-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإصلاح التربوي والاستغراب

خير الدين هني
  • 631
  • 0
الإصلاح التربوي والاستغراب

يأتي الإصلاح  في اللغة، بمعنى الارتقاء بالشيء إلى الحالة الحسنة، وإزالة  ما فيه من فساد أَو عطَب أَو تلَف، والإصلاح بمفهومه البنيوي تركيبٌ علمي وفني، يتناول طرق النظر في النظم السياسية والقانونية، والأخلاق الاجتماعية والمقاربات التعليمية… وهي في مجملها تشكل ظواهر نسقية لترقية الإنسان إلى المستويات العليا من التفكير والإدراك، وقد يمضي عليها الزمن وتستغرق منه ما تستغرق من الحقب، فإذا استهلكت حاجتها من الوظائف، ولم تصبح ملائمة لتلبية احتياجات المجتمع، لتقادم فلسفاتها وتقنياتها وأهدافها، والحال أن الحركة الفكرية دؤوبة في سيرها ونشاطها، ولا تعرف الفتور والوقوف والجمود والركود، والإصلاح يأتي ليؤدِّي وظيفة التجديد في عقل الإنسان وطرق تفكيره، وأساليب عمله ومعاشه، تماشيا مع السيرورة الزمنية التي تستدعيها الدينامية، التي تتساوق مع  الحركة التاريخية في التطوُّر العلمي والفني والتكنولوجي.

وليس من الفضائل عقلا ولا منطقا، أن يبقي الإنسان حبيس حاضره وماضيه، يجتر أفكارا ميتة قديمة ليست من تفكيره ولا من إنتاجه، ويبقى متشبِّثا بها مدافعا عنها باكيا عليها، لكون الإنسان مفطورا على حب الماضي وما تركه أسلافه، على نحو ما كان عليه أهل الجاهلية، حينما كانوا يأبون حركة التجديد، التي جاءهم بها الأنبياء والرسل، فكانوا يحتجون عليهم بما حكاه القرآن الكريم: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} (البقرة:170) والأنبياء والرسل كانوا يأتون بشرائع جديدة، تتلاءم مع مقتضيات الأحوال وسنن التغيير التي جعلها الباري سبحانه أمرا مقضيا.

ويدخل ضمن هذا السياق المقاربات التعليمية بفلسفاتها وتقنياتها وطرائقها ونظم قياسها، إذ لا يمكن أن تبقى حبيسة الماضي تجتر أفكارا ونظريات وأنساقا ميتة، لا تلبي أهداف التربية واحتياجات المجتمع وتطلعاته، ومن هنا جاءت الحاجة في 2003، لإصلاح النظام التربوي في بلادنا، كما فعلت كل الدول ولا يمكن أن تبقى بلادُنا نشازا خارج السياق التاريخي لحركة التجديد.

والإصلاح شمل فلسفة المقاربة الجديدة، وتقنياتها وطرائقها ونظم قياسها، والمناهج الدراسية والوثيقة التربوية ودليل المعلم والأستاذ وكتاب التلميذ، من غير أن تشمل جميع مكونات النظام التعليمي، وأهم عناصره الأستاذ والمدرِّس والهياكل المدرسية بشرائطها التربوية والنفسية والفنية، ومخابرها ورشاتها وقاعاتها المخصَّصة للمحاضرات والندوات والأيام الدراسية والإعلامية، والوسائل التكنولوجية والوسائط الإلكترونية كالأنترنيت والجهاز العاكس وآلات الطبع والتصوير المتطورة في تقنية الألوان والسرعة في الأداء، وميزانيات التسيير لأسلاك التفتيش والتوجيه والإدارة والتكوين، ورفع القدرة الشرائية لرجال التربية في جميع الأطوار بما فيها الجامعة مركز الإشعاع العلمي والثقافي والتقني، حتى يكونوا متمتِّعين بالحوافز المادية، التي تبعث فيهم قوة الضمير وتحرِّك دوافعهم وغرائزهم إلى حب العمل والعطاء والاجتهاد، كما هو معمولٌ به في كثير من البلدان الحيوية، التي تجعل الاستثمار في التعليم يشغل أولوية سياسة الدولة واهتمامها، وهي الحوافز التي تفجِّر مواهب الإبداع في نفس الإنسان المربي، إذ يتفرغ للمطالعة والبحث والتنقيب والاستقصاء، فيضفي على الإصلاح مسحة من التجديد والجدة، ويحقق الأهداف الكبرى التي تسعى التربية إلى بلوغها، لأن الإنسان إذا كان حي الفؤاد متيقظ الضمير ممتلكا لزمام أمره، فإنه يفعل المستحيل ويحوِّل السواكن إلى متحركات، ويبعث الحياة في كل جامد راكد فقد روحه وحيويته ونشاطه وأتى بالعجائب، أما إذا كان خامل الذِّكر كسير القلب مهيض الجناحين يائسا بائسا وشعر بالغبن والألم النفسي، فإنه يفقد الشعور بالوجود والإحساس بالكينونة، وتضعف فيه القوة المحركة للحيوية والنشاط والإبداع، ويشعر بالضعة والدونية، وينزع إلى الانطواء على النفس والعزلة، وتتحطم نفسيته ويفقد القدرة على الفعل ولو كان بسيطا.

من أثر الاستغراب على الإصلاح كتابة الأرقام من اليسار إلى اليمين، وفرض الفرنسية كلغة ثانية في الثانية ابتدائي وبعد الضغط دحرجوها إلى الثالثة، ورفضوا الانجليزية لتحل في موقع الفرنسية، وحاولوا تدريج التعليم بالعامِّية، وجعلوا خريطة “إسرائيل” هي خريطة فلسطين التاريخية وحذفوا فلسطين، وفرضوا مؤطرين سامين من فرنسا والبلدان الفرنكوفونية (لبنان، السينغال وغيرهما)، مستعملين الفرنسية في تكوين المعرَّبين، ومن احتجّ بعدم الفهم عاقبوه.

ولذلك كانت الإصلاحات غير مجدية ولا مفيدة، ولم تحقق الأهداف المسطرة في مخرجات المناهج  الدراسية، لأنها ركزت على الأفكار والفلسفات والتقنيات والطرائق والكتاب المدرسي، وهذا فعلٌ جميل وله اعتباره وقدره، ولكنها أهملت المدرِّس والمؤطِّر والمكوِّن والتكوين والمنشآت المدرسية بشروطها الفنية والجمالية، ولم توفر وسائل العمل التكنولوجية والعادية وميزانيات التسيير، وتركت التكوين للعابثين ممن لا حول لهم ولا قوة علمية وتربوية ونفسية، يمارسون التكوين بالهواية والقرابة الأيديولوجية والسياسية، أو لطلب التربُّح لعلهم يزدادون كيل بعير، أو لإملاء الفراغ لأنهم ضجروا من الحياة الرتيبة التي فرضتها عليهم ظروف الإحالة، فكان أن جعلت هذه الإستراتيجية العبثية التكوين هواية يمارسها هواة ملأ الفراغ، أو المطرودون من مناصبهم لعجزهم وعدم كفايتهم، والأكثر من ذلك وأدهى أن بعضهم عيّن بعضا، وجعلوا على رأس بعض مراكز التكوين من هم دون المكونين رتبة وعلما ودراية وتثقيفا وشهادة، وبعضهم كانوا أساتذة في لغة أجنبية ثانية في مرحلة متوسطة، لا يفرِّقون بين التربية والبيداغوجيا ولا بين التعليمية العامة والتعليمية الخاصة،  أو بين حتى وحَتِي وبين إِنَّ وأَنَّ، وقد شغلوا هذا المنصب التكويني الحساس لما يقرب من عقد ونصف ومازالوا جاثمين عليه حتى اليوم لسرٍّ لا يعلمه إلا الراسخون في العلم.

وبعض هؤلاء المكوِّنين لم يتلقوا تكوينا علميا وتربويا وتشريعيا في رتبتهم الجديدة، لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة خلال العطل الفصلية، وبعضهم الآخر تأهَّلوا من رتب أدنى إلى رتب أعلى بالدخول المباشر لكونهم من ذوي الحقوق، مع أن المنصب خطير جدا بوصفه منصبا تربويا تكوينيا توجيهيا وليس إداريا، مما ترتب على هذا الإجراء الغريب الصادر من الجهات الوصية، أثرٌ سلبي كبير أضر بالتكوين والتوجيه وأصحابه لا ذنب لهم، إنما الذنب يتحمله من اتخذ القرار لغاية سياسية، وليس لمنفعة المدرسة والتربية والمدرسين.

ومعايير اختيار اللجنة الوطنية التي عينت لمهمة الإصلاح، كانت تفتقر إلى الدقة والموضوعية في حسن الاختيار، وآية ذلك أن الوزارة المعنية لا يوجد لديها إلى غاية هذه الساعة، بنك معلومات عن التخصص الأصلي لإطاراتها، ولذلك كان التعيين في اللجنة الوطنية عشوائيا فوضويا تحكمه المعايير الذاتية، فعُيِّن المتخصصون في اللغة في لجان المواد العلمية، وبعض المتخصصين في الرياضيات وجدوا أنفسهم في لجان اللغة، لذلك جاء الكتاب المدرسي في الرياضيات في السنة الأول ابتدائي مملوءً بالأخطاء الفنية كغياب علامات الترقيم، وبأخطاء نحوية جسيمة، من ذلك رفعهم للمضاف إليه، وتسكينهم بعض الأسماء، مع أن السكون من علامات الفعل المضارع المجزوم وفعل الأمر والحروف، وهذه الأخطاء الجسيمة لا يقع فيها حتى تلاميذ المتوسط، وقد أحصيت منها في ذات الكتاب أربعين خطأ مكررا بظواهر معينة.

ولما كانت الأيديولوجيا هي المسيطرة على عقول المسئولين عن لجنة الإصلاح، وقع  صراعٌ شديد بين الأعضاء وبينهم حول المرجعية الوطنية ومرجعية الاستغراب، وتغلّب أهل الاستغراب لأنهم مدعومون من سلطة التعيين، ومن أثر الاستغراب على الإصلاح كتابة الأرقام من اليسار إلى اليمين، وكذلك حل الوضعيات، وفرض الفرنسية كلغة ثانية في الثانية ابتدائي وبعد الضغط دحرجوها إلى الثالثة، ورفضوا الانجليزية لتحل في موقع الفرنسية، وحاولوا تدريج التعليم بالعامِّية، وجعلوا خريطة “إسرائيل” هي خريطة فلسطين التاريخية وحذفوا فلسطين، وغير هذا كثير، وفرضوا مؤطرين سامين من فرنسا والبلدان الفرنكوفونية (لبنان، السينغال وغيرهما)، مستعملين الفرنسية في تكوين المعرَّبين، ومن احتجّ بعدم الفهم عاقبوه، وإذا أراد السلامة التزم الصمت وخرج من التكوين كما دخل.

هذه هي مأساة الإصلاح التي جعلت المدرسة تخفق في تحقيق الأهداف، وليس لأن الإصلاح هو من أضعف التعليم وأضرّ بمخرجاته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!