الرأي

الإسلام الجديد في فكر توفيق حميد

محمد بوالروايح
  • 5772
  • 9

من المفارقات أن لفيفا من المفكرين الذين يحاربون ما يسمونه “التطرف الديني” يسقطون فيه بقضِّهم وقضيضهم، وتوفيق حميد واحد من هؤلاء، فبعد تجربة “جهادية” في صفوف “الجماعة الإسلامية في مصر” حملت فيه هذه الأخيرة شعارات راديكالية أفضت إلى فتنة مُضلة، هجر توفيق حميد معاقل الجهاديين وانضم إلى جماعة العقلانيين، لكن ليته كان عقلانيا فاستفاد من هذه النقلة من عالم التكفير إلى عالم التفكير، إنه لم يكن كذلك وانتقل من التطرف الديني إلى التطرف الفكري.
لقد تبنى توفيق حميد فكرة “الإسلام الجديد” ولكنه لم يُرد أن يفصح عنها حفاظا على رصيد الثقة الذي يحظى به لدى بعض المسلمين الذين استطاع أن يستخفهم بأسلوبه التمويهي التضليلي من خلال الدعوة إلى “تجديد الإسلام” التي ليست في الحقيقة إلا غطاء لفكرة خطيرة يتقاسمها مع كثير من المفكرين من شاكلته وهي الدعوة إلى “إسلام جديد” يحاولون تأسيسه على أفكار هجينة مأخوذة من اليهودية والمسيحية وبعض الفلسفات العقلية.
بعد أن هجر توفيق حميد “الجماعة الإسلامية” في مصر أصدر كتابا عنوانه: “داخل الجهاد” يتحدث فيه عن خلايا وخبايا التنظيمات الجهادية وكيف تعمل من الداخل والسُّبل الكفيلة بمواجهتها وهزيمتها، وهو الكتاب الذي جلب له كثيرا من التبجيل لدى المعسكر الغربي وضمِن له مكانة في المؤسسات البحثية والاستخباراتية التي يتعاون معها. يدَّعي توفيق حميد أن تجربته الجهادية وتعمُّقه في دراسة الظاهرة الإسلاماوية قد ساعده على اكتشاف بعض الفراغات في المنظومة الإسلامية وبخاصة في جانبها الإنساني وأنه قد اهتدى إلى إصلاحها بما أمكنه الوقوف عليه من التجارب الدينية الناجحة وفي مقدمتها ما توفره التجربة اليهودية والمسيحية، إنه يفسر الإسلام برؤية يهودية ومسبحية فيما يسميه النقاد “مسحنة الإسلام أو تهويد الإسلام” وهو مشروعٌ قديم بدأ مع التيارات المسيحية والتهويدية الأولى.
إن الخطأ الشنيع الذي وقع فيه توفيق حميد في كتابه “داخل الجهاد” هو الخلط بين الإسلام من حيث هو شريعة ربانية وبين الممارسات الإسلامية من خلال ما يفعله بعض المسلمين وتوقعه بعض الجماعات الإسلامية باسم الإسلام مما يدمر الإنسان ويدمر خصائصه الإنسانية، إن خطأ توفيق حميد يشبه خطأ رشيد حمامي الذي كتب كتابا بعنوان “داعش والإسلام” والذي انطلق فيه من مقدمات ومقاربات خاطئة من خلال عدم التفريق بين الإسلام الذي يدعو إلى بناء المجتمع الإنساني على أسس التعايش المشترك وبين “داعش” التي يهدم سلوكها ومسلكها أسس هذا التعايش ويشجع على العودة إلى فكرة الحرب الدينية.
يدعي توفيق حميد أنه قد نجح في “أنسنة الإسلام” بتطعيمه ببعض التجارب الإنسانية التي تشجِّع على التعايش الإنساني المشترك، ونسي أو تناسى أن رصيد الإسلام من القيم الإنسانية أكبر من أن ينكره الناكرون أو يجحده الجاحدون. إن الإسلام الذي عرفناه في كتابات الباحثين المسلمين والباحثين الغربيين المنصفين هو الإسلام الذي تحمل نصوصه الكثيرة دعوة صريحة إلى التعايش بين الشعوب والحضارات ونبذ الحروب والنزاعات، وهو الإسلام السلمي الإنساني الذي لا يحتاج إلى جرعة سلمية وإنسانية لا من توفيق حميد ولا من غيره، وهو الإسلام الذي لم يبن تعاليمه على فكرة الحرب المقدسة كما هو الشأن بالنسبة لليهودية والمسيحية، وهو الإسلام الذي لا يذكي الحرب الدينية ويحث أتباعه على الجنوح إلى السلم كلما تهيأت أسبابه “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”، وهو الإسلام الذي عرف “مدارس التأسيس” ولم يعرف في تاريخه “محاكم التفتيش”.
ويقدم توفيق حميد فكرة الإسلام الجديد من خلال تخييره المسلمين في مقال له على موقع “الحرة” بعنوان: “تريدون محمدا من القرآن أم محمدا من السنة؟”، حيث يقول: “.. وكما اختلفت المذاهب في الاحتفال بمولد الرسول، اختلف وتباين وصف “محمد” بين القرآن والسنة بحيث يصل فيها التناقض إلى درجة تجعل من الاستحالة تصوُّر أن المصدرين (أي القرآن والسنة) يتكلمان عن الشخصية نفسها، فمحمد “القرآن” قد يدافع عن نفسه ولكنه لا يعتدي على الآخرين: “وَقَاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، وأما محمد السنة فيقول “أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله”، ومحمد “القرآن” لا يعرف ماذا سيحدث له أو لغيره يوم القيامة: “وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم”، أما محمد السنة فهو يعلم الكثير من الغيب فيبشر أفرادا بعينهم يقينا بدخول الجنة (العشرة المُبشَرون بالجنة!).
إن الشخصية المزدوجة للنبي صلى الله عليه وسلم لا وجود لها إلا في فكر توفيق حميد السقيم وتصوُّره العقيم، وإن تعجب فعجب قوله “إن محمد القرآن ينهى عن العدوان في حين أن محمد السنة يحرض المؤمنين على قتل الآخر”، تصور عجيب قوامه نص يتيم لا يدرك توفيق حميد معانيه ودلالاته وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله”، لا أدري من أين استشف واكتشف توفيق حميد إباحة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العدوان على الآخر مع أن النص النبوي صريح في الأمر بالقتال وليس في الأمر بالقتل، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقتل الناس” بل قال: ” مرت أن أقاتل الناس” وبين الأمر بالقتل والأمر بالقتال بون شاسع عند البلاغيين لا أظن أن فكر توفيق حميد يرتقي إليها. لا أدري لماذا غفل توفيق حميد عن الكم الهائل من نصوص السنة النبوية التي تحرم العدوان على الآخر ومعاداة المعاهد وحفظ إنسانية الخصم حتى في أحرج المواقف وهي الحرب.
ويستمر توفيق حميد في فصله بين محمد القرآن ومحمد السنة فيقول: “ومحمد القرآن لا يفرق بين رسل الله “لا نفرق بين أحد من رسله”، بل ويتبع هداهم ويقتدي بهم “أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده” أما محمد السنة فهو يقول عن نفسه “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”. لا أدري كيف غفل توفيق حميد عن أحاديث كثيرة يتحدث فيها الرسول عن إخوانه من الرسل ويصف نفسه بأنه اللبنة التي تعني بأنه المكمل ولا تحمل أيَّ معنى من معاني التفرقة “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”.

مقالات ذات صلة