-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإصلاح الجامعي.. هل نجح أم أخفق؟

الإصلاح الجامعي.. هل نجح أم أخفق؟

عرفت المنظومة الجامعية في الجزائر منذ الاستقلال إصلاحاتٍ كثيرة بعضها مس جوهر المشكلة وبعضها الآخر كان مجرد إصلاحات شكلية، ركزت على تطوير المرفق الجامعي وأهملت العنصر العلمي. وقد طغت على هذه الإصلاحات في الحالتين نظرةٌ كمية، تقيس حجم الإصلاحات بما تحقق من إنجازات هيكلية مما نسميه “المادة الصماء” الضرورية لتطوير الجامعة، ولكنها ليست بيت القصيد في عملية الإصلاح الجامعي، فهذا الإصلاح لا يتحقق إلا بتوفر جملة من الشروط العلمية والموضوعية التي حققتها الجامعات الغربية وبعض الجامعات العربية فارتقت إلى العالمية وأصبحت أنموذجا يحتذى به في التميز الأكاديمي وجودة التعليم.

لست ممن يبخس الناس أشياءهم، أو يدّعي بأن حال الجامعة الجزائرية فسادٌ في فساد وسواد في سواد، وبأنها قد فقدت البوصلة منذ الوهلة الأولى وتسير على غير هدى، فهذه النظرة السوداوية فيها كثير من الإجحاف وبعيدة عن الموضوعية ومبنية على خلفية وفكرة دونية، تهوِّن من أمر الجامعة الجزائرية ومن كل ما هو جزائري، فلا مستقبل للجامعة الجزائرية عند أصحاب هذه النظرة إلا بارتمائها في أحضان الغرب، وهي نظرة تكرّس التبعية الثقافية للغرب التي تغذيها الفكرة الاستعمارية التي تهوّن من أمر العقل الجزائري ولا تعترف به إلا تابعا للعقل الغربي وسائرا في ركابه.

لقد كان إصلاحُ نظام التعليم الجامعي القشةَ التي قصمت ظهر البعير بسبب الصراع الحاصل حول شكل هذا النظام، بين من يفضِّل النظام الفرنكفوني ومن يفضِّل النظام الأنجلوساكسوني، وبينهما تيارٌ معرَّب غالب يرفض المنهجين ويرفض التهجين لأنه لا يريد للجامعة الجزائرية أن تكون صورة مستنسَخة عن الجامعة الغربية.

لقد استنفدت المناقشات حول نظام التعليم الجامعي وقتا طويلا وغرق المناقشون في سجالات طويلة لم تسفر في النهاية عن اتفاق  يذكر، إذ تمسّك كل فريق بالنظام الذي يراه أنسب للجامعة الجزائرية، ثم مالت الكفة بعد ذلك لأنصار النظام الفرنكفوني؛ إذ تغلغل هذا النظام في المنظومة الجامعية وصيغت برامج الطب والعلوم التجريبية على نسق نظيراتها في الجامعات الفرنكفونية ورُسمت ودُرّست بالحرف اللاتيني، وانحصرت العربية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وقد بلغت المساجلات بين التيار الفرنكفوني والتيار الأنجلوساكسوني مداها في الورشات التي فتحت في الجامعات حول نظام “ل. م. د”، وهي الورشات التي انتهت بتثبيت هذا النظام رغم المآخذ الكثيرة التي سجلتها اللجان المختصة، وقد كان هذا خيارا ضروريا حسب بعضهم لأنه سيعصم الجامعة الجزائرية من الانعزال والانغلاق في فضاء عالمي مفتوح تميزه الحركية الانسيابية التي يوفرها نظام “ل. م. د” لروّاده في سوق العمل، وهو ما يعجز النظام الكلاسيكي عن توفيره في ظل تغير المعطيات والآليات التي تحكم نظام التعليم العالي والتي تعطي الأفضلية لنظام “ل. م. د” على النظام التقليدي، هذا الأخير الذي اجتمعت عوامل كثيرة على إرباكه وزحزحته رغم أنه يشتمل على عوامل القوة التي يفتقدها النظام الجديد وأهمها التكوين المركّز في مقابل التكوين التراكمي الذي يميز نظام “ل. م. د”، فهذا النظام رغم اشتماله على وحدات كثيرة، أساسية ومنهجية واستكشافية وعرضية ومفردات جديدة من عروض وفرق ومسارات تكوين ونظام تأهيل وجسور ورأس مال وحركية… لم يحقق حصادا ذا بال، والدليل على ذلك تراجع مستوى التعليم التي تزداد وتيرته من سنة إلى أخرى، فتقليص المدة الزمنية في نظام “ل. م. د” كانت له آثارٌ سلبية على مستوى الرسائل العلمية المقدَّمة التي يناقَش بعضُها في زمن قياسي ولكنها تفتقر إلى العمق المعرفي المطلوب، وهذه حالة غالبة وليست حالة عامة، فبعض الرسائل التي أنجزت في إطار نظام “ل. م. د” حققت من التميّز المعرفي والجودة الأكاديمية ما لا يمكن إنكارُه بأي حال من الأحوال.

لقد تهيأت لنظام “ل. م. د” في الجامعات الغربية من الوسائل ما جعلته وسيلة للارتقاء بالنظام التعليمي، في حين لا يزال هذا النظام في الجامعة الجزائرية يفتقر إلى معشار هذه الوسائل، وهو العامل الذي تسبب في اتساع الفجوة بين مسارات التكوين وفرص العمل وحال دون انفتاح الجامعة على محيطها الاجتماعي والاقتصادي، وهي النقائص التي تسعى إصلاحات عبد الباقي بن زيان إلى تداركها من خلال مخطط إصلاح قطاع التعليم العالي الذي نرجو أن يكتمل إلى نهايته ويؤتي ثماره.

إن الإصلاح الجامعي ليس قرارات تُؤخذ بل مبادرات تتخذ من خلال وضع مخطط تعليمي وتكويني وبحثي شامل يمكن أن أعرض خطوطه العامة على النحو الآتي:

قيادة جامعية تمتلك مخططا للإصلاح الجامعي:

لا يمكن تصوُّر حصيلة إيجابية لقيادة جامعية، تكتفي بالتسيير اليومي والروتيني للمصالح الجامعية ولا تمتلك مخططا للإصلاح الجامعي ولا تحسِن مصاحبة ومرافقة هذا الإصلاح، فكل همّها التفكير في العهدة وتمني ثانية وثالثة ورابعة. إن القيادة الجامعية التي يمكنها تحقيق الإصلاح الجامعي هي القيادة التي تمتلك رصيدا معرفيا كافيا، وتمتلك إلى جانب ذلك تجربة كافية ولا تستهويها جاذبية الكرسي.

إن رئيس الجامعة كربّان السفينة، يتوقف عليه بالدرجة الأولى نجاح أو فشل أي إصلاح جامعي، ولكن قد يكون هو المستهدَف بالإصلاح إذا كان يفتقد إلى ذلك. إن الشهادة العلمية لا تؤهِّل أحدا لإدارة المؤسسة الجامعية إذا لم تصاحب هذه الشهادةَ كفاءةٌ ظاهرة في التسيير والتفكير معا، فالشهادة تعطى للمجتهد ولغير المجتهد إذا تحقق الحد الأدنى المطلوب، والمنصب يعطى لمن يستحقه ومن لا يستحقه، وأما الإبداع والتميز فصناعة ذاتية لا يُعطى إياها إلا من يستحقها.

إصلاحٌ جامعي يؤسس على تجديد الوسيلة وليس على تغيير الهوية:

نقصد بتجديد الوسيلة تجديد الوسائل البيداغوجية والعلمية التي يقتضيها تطور النظام الجامعي، ومن هذه الوسائل تجديد المناهج والبرامج بما يستوعب حاجيات العصر ومقتضيات التطور، ومن هذه الحاجيات والمقتضيات إدخال الموضوعات المعاصرة من شاكلة الصيرفة الإسلامية والتسويق الشبكي وزرع الأعضاء… في التخصصات الفقهية والاقتصادية، ومن شاكلة حوار الأديان والثقافات في التخصصات الدينية والحضارية، ولكن لا فائدة من إدخال التخصصات المعاصرة في النظام التعليمي الجامعي بحشد عددٍ هائل من هذه التخصصات من غير دراسة واعية مصاحِبة له.

لقد بلغت الجامعات الجزائرية رقما قياسيا في عدد مخابر البحث العلمي وهذا مؤشرٌ إيجابي، ولكن هذه المخابر نوعان: مخابر نشيطة تمتلك فريقا بحثيا متميزا وتنتج مشاريع بحثية متميزة، ومخابر خاملة لا تنتج شيئا، يستفيد أعضاؤها من الامتيازات ولا يضيفون شيئا في مجال التميُّز العلمي.

إن الإصلاح الجامعي ينبغي أن يؤسَّس في إطار هوياتي، وينبغي أن لا يتحوّل الإصلاح إلى ناقض من نواقض الهوية ومظهر من مظاهر الغارة على الثقافة الوطنية، فالجامعة هي وعاءٌ يستوعب قيم المجتمع وآدابَه وقيمه وتراثه ولا يمكن إصلاحُها بتكريس الفصل بينها وبين هذه العناصر الهوياتية.

إصلاح سياسة التكوين الخارجي:

ليس من المبالغة القول إن أكبر مشكلة تعانيها الجامعة الجزائرية هي ما يتعلق بالتكوين الخارجي بشقيه التكوين قصير المدى والتكوين طويل المدى أو ما يسمى التكوين الإقامي. وليس من المبالغة أيضا القول إن سياسة التكوين الخارجي بحاجة إلى مراجعة عاجلة لأنها في نظري لم تؤدِّ غرضها ولم تحقق غايتها إلا في نطاق محدود، فالغرض من التكوين الخارجي هو تحسين المستوى، فإذا لم يحقق هذا التكوينُ هذه الغايةَ فإنه يكون من دون شك شكلا من أشكال تبذير المال العام ومظهرا من مظاهر مخالفة قاعدة ترشيد النفقات التي تلح عليها التعليمات الوزارية. إن التكوين الخارجي كما يرد في النصوص التشريعية الخاصة بالتعليم العالي مشروط بعدم توفره في الجزائر، فإذا تحوّل إلى استفادة عامة غير مشروطة فإنه يكون شكلا من أشكال تبذير المال العام كما أسلفت.

مراجعة سياسة التكوين في الدكتوراه وما بعد الدكتوراه:

ليس من الحق ولا من المنطق تخريج جيش من الحاملين للدكتوراه في التخصصات المختلفة ثم لا يجد أكثرهم بعد ذلك وظيفة يعفّ بها نفسه وتعينه على تحقيق طموحاته وإنجازاته العلمية، وأشيد في هذا الصدد بجهود الوزير عبد الباقي بن زيان وفرق البحث المحلية والوطنية التي تسعى لحل مشكلة الدكاترة البطالين في إطار حل شامل لمشكلة التكوين في الدكتوراه وما بعد الدكتوراه، وما فرصُ التوظيف التي فُتحت في أكثر من جامعة جزائرية إلا دليلٌ على نجاعة هذا المسعى الذي يكون بلا شك لبنة من لبنات الإصلاح الجامعي.

الحصيلة البحثية للمخابر لا الحصيلة العددية:

يباهي بعض الجامعيين بعدد المخابر التي يتم إنشاؤها في مختلف الجامعات، ونتفق معهم في ذلك شريطة أن تتوافق الحصيلة العددية لهذه المخابر مع الحصيلة البحثية؛ فوظيفة المخابر هي إنتاج المعرفة، فإذا لم تحقق هذا المقصد فوجودها كعدمها. لقد بلغت الجامعات الجزائرية رقما قياسيا في عدد مخابر البحث العلمي وهذا مؤشرٌ إيجابي، ولكن هذه المخابر نوعان: مخابر نشيطة تمتلك فريقا بحثيا متميزا وتنتج مشاريع بحثية متميزة، ومخابر خاملة لا تنتج شيئا، يستفيد أعضاؤها من الامتيازات ولا يضيفون شيئا في مجال التميُّز العلمي.

معيار العالمية لا المحلّية:

إن الغرض من تأسيس الجامعات الوطنية هو تطوير الثقافة الوطنية، ولكنها تتجاوز هذا الغرض إلى الانتقال من المحلية إلى العالمية، فالعالم في عصر العولمة قرية صغيرة، ومعيار التنافس فيه بين الجامعات والمجتمعات هو معيار عالمي، ولا يمكن للجامعة الجزائرية -وفق هذا المعطى العالمي- أن تضمن لها مكانا محترما بين الجامعات إلا إذا ارتقت إلى العالمية، وهي غاية لا يمكن بلوغها إلا بتكوين فريق من الباحثين لهم إلمامٌ بالثقافة العالمية وقادرون على المنافسة بأبحاث جادّة وجديدة وليس بأبحاث مجترَّة ومكرَّرة لا طائل من ورائها.

إن الإصلاح الجامعي ينبغي أن يؤسَّس في إطار هوياتي، وينبغي أن لا يتحوّل الإصلاح إلى ناقض من نواقض الهوية ومظهر من مظاهر الغارة على الثقافة الوطنية، فالجامعة هي وعاءٌ يستوعب قيم المجتمع وآدابَه وقيمه وتراثه ولا يمكن إصلاحُها بتكريس الفصل بينها وبين هذه العناصر الهوياتية.

وبعد هذا العرض، يمكن لكل متابع لعملية الإصلاح الجامعي الإجابة على السؤال: هل حقّق الإصلاح الجامعي غرضه المنشود أم انتهى إلى طريق مسدود؟ ليس من الضروري أن تتفق إجاباتنا ولكن من الضروري أن تكون إجاباتنا لبنة من لبنات الإصلاح وليس مظهرا من مظاهر التهوين من شأن هذا الإصلاح، فالإصلاح لا يأتي دفعة واحدة ولا يحققه إنسانٌ بمفرده أو جماعة بعينها وإنما هو جهدٌ جمعي يسهم فيه الجميع كل من موقعه وفي اختصاصه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!