-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإنجليزية في مدرستنا الابتدائية

لمباركية نوّار
  • 4126
  • 0
الإنجليزية في مدرستنا الابتدائية

لا يخفى عن أحد أن السياسة تدس خيشومها في كل قضية، ولا تتقاعس للتأثير فيها، ولذا فلا نستغرب إن وجدناها تلعب دورها في صياغة القرارات الكبرى التي تخص المنظومات التربوية في كل بلدان العالم قديما وحديثا. فالفاعل السياسي هو الذي يرسم ويحدد توجهات التربية في كل بلد استنادا إلى محددات تراعي ظروف الحقبة الزمنية وتحفظ القيم وتصون الثوابت وتحمي المقوّمات وتضع في الحسبان تنقية التقاليد والإرث التراثي من الشوائب ونقلها بأمانة إلى الأجيال المتعاقبة. ولا تتردد أن تفتح نوافذها على العوالم المحيطة بها سواء أكانت قريبة أو بعيدة، فتقتبس من خزانة ذخائرها ما تراه ناجعا ومفيدا، ولا يتعارض مع منحاها أو يتناقض مع مبتغاها.

رغم الالتحام الشديد الذي يجمع بين السياسة والتربية، إلا أنني لا أريد أن تطغى النظرة السياسية على قرار تدريس اللغة الإنجليزية في مدرستنا الابتدائية؛ لأن الانحباس في شرنقة هذه النظرة يفوّت علينا فرصة مناقشة الموضوع بكل امتداداته مناقشة زاخرة. وأما المقاربة التي أراها مناسبة للتطرق للموضوع وطرقه في هدوء فهي المقاربة التي تبقيه في إطاره التربوي المدرسي البحت. واعتماد مقاربات أخرى لن ينجينا من الوقوع في حبائل الفكروية “الإيديولوجيا” التي تحتدم في ساحتها السجالات والجدالات، وتتحوّل في كثير من الأحيان إلى صراع عصب تنشأ عنها عصبياتٌ تضيع في مشاحناتها الغايات ولو كانت سامية. ولعل الباب المؤدي إلى المدخل في هذه القضية هو المبالغة في تكرار مقولة: (إن اللغة الفرنسية هي غنيمة حرب) في كل مرة. وهي مقولة تتسبب في جرّ أذيال الخلافات بين المؤيدين والمعارضين، وتحصر المواقف في المناصرة أو المخالفة، وتجعل جل اللغط الكلامي الكثيف الذي يتناول هذا الموضوع يدور داخل إطار تجاذبي لا يخرج عن حدود المعية أو الضدية المعلنة أو الضدية المغلفة والمعبر عنها في احتشام مضموم في عبارات حبلى بالمجاملات لحفظ الودّ.

أرى أن هناك قضية منتهية بشكل قاطع وفاصل في موضوعنا، ولا يجوز أن نتوقف عندها طويلا. وهي قضية إثبات تفوّق اللغة الإنجليزية على اللغة الفرنسية، وتقدّمها عليها في كل مجالات الحياة حتى في الإشهار والدعاية للأكلات الخفيفة والسريعة والترويج لأصنافها. وإن التمادي في التذكير بهذه الحقيقة البائنة بالكلام المكرور لم يعُد أمرا مريحا.

لا مناص من التفكير الجدي في وضع سياسة لغوية تعليمية متوازنة لمدرستنا الوطنية تراعي مصلحة وطننا في المستقبل هو السبيل الكفيل الذي يسوق إليها رياح التطوير النوعي والتقدم المتلهف إليه. وإن استحضار المراتب غير المشرفة التي تحتلها جامعاتنا في الترتيب العالمي، على سبيل المثال، يثير في أنفسنا امتعاضا؛ لأننا نراه لا يتناسب مع الإمدادات المالية الضخمة التي يلتهمها تعليمنا في كل سنة. ولعل لغة التعليم المزاوَل تنتصب على رأس قائمة أسباب التردي المرفوض.

يرى بعض المنتقدين أن قرار إدخال اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي بدءا من الموسم الدراسي القادم هو قرارٌ استعجالي وكأنه نزل فجائيا من السماء، ولم تُهيأ له الشروط المرافقة التي تضمن نجاح تطبيقه ميدانيا. واعتقد أن من يهتم بالشأن التربوي كان يتوقع لحظة مجيئه حتى وإن تأخر؛ لأن التحديات التي كنا نواجهها بالأمس تختلف تماما عن تحديات اليوم في عالمنا المتقلب. ولا يجوز لنا أن ننسى أن هناك قرارات سابقة ركبنا فيها الصعب لافتقارنا إلى الظهر الذلول الميسَّر ولانغلاق أبواب الحيل في وجوهنا ومنها تعريب التعليم الابتدائي في السنوات الأولى من الاستقلال، وتعريب الشعبتين العصرية “الرياضياتية” والعلمية في زمن لاحق في التعليم الثانوي، وتعريب عدد من الفروع العلمية والعلوم الإنسانية في الجامعة في شروط أقسى من ظروفنا الحالية، ومنها فقدان الإطار المعرب الذي يغطي حاجاتنا بالعدد الكافي، وفقدان الأستاذ المؤطر، وهو الركن الركين في عملية التعلم، هو العقبة الكأداء والصعوبة المقعدة التي يتعذر قهرُها والتغلب عليها.

وبالمعاينة والمقارنة، يتبين لنا أن هذه الصعوبة غير مطروحة اليوم فيما يخص تدريس اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي؛ لأن هناك آلاف المتخرجين من الجامعات والحاملين لشهادات تتوافق مع التخصص المطلوب أو تقترب منه كالترجمة مثلا. وهم على درجة مقبولة من حيث التأهيل لمواجهة المتعلمين في أقسامهم من الناحية العلمية على الأقل. ولا شك أن تسلحهم بفنون التربية وأساليب البيداغوجيا لن يأخذ منهم وقتا طويلا إن أظهروا رغبة وتعلقا بالرسالة الموكلة إليهم. ولا استبعد أن يكون شعورهم بثقل المسؤولية وحجم التعويل عليهم في إنجاح هذه التجربة محفزا يولد في نفس كل واحد منهم دافعية عظمى تقوي عنده الرغبة والجدية ومضاعفة الجهود لتحقيق الكفاءة الأدائية المطلوبة منهم في الفصول الدراسية، ورفع التحدي كما رفعه أسلافهم من المعلمين الطلائعيين في أول دخول مدرسي من بعد استرجاع الاستقلال الوطني.

بالتوازي، يثير جمعٌ آخر من المثبِّطين مشكلة وهمية، وهي مشكلة الوسائل التعليمية المُعِينة على التعلم. ولا أحد يعدد محتويات قائمة هذه الوسائل المطلوبة ما عدا الكتاب المدرسي. وإذا علم أن تدريس اللغة العربية واللغة الفرنسية في كل السنوات السابقة جرى بالاستعانة بمورد خارجي وحيد وهو الكتاب المدرسي، فهل طباعة مليون نسخة من كتب اللغة الإنجليزية التي أعلن عنها لا تكفي لتغطية حاجات المتعلمين في كل المدارس؟ ومن بواعث الضحك في هذا السياق أن رأسا من رؤوس إحدى ما يسمى بـ”سانتيكات التربية” المعوزة، وممن فاتهم القطار وتجاوزته الأحداث اقترح أن يستعان بكتب السنة الأولى من التعليم المتوسط في نفس المادة لسد حاجات متعلمي التعليم الابتدائي!.

من الاعتراضات الأخرى التي يرفعها المعارضون لإدراج اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي تضخيمهم لمواجهة المتعلمين بعدة لغات في مستوى من العمر لم تتهيأ فيه قدراتُهم للتمكن من اكتسابها دفعة واحدة. وإذا علمنا أن الانطلاق في تعلّم هذه اللغات لا يجري في زمن واحد، إذ أن الأولوية تُمنح للغة الأم، أي اللغة العربية، ثم يُشرع في تعلم اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، وأن تحصيل هذه اللغات في هذه المرحلة من التعليم هو تحصيلٌ أولي بسيط ولا يتقاطع مع الموسوعية المتخيلة، فإن المتعلمين لن يُظهروا أي ضجر أو انزعاج يسبب لهم نفورا أو إعراضا عن تعلمها. ولا ننسى أن اللغتين الإنجليزية والفرنسية هي من أسهل اللغات في العالم، والدليل على ذلك أن مهاجرينا الأميين الذين كانوا يولّون وجوههم شطر الدول الأوروبية بحثا عن لقمة العيش تمرّنوا على الحديث حتى بلغات أوروبية صعبة في أزمنة قصيرة تحت ضرورة التواصل.

سيمنح تدريس اللغة الإنجليزية فرصة إضافية لإشاعة وتعميم مبدأ: “تكافؤ الفرص” في تعليمنا بين متعلمينا في الجنوب والشمال على حد سواء، وستتحسن نسب النجاح في الامتحانات الرسمية في الولايات التي يشكو أبناؤها من قلة التحكم في اللغة الفرنسية، وذلك لأن أبناء الشمال وجدوا في بيئة العيش (العائلة والمحيط) التي تستعمل هذه اللغة في المعاملات اليومية وبإسراف ما يساعدهم على امتلاك ناصيتها والتفوق فيها وتطويعها حديثا وكتابة.

سيمنح تدريس اللغة الإنجليزية فرصة إضافية لإشاعة وتعميم مبدأ: “تكافؤ الفرص” في تعليمنا بين متعلمينا في الجنوب والشمال على حد سواء، وستتحسن نسب النجاح في الامتحانات الرسمية في الولايات التي يشكو أبناؤها من قلة التحكم في اللغة الفرنسية، وذلك لأن أبناء الشمال وجدوا في بيئة العيش (العائلة والمحيط) التي تستعمل هذه اللغة في المعاملات اليومية وبإسراف ما يساعدهم على امتلاك ناصيتها والتفوق فيها وتطويعها حديثا وكتابة.

لا نريد أن يُنظر إلى قرار تعليم اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية على أنه استبدالٌ لتبعيةٍ بتبعيةٍ أخرى كما تُستبدل السروج، أو انتقالٌ من حضن إلى حضن ثان. وإنما علينا أن نتجاوز هذه الفكرة؛ لأن نجاح هذا المشروع سيعود بالفائدة على كل مناحي الحياة في وطننا، وقد يمكّننا من مغادرة دائرة التخلف. ولا ننسى أن السرعة التي يتحرك بها عالمنا لا يسمح لمن يسير ضد عقارب الساعة أن يجد لنفسه مكانا مريحا في مركبه. ولا شك أن الاستثمار في المدرسة، وهو أحسن استثمار، سيساهم في عمليات التحول الأخرى إيجابيا كالاقتصاد والصناعة طالما أن العنصر البشري المكون تكوينا مؤهلا هو قطب الرحى في العملية الإنتاجية. وهذه هي الطريق التي تؤدي إلى مواقع الجودة الشاملة ذات الخطوات المتوافقة.

حتى وإن كان موقفنا براجماتيا وانتفاعيا من دمج تعلم اللغات الأجنبية في مدرستنا الوطنية في هذه الآونة، فلا يحقّ لنا أن نفسِّر هذا المسعى انطلاقا من اعتبارات تنافسية ذات خلفيات مريبة. وإنما ينبغي أن تكون رؤيتنا مبنية على اجتهاد دؤوب لا يتوقف عن تطوير لغتنا العربية، ومنحها مكانة الصدارة في التعليم في كل المستويات؛ لأنها لم تنل حقها إلى اليوم، وأن نخطط لتعريب التخصصات العلمية التي يكثر عليها تدافع الطلبة كالطب البشري وطب الأسنان والصيدلة والرياضيات والذكاء الصناعي والهندسات المختلفة والبيولوجيا البحثية وعلوم الكون وعلم الفضاء وعلم البيطرة، وأن نخطط لنكون روادا في قافلة الدول الناطقة باللغة العربية لتحقيق هذا المنجز الحضاري الذي سيرفع من مكانة الجزائر، ويعلي من شأنها بين أمم المعمورة.

من المحتمل، أننا ضيعنا سنوات من عمر وطننا يتعسَّر تعويضُها؛ فلو انطلقنا في تثبيت فكرة تدريس اللغة الإنجليزية في تعليمنا الابتدائي قبل تسعينيات القرن الماضي أو مع بداية الألفية الجارية لكنا قد قطعنا شوطا من تجربة رائدة وواعدة عملت حتى على الرفع من الدخل السنوي القومي لدول سارت في ركبها مبكرا بكل شجاعة كماليزيا وسنغفورة.

من المحتمل، أننا ضيعنا سنوات من عمر وطننا يتعسَّر تعويضُها؛ فلو انطلقنا في تثبيت فكرة تدريس اللغة الإنجليزية في تعليمنا الابتدائي قبل تسعينيات القرن الماضي أو مع بداية الألفية الجارية لكنا قد قطعنا شوطا من تجربة رائدة وواعدة عملت حتى على الرفع من الدخل السنوي القومي لدول سارت في ركبها مبكرا بكل شجاعة كماليزيا وسنغفورة.

هناك سمة تشترك فيها تنبؤات رجل البيداغوجيا مع قراءات الرجل السياسي لما يلقيان ببصريهما لاستكشاف أسرار المستقبل، وهي صفة: التفاؤل. ولذا، أجد نفسي متفائلا بما ستأتي به الأيام من نتائج مبشِّرة في تبني فكرة تدريس اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!