الرأي

الإمام‮ ‬الدّاودي‮ ‬الجزائري،‮ ‬شارح‮ ‬البخاري

ما أظن أنه يوجد قوم يجهلون تاريخهم، خاصة الثقافي والعلمي، كجهل أكثر الجزائريين لتاريخهم، وأكاد أجزم أن قلة قليلة منهم فقط اطلعوا على أشهر الكتب التي ترجمت لعلمائهم، وهي كتاب “عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية” لأحمد الغبريني، وكتاب‮ “‬البستان‮ ‬في‮ ‬ذكر‮ ‬الأولياء‮ ‬والعلماء‮ ‬بتلمسان‮”‬،‮ ‬لمحمد‮ ‬بن‮ ‬مريم‮ ‬المديوني،‮ ‬وكتاب‮ “‬الدرة‮ ‬المصونة‮ ‬في‮ ‬علماء‮ ‬وصلحاء‮ ‬بونة‮”‬‭ ‬لأحمد‮ ‬بن‮ ‬قاسم‮ ‬البوني،‮ ‬وكتاب‮ “‬تعريف‮ ‬الخلف‮ ‬برجال‮ ‬السلف‮” ‬لأبي‮ ‬القاسم‮ ‬الحفناوي‮..‬

ولابد من لؤم وعتاب لكثير من الكتاب الجزائريين الذين يؤثرون الكتابة عن غير الجزائريين، ويهملون التعريف بعلمائهم، وقد نبّه إلى هذا النقص الأستاذ مولود قاسم منذ ستين سنة حيث خاطب كتاب الجزائر قائلا: “اكتبوا – يا قوم – عن الجزائر، إن الناس يريدون أن يعرفوا عنكم‮ ‬أشياء،‮ ‬ولا‮ ‬يريدون‮ ‬أن‮ ‬يقرؤوا‮ ‬أخبارهم‮ ‬في‮ ‬جرائدكم‮ ‬مشوهة‮ ‬ممسوخة‮ (‬1‮)”‬،‮ ‬وقد‮ ‬استشهد‮ ‬مولود‮ ‬قاسم‮ ‬على‭ ‬ما‮ ‬ذهب‮ ‬إليه‮ ‬ببيت‮ ‬من‮ ‬الشعر‮ ‬جميل‮ ‬هو‮:‬

إذا‮ ‬كان‮ ‬إكرامي‮ ‬صديقي‮ ‬واجبا‭**‬‮ ‬فإكرام‮ ‬نفسي‮ – ‬لا‮ ‬محالة‮ – ‬أوجب

إن‮ ‬أكثر‮ ‬إخوننا‮ – ‬خارج‮ ‬الجزائر‮ – ‬يجهلون‮ ‬كل‮ ‬شيء‮ ‬عن‮ ‬علمائنا،‮ ‬وعندما‮ ‬يذكرون‮ ‬بعضهم‮ ‬ينسبونهم‮ ‬إلى‭ ‬تونس‮ ‬أو‮ ‬المغرب‮.. ‬وما‮ ‬هم‮ ‬بملومين،‮ ‬ولكن‮ – ‬نحن‮ ‬الجزائريين‮ – ‬الملومون‮..‬

قرأت ما كتبه الأخ بومدين بوزيد يوم الجمعة الماضي (17 – 5 – 2013) في جريدة “الخبر” عن إحدى عادات بعض الجزائريين الحسنة، وهي قراءة “صحيح البخاري” في بعض المساجد طيلة أشهر رجب – شعبان – رمضان، وذكر الأخ بومدين في أثناء حديثه عن تلك العادة الحسنة اسم عالم من علمائنا وهو الإمام أبو جعفر أحمد بن نصر الدّاوُودي (*)، الذي “حاز بسبق تفضيلا، مستوجب ثناءنا الجميلا”، لأنه “من أوائل شرّاح صحيح البخاري بعد الخطّابي في كتابه إعلام السنن (2)”، بل إن من الكتاب من جزم بأنه “هو أول من شرح كتاب صحيح البخاري (3)”. ولهذا أحببت أن‮ ‬أعرّف‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬الكلمة‮ ‬بهذا‮ ‬الإمام‮ ‬الذي‮ ‬وصفه‮ ‬الإمام‮ ‬ابن‮ ‬صعد‮ ‬التلمساني‮ ‬بأنه‮ “‬علامة‮ ‬العلماء‮(‬4‮)”.‬

لا يعرف مكان ميلاد الإمام الداودي ولا تاريخه، وبعض من ترجموا له  يعتبرونه من المسيلة، وبعضهم يعتبرونه من بسكرة، وبعد أن بلغ أشده استوطن حينا من الدهر مدينة طرابلس، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة تلمسان حيث توفاه الله في سنة 402هـ،

وقبره‮ ‬معروف‮ ‬بها‮ ‬وقد‮ ‬أشار‮ ‬إلى‮ ‬ذلك‮ ‬أحمد‮ ‬المقري‮ ‬التلمساني‮ ‬في‮ ‬قوله‮ ‬عن‮ ‬تلمسان‮: ‬

ومن‮ ‬بها‮ ‬أهل‮ ‬ذكاء‮ ‬وفطن‮ ‬

يكفيك‮ ‬أن‮ ‬الداودي‮ ‬بها‮ ‬دفن‮ ‬

في‮ ‬رابع‮ ‬من‮ ‬الأقاليم‮ ‬قطن‮ ‬

مع‮ ‬ضجيعه‮ ‬ابن‮ ‬غزلون‮ ‬الفطن‮ (‬5‮)‬

وإذا كان الذين ترجموا له لم يذكروا أحدا من أشياخه، مشهورا كان أو معمورا، وقد ذكر ابن فرحون في كتابه “الديباج المذهب” أن الإمام الداودي “كان دَرَس وحده، لم يتفقه في أكثر علمه على إمام مشهور، وإزنما وصل بإدراكه (6)”..لأنه كان ذا ” ذكاء نادر، وفطنة بالغة (7)”‮. ‬

ويدل‮ ‬على‮ ‬هذا‮ ‬الذكاء‮ ‬النادر‮ ‬وهذه‮ ‬الفطنة‮ ‬البالغة‮ ‬ما‮ ‬تركه‮ ‬من‮ ‬آثار‮ ‬علمية‮ ‬حازت‮ ‬تقدير‮ ‬العلماء‮ ‬واحترامهم‮ ‬مثل‮ ‬القاضي‮ ‬عياض،‮ ‬وابن‮ ‬صعد‮ ‬التلمسان،‮ ‬وابن‮ ‬فرحون،‮ ‬والحجوي‮ ‬الثعالبي‮ ‬وغيرهم‮. ‬

ومن هذه الآثار كتابه “النصيحة” وهو شرحه الصحيح البخاري وقد ألفه ـ كما ذكر الشيخ عبد الرحمان الجيلالي في تاريخه ـ في مدينة تلمسان، وهذا الكتاب مما اعتمد عليه ابن حجر العسقلاني في فتحه، وكان يكتفي عند الإحالة عليه بلفظ “الشارح (8)”، كما اعتمد عليه المناوي، والزرقاني،‮ ‬والشوكاني‮ (‬9‮)‬،‮ ‬والأمل‮ ‬معقود‮ ‬على‭ ‬بعض‮ ‬أساتذتنا‮ ‬في‮ ‬استخراج‮ ‬ماهو‮ ‬للداودي‮ ‬من‮ “‬الفتح‮”‬‭.‬

 ومن آثاره أيضا كتابه “النامي” وهو شرح لـ “موطا” الإمام مالك، رضي الله عنه، وتوجد نسخة مبتورة منه في خزانة القروين تحت رقم (175). وله كتب أخرى. (الواعي، والإيضاح، والأصول، والبيان) وهي في حكم المفقودة، كماله كتاب آخر اسمه “كتاب الأسئلة والأجوبة”، وتوجد نسخة‮ ‬منه‮ ‬في‮ ‬مكتبة‮ ‬الزيتونة‮ ‬تحت‮ ‬رقم‮: ‬10486‮. ‬وذكر‮ ‬أن‮ ‬له‮ ‬تفسيرا‮ ‬للقرآن‮ ‬الكريم،‮ ‬وقد‮ ‬أشار‮ ‬الشيخ‮ ‬عبد‮ ‬الرحمان‮ ‬الجيلالي‮ ‬إلى‮ ‬أن‮ ‬الإمام‮ ‬عبد‮ ‬الرحمان‮ ‬الثعالبي‮ ‬نقل‮ ‬منه‮ ‬في‮ ‬تفسيره،‮ “‬الجواهر‮ ‬الحسان‮…”. ‬

ولم يطبع من آثاره ـ في حدود علمي ـ إلا كتابه الذي سماه “الأموال”، الذي نشر مرتين، إحداهما بتحقيق الأستاذ رضا محمد سالم شحاده، وقام بنشره مركز إحياء التراث المغربي بالرباط، وثانيتهما بتحقيق الدكتورين محمد أحمد سراج، وعلي جمعة محمد (المفتي السابق لجمهورية مصر‮ ‬العربية‮) ‬وجميعهم‮ ‬أشادوا‮ ‬بقيمة‮ ‬هذا‮ ‬الكتاب‮..‬

ومن أشهر من تلقى العلم عن الإمام الداودي، الإمام عبد المالك البوني، (نسبة إلى مدينة بونة وهي عنابة) والإمام أبو بكر محمد بن أبي زيد القيرواني، صاحب كتاب “الرسالة”، والإمام يوسف بن عبد البر النمري، الذي أجازه الإمام الداودي في جميع مروياته ومؤلفاته ـ

وقد‮ ‬وصف‮ ‬الإمام‮ ‬الداودي‮ ‬بأنه‮ “‬كان‮ ‬صاحب‮ ‬كلمة‮ ‬صريحة‮ ‬وجريئة،‮ ‬وبعيدة‮ ‬عن‮ ‬النفاق‮ ‬والتملق،‮ ‬ساعيا‮ ‬إلى‮ ‬الحق،‮ ‬ومناصرا‮ ‬لسنة‮ ‬رسول‮ ‬الله‮ ‬صلى‮ ‬الله‮ ‬عليه‮ ‬وسلم‮. ‬

رحم‮ ‬الله‮ ‬الإمام‮ ‬الداودي،‮ ‬وجميع‮ ‬علمائنا‮ ‬العاملين،‮ ‬ووفقنا‮ ‬إلى‭ ‬البحث‮ ‬عن‮ ‬آثارهم‮ ‬وإحيائها،‮ ‬وبعدها‮ ‬يمكننا‮ ‬أن‮ ‬نتحدث‮ ‬عن‮ “‬مرجعيتنا‮”.‬

 .

1‮  ‬جريدة‮ ‬المنار‮ (‬الجزائرية‮) ‬ع40‮ ‬في‮ ‬10‮ ‬‭/‬‮ ‬4‮ ‬‭/‬‮ ‬1953‮ ‬ص‮ ‬2‮.‬

‬رضا‮ ‬محمد‮ ‬سالم‮ ‬شحاده‮: ‬مقدمة‮ ‬كتاب‮ “‬الأموال‮” ‬للإمام‮ ‬الداودي‮ ‬ص6‮.‬

3‮  ‬عادل‮ ‬نويهض‮: ‬معجم‮ ‬أعلام‮ ‬الجزائر‮. ‬مركز‮ ‬الإمام‮ ‬الثعالبي‮ ‬للدراسات‮.. ‬ج1‮.‬ص‮ ‬285،

4‮ ‬رضا‮ ‬محمد‮ ‬سالم‮ ‬شحادة‮: ‬مرجع‮ ‬سابق‮ – ‬ص‮ ‬7

5‮  ‬أحمد‮ ‬المقري‮:‬‭ ‬نفح‮ ‬الطيب‮..‬دار‮ ‬صادر‮. ‬ج5ص433

6‮  ‬علي‮ ‬جمعة‮.. ‬ومحمد‮ ‬سراج‮: ‬مقدمة‮ ‬كتاب‮ “‬الأموال‮” ‬للداودي‮..‬دار‮ ‬السلام‮ ‬ص‮ ‬41

7 ‬المرجع‮ ‬نفسه

8‮ ‬‭-‬‮ ‬9‮ – ‬رضا‮ ‬محمد‮ ‬سالم‮ ‬شحاده‮: ‬المرجع‮ ‬السابق‮ – ‬ص‮ ‬6‮.‬

مقالات ذات صلة