوظيفية التي تقوم بها هذه الأنظمة على حساب شعوبها، بل إن بعضها اتخذ من حجية “خطر الإرهاب” لتحييد كل حركات المعارضة ذات الامتداد الشعبي بوسمها بصفة “الإرهاب” وذريعة لتأجيل أي تحول نحو التمكين للحريات والخيارات الديمقراطية بحجة أولوية الأمن والاستقرار.

التيارات السياسية المتصارعة التي أصبحت توظف سردية مكافحة الإرهاب في الاغتيال المعنوي لخصومها ومنافسيها، وفي حشد الأنصار، خصوصا في الحملات الانتخابية، وأصبح الكل يزايد بهذا الشعار، حتى أن البعض جعل منه برنامجا حصريا، ولعل الحملة الأخيرة التي يقودها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ما سماه “النزعة الانفصالية” و”الإرهاب الإسلامي” مثالٌ واضح على هذا التوظيف استعدادا للاستحقاقات المرتقبة في ظل التراجع الانتخابي الذي يعيشه حزبُه خاصة أمام اليمين المتطرف المتصاعد في أوربا عامة وفي فرنسا تحديدا، ومحاولة منه للتغطية على الخيبات التي تلاحقه في كثير من ساحات الصراع في العالم التي كانت تُحسب على أنها مناطق نفوذ فرنسية.

إن المواجهة الفعلية للظاهرة الإرهابية تكون في البحث عن أسبابها الحقيقية، بعيدا عن التوجيه وعن الانتقائية، وعن الانتهازية السياسية أو الايديولوجية، وأول ما ينبغي أن يوضع تحت الفحص في هذا الاتجاه هو مقولة أن الإرهاب يتأسس على الخلفية الدينية، وهو تبسيطٌ مخادِع، وانسياق وراء فرضية لا تصمد أمام أي قراءة عميقة، صحيح أن جماعات العنف “الإسلامية” تغذي خطابها بنصوص دينية، وتؤثثه بمفردات ومفاهيم ومقولات لها حضور في مصنفات التراث الفقهي الإسلامي، وترفع شعارات من نفس الصنف، لكنها تفعل ذلك بشكل انتقائي، وهي إذ تفعل ذلك لا يمكن أن تمثل غالبية الأمة، ولكنها تعبِّر عن هامش غير معتبر تحركه دوافع أخرى يحاول ان يعطي لنفسه ولخطابه ولمسلكيته شرعية ومقبولية من خلال ذلك.

كما أن أغلب الجماعات التي تمارس العنف تحت شعار “الإسلام” وأكثرها شهرة وتداولا في وسائل الاعلام، لا تلتزم بمبادئ وأخلاقيات الإسلام في الحرب المعروفة والمحددة في كل المصادر المرجعية الاسلامية المعتبرة، وقيادتها في الغالب مجهولة الهوية محدودة المستوى الثقافي والعلمي ولا تملك مسارا نضاليا معروفا سابقا، وهو ما يطرح علامات استفهام قوية عن حيثيات وظروف نشأتها، ويفتح المجال واسعا أمام فرضية أن هذه الجماعات ليست إلا أدوات بيد قوى وأطراف مخابراتية عالمية أو غيرها، سواء بالتأسيس أو بالاختراق والتوجيه والتحكم والتوظيف.

لا يمكن نفي العلاقة بين تزايد وتيرة وحدة ظاهرة العنف، وبين المرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة الإسلامية، والتي اجتمع فيها التفكك والتجزئة، والتراجع الحضاري، والتخلف الاقتصادي، والاستبداد السياسي، والانكفاء العلمي والمعرفي، ورغم تراجع المد الاستعماري فإن أثاره لاتزال ضاغطة، ولاتزال الكثير من الشعوب الإسلامية تشعر بأن الاستعمار الذي ضربها لعقود مسؤول بشكل مباشر أو غير مباشر عن أوضاعها الحالية، وكل هذا يخلق بيئة من الإحباط والغضب قد يتسبب في دفع فئات متحمسة مندفعة وراء عواطفها الهوجاء بعيدا عن أي عقل أو منطق أو حتى شرع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!