-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإنسان الكامل

الإنسان الكامل

شاءت إرادة الله -وهو الفعّال لما يريد- واقتضت حكمته -وهو الحكيم الرشيد- أن يكون في الإنسان نقص جِبلِّيّ، لأن هذا “الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”، ألم يقل فرعون لقومه: “ما عملتُ لكم من إله غيري؟”، وتبيّن له نقصه -العجز، أو الجهل، أو الكِبْر- فقال لهامان: “ابني لي صرحا”، فلو كان “إلاها” لقال للصرح: كن فيكون.ألم يقل النمرود وهو يحاجّ إبراهيم -عليه السلام- في ربه: “أنا أحيي وأميتُ؟” ألم يقتل بعض السفهاء من الناس: “إن الله فقير ونحن أغنياء؟”، ألم يقل جاهل عندنا منذ فترة قصيرة: “لماذا نصلي صلاة الاستسقاء، ففي سدودنا ما يكفي لمدة حولين؟” وما أكثر الفراعين، والنّمارد، والسفهاء، والجهلاء في كل عصر ومصر. لقد وصف اللهعز وجلالإنسان في القرآن الكريم بكثير من أوصاف النقص، ومن هذه الأوصاف:إن الإنسان خُلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا“.وخُلق الإنسان ضعيفا،إنه كان ظلوما جهولا،وكان الإنسان عجولاوكان الإنسان قتوراوكان الإنسان أكثر شيء جدلا“..وقد ظهر هذا النص في أول إنسان خلقه الله -عز وجل- وهو آدام -عليه السلام- الذي منّ الله عليه فخلق له زوجا يسكن إليها، وتكون له لباسا، ويستأنس بها، وأسكنه الجنة، فلا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وأباح له أن يأكل من ثمرها ما تشتهيه وتلذّ عينه، ولم ينهه إلا عن شجرة، وحذّره أن يفتنه الشيطان، وأن يخرجه من هذه الجنة فيشقى..ولكن آدم -عليه السلام- نسي عهد ربه -والنسيان نقص- ولم يكن له عزم، فاستجاب لوسوسة الشيطان الذي جاءه من نقطة ضعف، فقال له: “هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى”، وقاسمه إنه له لمن الناصحين، ودلاّه بغرور “وعصى آدم ربه”، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.. ثم تاب، فتاب الله عليه.إن كل إنسان يشعر في قرارة نفسه بالنقص، ولهذا تراه يتعلق بمن يرى فيهم “الكمال”، ويحاول تقليدهم.. وكل على شاكلته.. تعويضا عن نقصه، والمشكلة هي أن هؤلاء “الكُمَّل” المقتدى بهم يشعرون هم أيضا بالنقص، ويقتدون بغيرهم.وحتى الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، ليسوا سواء في درجة الكمال، فمنهم أولو العزم، ومنهم دون ذلك، وقد أخبرنا اللهعز وجل أنه فضّل بعضهم على بعض.من أجل ذلك وجّه الله -سبحانه وتعالى- الناس إلى أكمل مرزوق، وأمثل مخلوق، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة”، لأنه جِمَاع الأخلاق، حيث اجتمع فيه ما تفرق في غيره من أكرم الأخلاق وأنبل الصفات.ألم تقل أم المؤمنين عائشةرضي الله عنهالمن سألها عن أخلاق رسول اللهصلى الله عليه وسلم-: “كان خلقه القرآن؟إن مما يساعدنا على هذا التأسي والاقتداء بمحمد -عليه الصلاة والسلام- أننا نعرف حياته معرفة دقيقة، فـ “ليس بين أنبياء العالم من ولد في ضوء التاريخ إلا محمد (1)”، ونحن “نعرف عن محمد -عليه الصلاة والسلام- أكثر مما نعرف عن مؤسس أي دين من الأديان الرئيسية الأخرى (2)”، لأنأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها في أدق تفاصيلها (3)”.فمّن من الأنبياء والرسل نعرف زوجاته، وإن عرفنا بعضهن فهل نعرف طريقة معاملتهن؟ بل إن منهم من ليس له زوجا كيحيى وعيسىعليهما السلامفكيف يكونان قدوة فيما لا يملكانه؟ومن من الأنبياء والرسل نعرف معاملته لأبنائه وأحفاده؟ بل إن “التوراة” التي يؤمن بها ويقدسها ويقتدي بها اليهود والنصارى تتحدث بأن لوطا -عليه السلام- زنى بابنتيه (4)، ولولا أن القرآن الكريم بجّله وأكرمه للعنّاه، وكيف لا يُلعن شخص أحبل ابنتيه؟ومن من بين الأنبياء والرسل نعرف تصرفاته وسلوكه مع أصحابه، ومع جيرانه، ومع أعدائه، ومع سائر الناس؟إنناع لا نعثر، ولا نظفر إلا بالنزر القليل من ذلك، وفي ذلك النزر القليل كثير من الخرافات والأساطير. ولذلك لا يمكننا الاقتداء بأمر لسنا مستوثقين منه ومن صحته.وهل يصلحمثلاعيسىالمُؤَلَّه أن يقتدي به البشر؟ حتى إن شاعرا عجب وسخر من هؤلاء النّصارى المؤلّهين لعيسىعليه السلام فقال:أعبّاد عيسى لنا عندكم        سؤال عجيب، فهل من مُجيبْ؟إذا كان عيسى على زعمكم     إلها قديرا عزيزا يهابْفكيف اعتقدتم بأن اليهود      أذاقوه بالصّلب مُرّ العذاب؟وكيف اعتقدتم أنالإله         يموت، ويدفن في التراب؟إن محمدصلى الله عليه وسلمهو وحده الذي يستحق أن يكون مثلا أعلى، وقدوة مثلى للناس جمعيا، لأن الأخبار الموثقةنقلت إلينا فِعَاله وتصرفاته في أدق تفاصيلها (5)”.لقد رأيتمنذ فترة قصيرةفي إحدى الفضائيات فريقا علميا فلسطينيا يعرض الخطوط العريضة لمشروع علمي منكب على إنجازه سماهيوميات رسول اللهصلى الله عليه وسلم-“.وما أقدم هؤلاء العلماء على مشروع كهذا إلا بعدما تأكدوا من غزارة ما بين أيديهم من تفاصيل حياة رسول اللهعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وندعو لهذا الفريق بكل توفيق.وأماالعظماءالآخرونمسلمون وغير مسلمينفأكثرهم ينطبق عليهم المثل العربي القائل: “ترى الفتيان كالنّخْل وما يديرك من الدَّخل“.فكم من كاذب وُصف بأنه أصدق الصادقين، وكم من سارق وصف بأنه أكبر الأمناء، وكم من سفيه عدّ من أحكم الحكماء، وكم من عييّ اللسان نُعت بأنه أفصح الفصحاء، وكم من رِعديد وصف بأنه أشجع الشجعان، وكم من لئيم قيل عنه بأنه أكرم الأكرمين، وكم من سراب حُسب ألذّ شراب..إن بعض “العظماءالذين لمّعتهم الدعايات الفارغة، وعظمتهم الكتابات المأجورة لا يُساوون في حقيقتهم قيمة ما يغطّون به عوراتهم، وما يسترون به سوءاتهم، وما أصدق قول الشاعر عمر أبي ريشة في لومه الأمة العربي التي سَفِهت حتى مجّدت أناسا خساسا أنجاسا، حيث قال:أمتي كم صنم مجّدته    لم يكن يحمل طهر الصّنملقد شهد الله -عز وجل- في كتابه الذي لم يكتبه الناس بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، كما فعل اليهود والنصارى، ولم يحرّف أحد كلمة من مواضعه، كما صنع اليهود والنصارى؛ شهد بعظمة أخلاق محمد -صلى الله عليه وسلم- فخاطبه تشريفا لذاته، وتعظيما لمقامه قائلا: “وإنك لعلى خلق عظيم“.إن الله -عز وجللم يكتف بالإشارة إلى خلق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ بل أكّد هذه الأخلاق مرتين باستعمال حرفي التوكيد “إن”، و”اللام”، ووصف هذه الأخلاق بالعظمة، وإن عظمة اللهسبحانه وتعالى- لتحار فيها ألباب ذوي الألباب.يستنتج من قولهعز وجل-: وإنك لعلى خلق عظيمأمران هما: استقصاء جميع الأخلاق، حيث نكّر لفظخلق، والتنكير يفيد الكثرة، ولهذا يندرج تحته كل خلق نبيل، وكل نعت جميل. بلوغ المنتهى في كل خُلق، وهو ما يفيده الحرف “على”، الذي يفيد الاستعلاء والاستيلاء، فمحمدصلى الله عليه وسلم- ليس ذا خُلق فقط؛ بل على خُلق، أي أنه بلغ ذروة وسنام كل خلق، وما أجمل قول محمد بن جابر الهواري في اعترافه بعجزه عن إيفاء حق محمد -صلى الله عليه وسموهو:وإن أقمتُ أفانينَ البديع حُلّى    بمدحه، فببعض البعض لم أقُمِفيا أيها الناسمسلمين وغير مسلمينالذين تبحثون عن قدوة حسنة، فلن تجدوها إلا في محمدصلى الله عليه وسلمسيد الكونين من عرب ومن عجم.ويا أيها الناس الذين تتطلعون إلى الكرامة الحقيقية، إنكم لن تعثروا عليها إلا فيما جاء به محمدصلى الله عليه وسلموفي سيرته العطرة.ويا من تتحرقون شوقا إلى المساواة والعدل الحقيقيين إنكم لن تطعموهما إلا على مائدة محمدعليه الصلاة والسلامالذي جعل الناس سواسية كأسنان المشط، وأقام لهم الموازين القسط،ويا أيها المستعبدون للأهواء، ولشياطين الإنس، إنكم لن تريحوا رائحة الحرية، ولن تمتلىء رِئاتكم بعيرها إلا في حديقة محمدعليه الصلاة والسلام-.ويا أيتها النساء اللاتي غرّر بكن السفهاء، وتاجروا بأعراضكن، واستعرضوا أجسادكن في الملاهي والفنادق، لا يريدون منكن إلا إشباع شهوة، واقتناص لذة، إلْجأن إلى حمى محمدى -عليه الصلاة والسلام- الذي جعل الجنة تحت أقدامكن وحماكن حتى من خائنة الأعين.إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو -كما قالت العالمة البريطانية كارين أرمسترونج-: “الإنسان الكامل، أو النموذج الإنساني (6)”، وهو -كما قال العالم البريطاني المسلم خوجة كمال الدين: “المثل الأعلى في الأنبياء (7)” فمن أراد الأسوة الحسنة في العزة، والكرامة، والعدل، والحرية، والسعادة فليمشكما قال العالم اللبناني المسيحي نصري سلهب-: “في خطى محمد (8)”.وأما غير محمدصلى الله عليه وسلم- فهم فريقان، فريق كالأنعام، بل هم أضل، وإن أعجبتنا أجسامهم وصورهم، وصحنا بحياتهم، وصفقنا لهم، وحمدناهم بما لم يفعلوا، ودبجنا فيهم القصائد العصماء، وكتبنا فيهم المقالات العيناء؛ وفريق قبضوا قبضة من أثر محمد -عليه الصلاة والسلاموقبسوا قبسا من نوره، فهم على هدى، وأولئك لهم الأمن، وسيفرحون يوم يلقون الأحبة، محمداعليه الصلاة والسلام وصحبه.وهنيئا لأمتنا الإسلامية الحائرة، وللإنسانية التائهة بميلاد من رحمها الله به.وأما السفهاء والأراذل من الغربيين أو من “المسلمين” الذين يظنون أنهم بما يخرجونه من قذارة من أفواههم، النتنة برائحة الخمر والخنزير، سيقضون على الإسلام فإننا نصفع وجوههم، ونصكّ آذانهم بما قالته العالمة البريطانية كارين ارمسترونج: “إن الإسلام لن يختفي ولن يخبو (9)”، وسيتم اللهالقوي العظيمنوره ولو كره الأنذال من أشباه النساء وأشباه الرجال، وموتوا بغيظكم“.وأما أنا فلم أزدد بعد هذه الحملة القذرة على رسول الله إلا إيمانا مع إيماني، حيث رأيت صدق آيات الله التي تقول: “لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا أذى كثيرا“.———————1فيليب حتي: تاريخ العرب. ج1 ص1562كارين ارمسترونج: محمد. ص 24 (شرك سطورالقاهرة).3مارسيل بْوَازار: إنسانية الإسلام. ص 404التوراة، سفر التكوين، الإصحاح 195مارسيل بوازار. ص 466كارين ارمسترونج. ص 3887عنوان كتاب للعالم البريطاني المسلم خوجة كمال الدين8عنوان كتاب للعالم اللبناني المسيحي نصري سلهب9- ص. 393

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!