-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
 (الجزء الثاني والأخير)

الإمتاع في رحاب “الوافي في تاريخ بجاية الثقافي”

الإمتاع في رحاب “الوافي في تاريخ بجاية الثقافي”

استمر العطاء الثقافي في بجاية في عهد الحفصيين، بفضل الاستقرار السياسيّ وبفضل مكانتها العلمية الرائدة التي استمرت في استقطاب العلماء من مختلف المدن الجزائرية، ومن الخارج  كالأندلس وصقلية بصفة خاصة. وذكر المؤلف عددا كبيرا من الأسماء، لعل أبرزهم أبو العباس الغبريني (قاضي القضاة) الذي ألف كتابا مفيدا (عنوان الدراية) حول العلماء الذين عاشوا في بجاية، خلال القرن 13م. ورغم مكانته العلمية السامقة، فقد كانت نهايته مأساوية على يد أمير بجاية أبي البقاء خالد بعد أوغر الحساد قلبه عليه، رغم نجاحه في المهمة الدبلوماسية التي كلفه بها في تونس من أجل تجاوز الخلافات بين البلدين، فكان حظه جزاء سنمار. وعلى اثر ذلك لجأت أرملته مع ابنها الصغير أحمد إلى تونس، ورحّب بها السلطان الحفصي أبي عصيدة، وحظي طفلها برعاية الأمراء فحصل على علم غزير، عاد إثر ذلك إلى موطنه، وعنه تفرع أحمد بن القاضي مؤسّس إمارة كوكو بجبال جرجرة.

تميزت الساحة العلمية في بجاية خلال هذا العهد، بتراجع العلوم العقلية والإقبال على العلوم الشرعية واللغوية والتصوف، وبناء المعمرات (الزوايا) التعليمية في المناطق الداخلية الجبلية. وذكر المؤلف علماء كثيرين، منهم ناصر الدين المشذالي (القرن14م) الذي عاد من مصر -بعد أن نهل من علم العزّ بن عبد السلام- إلى بجاية حاملا معه كتاب “مختصر ابن الحاجب” في الفقه المالكي الذي صار ضمن المراجع الأساسية في مدارس وزوايا شمال افريقية. وذكر  المؤلف غيره من علماء عرش مشذالة (ولاية البويرة حاليا) الكثيرين. كما ذكر أيضا عبد الرحمن الوغليسي( القرن14م) الذي درس في بجاية رفقة عبد الرحمن بن خلدون، وترك عدة مؤلفات في الفقه المالكي أهمها كتاب”الوغليسية”. ومن العلماء الزهاد الذين ذكرهم المؤلف، الشيخ أحمد إدريس (القرن14م) الذي اشتغل بالتدريس في مدينة بجاية قبل أن ينسحب إلى جبل يلولة أومالو حيث أسس معمرة (زاوية)، هذا وقد أثنى عليه ابن فرحون في كتابه “الديباج المذهّب بقوله: «كان واحد قطره في حفظ مذهب مالك، وتفنّن في المعارف والعلوم، جمع بين العلم الغزير، والدين المتين، كبير علماء بجاية في وقته».

ومن علماء القرن 15م المذكورين في الكتاب، يحيى العيدلي مؤسِّس معمرة (زاوية) قريته الأصلية “ثاموقره” بعد أن أقام في بجاية دارسا ومدرِّسا، أخذ العلم رفقة عبد الرحمن الثعالبي عن علماء كبار من حجم علي بن عثمان المنڤلاتي. هذا وقد تخرّج على يد العلامة يحي العيدلي علماء كثيرون، منهم أحمد زروق البرنوسي الفاسي (مؤسس معمرة في آث وغليس) الذي انتهى به المقام في ليبيا حيف دُفن، ويحي بن موسى الزواوي الذي تنحدر منه أسرة آث حمودي في عرش آث ورثلان، وعبد الرحمن صباغ، وبهلول بن عاصم الذي ينحدر منه شرفاء قرية شرفه أنبهلول بإعزوڤن (ولاية تيزي وزو حاليا)، وأحمد بن يحيى مؤسس معمرة قرية أمالو. وكان الشيخ يحي العيدلي زاهدا في الدنيا، نائيا بنفسه عن الحكام، وقد وضع كتاب “الوظيفة” الخاص بالأدعية والأذكار لمريديه.

رغم أن عرش آث منڤلات بجرجرة (ولاية تيزي وزو حاليا) قد أنجب علماء كثيرين ذاع صيتهم في بجاية والمشرق حيث طلبوا العلم وتولوا الوظائف، فإن المؤلف لم يذكرهم في الكتاب، علما بأن الأستاذ علي أمقران السحنوني (صديق المؤلف) قد كتب عنهم مقالا مفصلا، وهم مذكورون في المصادر المشرقية والمصادر المغربية، منهم أبو يوسف يعقوب المنڤلاتي الزواوي (القرن13م)، أبو روح عيسى المنڤلاتي (القرن14م) صاحب الكتب المخطوطة الكثيرة، والذي مارس التدريس بمصر والقضاء بدمشق، وذكر عنه الأستاذ محمد الصغير بن لعلام أنه ناظر ابن تيمية في مسألة الطلاق. ومنهم أيضا العلامة علي بن عثمان المنڤلاتي (القرن14م) الذي كان مدرّسا في بجاية، ومن تلامذته هناك عبد الرحمن الثعالبي.

إن ما يلاحَظ في تحقيب تاريخ بجاية، أن المؤلف لم يُشر إلى حقبة الاحتلال الاسباني للمدينة ومدّتها 45 سنة (1510م- 1555م)، وهي الفترة التي أصيب فيها العلم بنكبة كبيرة، جرّاء نهب الأسبان للمدينة ولقصورها ولمساجدها كما ذكر الكاتبان الفرنسيان شارل فيرو المتوفّى سنة 1888م، وأوجين دوماس المتوفّى سنة 1871م.

الحياة الثقافية في العهد العثماني

ذكر المؤلف أن العثمانيين كانت لهم نزعة عسكرية ولم يولوا للثقافة أهمية، فكان عصرهم عصر ركود الثقافة، تجلى – حسبه- في الانحطاط العلمي والثقافي، وانحسار التأليف في المختصرات، وانحراف التصوُّف عن مساره الصحيح. لذلك تكفل الجزائريون بأنفسهم بالشؤون الثقافية والتعليم، عن طريق مؤسسات ثلاث: 1- الكتاتيب على مستوى القرى والأحياء لتحفيظ القرآن. 2- المدارس على مستوى مدينة بجاية. 3- المعمرات (الزوايا) في الأرياف والجبال. ومن أشهر المعمرات التي ذكرها المؤلف، معمرة سيدي بوداود بقرية ثاسلنت (القرن14م)، ومن أشهر شيوخها الشيخ السعيد بن عبد الرحمن الذي تخرّج من معمرة (زاوية) الشيخ الحسين بن أعراب بعرش آث يراثن، ونقل من هذه الزاوية “شرح الخرشي” في تفسير مختصر خليل إلى مؤسسته. وكان الطلبة يأتونها من خارج منطقة الزواوة، وخاصة من  ناحية بوسعادة، منهم أبو القاسم الديسي (والد أبو القاسم الحفناوي)، أبو القاسم الحفناوي المتوفى سنة 1942م، صاحب الكتاب الشهير: “تعريف الخلف برجال السلف”، ومحمد بن أبي القاسم الهاملي المتوفى سنة 1897م، وغيرهم من الطلبة المذكورين. وغير بعيدٍ عن هذه المعمرة، كانت هناك معمرة الشيخ أحمد أولحضير، ومن شيوخها الأجلّاء منهم الشيخ الطاهر القيطوسي، الشيخ السعيد اليجري، الشيخ أحمد التونسي، الشيخ الطاهر الحضري، وغيرهم. ومن الطلبة الذين تخرّجوا منها الشيخ السعيد الخواص المتوفّى سنة 1987م، الشيخ أعمر شطار من الحضنة، الشيخ الحاج السعيداني من حمام الضلعة وغيرهم.

ومن المعمرات المذكورة في الكتاب، معمرة سيدي محمد بن علي الشريف (القرن18م) في قرية إشلاظن (أقبو)، وقد وصفها العلّامة المغربي عبد الحيّ الكتاني بكونها “أم الزوايا”، وكانت معهدا يدرٍّس العلوم النقلية والعلوم العقلية، ومن أشهر علمائها محمد السعيد بن علي الشريف المتوفّى سنة 1896م، وكانت هذه الزاوية معلما للعلم يُضرب به المثل، ويتمتع خرّيجوها بمنزلة سامية في المجتمع. والجدير بالذكر أن الشيخ البشير الإبراهيمي قد مرّ بهذه الزاوية دارسا ومدرِّسا، وأعانته في مشروع تأسيسه لمدرسة حرّة بمدينة سطيف ماديا ومعنويا. وهناك معمرات أخرى مذكورة في الكتاب منها معمرة سيد موسى بقرية ثينبذار (القرن16م) ومعمرة سيدي الموفّق المسيسني (القرن17م).

خصص المؤلف حيزا من كتابه للحديث عن الطرق الصوفية في العهد العثماني، شارحا مغزاها وماهيتها ودلالتها وأركانها في بلاد الزواوة، وفي مقدمتها الطريقة الرحمانية التي أسّسها عبد الرحمن الجرجري في القرن18م، وذاع صيتُها في أرجاء الوطن. وذكر أيضا الطريقة القادرية (القرن11م) الوافدة من الشرق، والطريقة العمارية (القرن18م) المؤسسة في ناحية وادي زناتي بالشرق الجزائري، والطريقة العيساوية (القرن15م) الوافدة من المغرب. وأنهى المؤلف هذا الفصل بالحديث عن الأعلام البارزة في العهد العثماني ببجاية، منهم محمد بن علي الشريف الشلاطي، محمد العربي بن مصباح اليعلاوي، ومحمد الصالح الرحموني المشذالي، والشيخ الموهوب إموله، والحسين الورثلاني الشهير بكتابه” الرحلة الورثلانية”، ومنصور بن الحاج المشذالي.

ركود الحياة الثقافية في عهد الاحتلال الفرنسي

خصص المؤلف الفصلين الحادي عشر والثاني عشر للحياة الثقافية في عهد الاحتلال الفرنسي. وأرى أنه من الأنسب جمع الفصلين في فصل واحد، إذ لا يعقل أن يحتوي الفصل الحادي عشر على 12 صفحة فقط! في حين بلغ عدد صفحات الفصل الثاني عشر 152صفحة!.

ذكر المؤلف أن الاستدمار الفرنسي قد ارتكب جريمة شنعاء في حق العلم والثقافة ببجاية، إذ دمّر العديد من المعمرات (الزوايا) التعليمية وصادر أوقافها ومواردها المالية، واستولى على عدد من المساجد وعلى بعض المعمرات الأخرى، فحوّلها إلى إقامات للعسكر وإلى مكاتب للإدارة كالجامع الكبير وزاوية سيدي تواتي وزاوية لاله فاطمة، وبذلك تلقى التعليم في بجاية ضربة قاصمة فأصيب بالضمور والنضوب، واضطرّ طلبة العلم إلى طلبه خارج بجاية وخارج الجزائر. وقد شهد شاهدٌ من أهلها على هذه الجرائم، منهم على سبيل المثال المؤرِّخ شارل روبير أجيرون  و إيفون تيران اللذين استشهد بهما المؤلف.

وبالرغم من فداحة سياسة الأرض المحروقة الفرنسية (التجهيل والتنصير والتفقير والتفرقة)، فقد صمد سكان القبائل وحافظوا بقدر المستطاع على  الحد الأدنى من التعليم، عن طريق بعض العائلات المشهورة، ذكر منها المؤلف العائلات التالية: الشيخ بوداود بقرية ثاسلنت، الشيخ بن علي الشريف، الشيخ نور الدين المسيسني، الشيخ محمد بلقاسم البوجليلي، الشيخ أولحبيب الورثلاني، الشيخ محمد السعيد أوسحنون، الشيخ عمارة أوموسى أوزلاڤن، الشيخ محمد أمزيان الحداد، والشيخ مُحند وَعْلِي أتقابة، والشيخ الصالح السمعوني (هاجر إلى سوريا)، الشيخ الطيب شنتير البوجليلي.

ذكر المؤلف أن الأوضاع الثقافية قد انتعشت بفضل ظهور الحركة الإصلاحية التي شيّدت المدارس الحرة، وأسّست الصحافة والنوادي الثقافية، وقد حظيت بجاية بنصيبها من النهضة الإصلاحية -خاصة بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- الأمر الذي ساعدها في صحوتها العلمية، بقيادة عددٍ كبير من رجالات التعليم الذين تشبَّعوا بالفكر الإصلاحي، ذكر المؤلف منهم؛ الشيخ محمد الطيب وَعْمَارَه المتوفى سنة 1945م، وابن عمه محمد الموهوب وَعْمَارَه، الشيخ المولود الحافظي المتوفى سنة 1948م، الشيخ الهادي الزروقي المتوفى سنة 1959م، الشهيد الربيع بوشامة المتوفى سنة 1959م، الشيخ الفضيل الورثلاني المتوفى سنة 1959م، الشيخ يحي حمودي المتوفى سنة 1972م، الشيخ الصادق عيسات المتوفى سنة 1969م، الشيخ السعيد الصالحي المتوفى سنة 1985م، الشيخ الشريف أوسحنون المتوفى سنة 1989م، الشيخ يوسف يعلاوي، الأستاذ محمود بوزوزو المتوفى سنة 2007م، والشاعر مبارك جلواح العباسي المتوفّى بباريس في ظروف غامضة سنة 1943م. هذا وقد غفل المؤلف عن ذكر بعض رموز الإصلاح البارزين، منهم الأستاذ أعمر بوعناني، والشيخ السعيد البيباني، وأبناء الشيخ السعيد البهلولي (محمد الحسن فضلاء، محمد الطاهر فضلاء، عبد المالك فضلاء). ومحمد الشريف ساحلي (سيدي عيش) الذي كتب كثيرا في السياسة الوطنية وفي التاريخ. والمنتظر أن يتدارك الأمر في الطبعة القادمة.

خاتمة الكتاب

خصص المؤلف خاتمة كتابه للتركيز على الأفكار التي بدت له مهمة، وهي دعوة الخواص الذين يملكون مكتباتٍ غنية بالمخطوطات، إلى فتحها أمام طلبة العلم والباحثين كما فعل السيد جمال مشهد بخزانة جدّه الموهوب أولحبيب الورثلاني.  واعتبر تاريخ الدولة الحمادية فترة ازدهار بجاية، لِما كان يتميّز به سلاطينُها من حبّ العلم وتقدير العلماء. أما فترة الحكم الموحّدي فقد تميز –بنظر المؤلف- بالنقاط التالية: محاولة القضاء على المذهب المالكي/ تدريس الفلسفة وعلم الكلام/ الاهتمام باللغة الأمازيغية. أما العصر الحفصي في تاريخ بجاية فقد اعتبره مزدهرا ظهر فيه علماء كبار من وزن عبد الرحمن بن خلدون وأحمد إدريس (سيذي وذريس). واعتبر المؤلف العهد العثماني عهد ركود فكري، تحوّل فيه التصوُّف إلى شعوذة ودروشة. أما الاحتلالُ الفرنسي فقد وصفه المؤلف بكونه عصر احتلال العقول ومسخ الشخصية الوطنية، عانت منه بجاية كثيرا. واعتبر المؤلف ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمثابة “حادث القرن” الذي ساعد على النهضة والصحوة الفكرية وحماية الشخصية الوطنية. وفي الأخير أوضح أن عمله هذا يندرج ضمن إحياء التراث الوطني الهادف إلى ربط الحاضر بالماضي من أجل بناء المستقبل.

وفي الأخير أجدد التهنئة للمؤلف على هذا الانجاز العلمي، ورجاؤنا أن يأخذ بالملاحظات الواردة في المقال. والله وليّ التوفيق.

تميزت الساحة العلمية في بجاية خلال هذا العهد، بتراجع العلوم العقلية والإقبال على العلوم الشرعية واللغوية والتصوف، وبناء المعمرات (الزوايا) التعليمية في المناطق الداخلية الجبلية. وذكر المؤلف علماء كثيرين، منهم ناصر الدين المشذالي (القرن14م) الذي عاد من مصر -بعد أن نهل من علم العزّ بن عبد السلام- إلى بجاية حاملا معه كتاب “مختصر ابن الحاجب” في الفقه المالكي الذي صار ضمن المراجع الأساسية في مدارس وزوايا شمال افريقية.

إن ما يلاحَظ في تحقيب تاريخ بجاية، أن المؤلف لم يُشر إلى حقبة الاحتلال الاسباني للمدينة ومدّتها 45 سنة (1510م- 1555م)، وهي الفترة التي أصيب فيها العلم بنكبة كبيرة، جرّاء نهب الأسبان للمدينة ولقصورها ولمساجدها كما ذكر الكاتبان الفرنسيان شارل فيرو المتوفّى سنة 1888م، وأوجين دوماس المتوفّى سنة 1871م.

ذكر المؤلف أن العثمانيين كانت لهم نزعة عسكرية ولم يولوا للثقافة أهمية، فكان عصرهم عصر ركود الثقافة، تجلى – حسبه- في الانحطاط العلمي والثقافي، وانحسار التأليف في المختصرات، وانحراف التصوُّف عن مساره الصحيح. لذلك تكفل الجزائريون بأنفسهم بالشؤون الثقافية والتعليم، عن طريق مؤسسات ثلاث: 1- الكتاتيب على مستوى القرى والأحياء لتحفيظ القرآن. 2- المدارس على مستوى مدينة بجاية. 3- المعمرات (الزوايا) في الأرياف والجبال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!