-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الاختلاف في شأن تدريس القواعد النحوية والصرفية

خير الدين هني
  • 808
  • 0
الاختلاف في شأن تدريس القواعد النحوية والصرفية

بمناسبة حلول الموسم الدراسي الجديد 2023/2024، يطيب لي أن أتناول إشكالية مختلفا عليها بين أنصار من يدعون إلى تدريس القواعد النحوية والصرفية بطريقة قاصدة، وبين من يدعون إلى تدرسيها بطريقة عرضية ومن غير تخصيص وقت لها، فأنصار الطريقة القاصدة يرون أن الاهتمام بتعليم النحو والصرف ضرورة حتمية، تستدعيها طبيعة المحافظة على سلامة النظام اللغوي، لأن اللغة مهما كانت مزدهرة فلا يمكن أن يستمر بقاؤها من دون إتقان هذه القواعد التي تضبط ألفاظها وأساليبها وسياقاتها.

أما الفريق الثاني ممن يعارضون الطريقة القاصدة، فإنهم يدعون إلى ضرورة استبدالها بالطريقة العرضية غير المباشرة، لأنها أنسب وأريح من الأولى، وقد احتجّوا على سلامة هذا المنهج بما رأوه من نبوغ  الكثير من الأدباء والكتاب في عالم الكتابة والتأليف، رغم قلة إلمامهم بمعرفة النحو والصرف.

لكن المشكلة التي تقف عائقا، ولا يؤيد هذا الطرح، أن اللغة مهما كانت مزدهرة بقاموسها وانتشار استعمالها، لا يمكنها المحافظة على بقائها وسلامتها من دون الاعتماد على ضوابطها النحوية والصرفية، مما يوجب على الناشئين المتعلمين أن يلمّوا بعلومها وفنونها عبر مراحل تعلّمهم، كي يحصّنوا ألسنتهم من فحش اللحن الذي تمجّه أذواق العارفين، ويحافظوا على سلامة المعنى الذي هو أسمى الأهداف اللغوية.

والطريقة العرضية المقترحة لا تتناسب –كبديل للطريقة القاصدة– لأن المجتمع العربي اليوم يعاني من أوضاع لغوية وثقافية حرجة، تسببت في نكسة اللغة العربية وانحسار استعمالها، إذ حوصرت بحكم هذه الأوضاع من كل جهة، وتقلّص نفوذها في الاستعمال، لأن العرب لم يستعملوا في حياتهم المعاصرة إلا لهجات دارجة محلية مخصوصة بمناطقها، هجينة المفردات والعبارات بسبب تسفّل بعضها من الفصيح، إذ فقدت الكثير من خصائص الفصحى وإعرابها، أو لأن بعضها الآخر خليط من لغات أجنبية ولهجات محلية قديمة، فضلا عن أن أكبر نسبة في الاستعمال اليومي، تتناول العامية في جميع مجالات الحياة، في حين يبقى استعمال الفصحى محصورا في نطاق ضيّق، لا يتعدى جدران قاعات التدريس وقراءة بعض الكتب والجرائد والمجلات، وهذه الوضعية لا تناسبها الطريقة العرضية، لأن نسبة الاستفادة منها تكون ضئيلة جدا، ولا يستفيد منها إلا قلة من الموهوبين والمتفوِّقين، ممن ترشّحهم مواهبهم للنبوغ في الكتابة الأدبية، أو التاريخية والعلمية، وهم الذين استشهد بهم المعارضون فاتخذوهم حجةً على صلاحية الطريقة العرضية.

والحقيقة الغائبة التي ينبغي أن يعرفها الناس، أن أهداف التربية الحديثة، لا يقتصر اهتمامها على  فئة معينة من الموهوبين والمتفوّقين، ممن يمتلكون قدرات ذهنية عليا، تمكّنهم من استيعاب الأفكار والمعاني والمعارف، بأيِّ طريقة كانت، وإنما هي تربية شاملة جامعة موجَّهة لكل المتعلمين على اختلاف فئاتهم ومستوياتهم، بما في ذلك الجيوش الكثيرة التي لم يسعفها الحظ في استكمال تعليمها، وهي فئة تشكّل نسبة كبيرة من المجتمع، وفي يوم ما يصبحون آباء وأمهات يشرفون على تربية أجيال كاملة من البنين والبنات، ولا ريب أنّهم يتواصلون معهم باللهجة العامية، في مختلف ضروب الحياة ضمن مراحل سنهم الأولى، حتى إذا لُقِّنوا هذه العامية وتشرَّبوا معانيها قبل سن الدراسة  –وهي أخطر مرحلة تنمو فيها الملكات العقلية والانفعالية والاجتماعية واللغوية، وهي التي تسمى في علم النفس مرحلة الاكتساب– أتى فريقٌ منا (وأغلب الظن أن هذه الدعوة لأسباب أيديولوجية) ونادوا بضرورة انتهاج الطريقة العرضية في تعليم القواعد النحوية والصرفية، بوصفها طريقة تتلاءم مع المناهج الحديثة وطبيعة تعلّم اللغات.

وهذا الاتجاه لا تؤيده الأوضاع اللغوية في الأقطار العربية للأسباب التي ذكرناها، وبسبب أن تعلّم أيِّ لغة أثناء سن الدراسة، يستدعي الاطلاع بطريقةٍ قاصدة على القوانين الضابطة التي تحكم نظام لغة التعلّم، ومن دون ذلك لا يمكن التمكّنُ من إتقان تلك اللغة نطقا وكتابة واستعمالا وفهما، وما يدل على ذلك، أن الكثير من المتعلمين يجدون صعوبة كبيرة في استعمال الفصحى بطلاقة، رغم قضاء مدة طويلة في تعلّمها، واستعمالها وقراءتها والكتابة بها، في حين لا يجدون هذه الصعوبة في استعمال العامية والتواصل بها، والسبب يعود إلى عاملين أساسين، أولهما: أنهم تعلّموا العامية في سن الاكتساب، أي: في سن ما قبل المدرسة، وهذه المرحلة لها أهمية كبرى في تملك ناصية اللغة والسيطرة على نظامها.

أصحاب هذا الرأي معروفون منذ منتصف القرن الماضي، وكان أساتذتهم (سلامة موسى وسعيد عقل وغيرهما)، قد دعوا في أول الأمر إلى استعمال اللهجات العامية في التدريس، لغاية تهديم اللغة العربية والاستعاضة عنها بلغات أجنبية، لأن اللغة، أيّ لغة، إذا اندثرت قواعدها النحوية والصرفية والبلاغية والإملائية، فإن مصيرها هو الزوال من الوجود، مثلما فعلوه باللغة اللاتينية حينما استبدلوها باللغات الأوروبية القومية، وهذا ما يراد للعربية، فلما فشلوا في تمرير مشروع العامية دعوا إلى التخلي عن تعليم القواعد النحوية والصرفية والبلاغية، لتحقيق هدفهم المذموم.

وثانيهما: قضاء مدة زمنية طويلة في استعمال العامية، مما جعل العقول تتدرب على التحدث بها وتدرك طريقة تركيبها وبنائها، واستعمالها من دون حاجة إلى قواعد تضبط أساليبها وتعابيرها، وصار جهاز النطق يستعملها بسهولة ويسر، ولعل خير ما نستشهد به على سلامة هذا الرأي، ما نراه من لحن فاحش يظهر على ألسنة المغترّبين وبعض المستعربين ممن دفعتهم الظروف إلى العيش في أوطان أجنبية، حين يتواصلون بلغات بلدانهم، فرغم شيوع استعمال هذه اللغات، إلا أن الكثير منهم فقدوا القدرة على إتقانها، مع أنهم يمتلكون قاموسا لا بأس به من المفردات والعبارات، ولكنهم  يلحنون عند الحديث بها.

ولو يتاح للمجتمع العربي أن يعود إلى ظروف العصر الجاهلي، ويستعمل الفصحى في كل الأحوال، ويتعلّمها في مراحل حياته الأولى ويرضع مفرداتها وأساليبها وتعابيرها مع الحليب الذي يغْذُوه، فإذا أتيح له ذلك أمكن القول: إننا لسنا في حاجة إلى استعمال الطريقة القاصدة، لأن استعمالها –حينئذ- يكون عديم الفائدة ومضيعة للوقت، وهدرا للمال والطاقة، ولكانت الطريقة العرضية غير القاصدة هي الأجدى والأنفع.

واعتبارا لهذه الظروف التي ألمّت بالعالم العربي، إلى جانب محاصرة الفصحى باللغات الأجنبية واللهجات المحلية، أصبح من الضروري انتهاج الطريقتين معا، وهذا ما قرّره خبراء التربية وعلم النفس، إذ يكون تعليمها بالطريقة العرضية في المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي من طريق المحادثة والتعبير، لأن الطفل في متناول هذه السن، لا تمكّنه قدراته الذهنية من إدراك المعاني المجردة، خلافا لما يكون عليه نموه العقلي في المرحلة الثانية من التعليم الابتدائي، إذ يمكّنه نموُّه العقلي الناضج إلى حدّ ما، من إدراك معاني التجريد ببساطته الأولية، ومن استيعاب العلاقات المنطقية التي تربط الكلمات والجمل وحروف المعاني والمباني في صياغاتها البسيطة، لذلك يمكن تعلّمها بالطريقتين معا بدءا من السنة الرابعة ابتدائي، ويمتد عبر مساره الدراسي إلى آخر مرحلة منه، لأن قدرات الطفل الذهنية في الطور الثاني تكون قد بلغت مستويات مقبولة في النضج والنمو، يؤهِّله لإدراك التجريد برموزه وإشاراته غير المحسوسة، وهذا هو المقرّر في المناهج والبرامج الحالية، مع ضرورة ألا يحوّل واضعو المناهج والمدرِّسون تعلّم القواعد النحوية إلى غرض يُطلب  لذاته، فيُسخّرون له كل الجهود  على حساب المعارف الأخرى، ويستفيضون في عرض التأويلات والتفسيرات التي لا نفع من ورائها في صفوف التعليم الأولى، ويجعلونها هدفا لكل درس في النحو أو الصرف، مثلما كان شائعا به العمل في المدارس القديمة، وتترك التفصيلات والتأويلات إلى مستويات التخصص العليا، لأن دراسة الاختلاف في التأويل بين المدارس النحوية، من لوازم الدراسات المعمقة لأهل الاختصاص دون غيرهم من طلبة العلم.

والقواعد النحوية لها طريقتان تتناسبان طرديا، مع مستوى التلاميذ والطلبة، فصغار المتعلمين تنتَهج معهم الطريقة الاستقرائية التي تنتقل من الأحكام  الجزئية إلى الحكم العامّ الذي يحكم القاعدة العامة للموضوع، ولذلك نستعمل الأمثلة البسيطة التي تتناول الأحكام الجزئية في علاقاتها البنيوية والمنطقية، ضمن تركيب استقرائي سُلَّمِياً من البسيط إلى الصعب ثم الأصعب، أما كبار الطلبة فتناسبهم  الطريقة القياسية، التي تنتقل من الحكم العامّ إلى الأحكام الجزئية، بدأ من التعريف بالحكم العامّ الذي تمثله القاعدة، ثم التدرج في شرح الأحكام، من العامّ إلى الخاص مع الاستشهاد بالأمثلة والشواهد المختلفة، لتوضيح الحكم وتبسيطه، والطريقة القياسية هذه تتناسب مع مستويات المدرِّسين والأساتذة وطلبة المراحل العليا.

والخلاصة، إن دراسة القواعد النحوية والصرفية والبلاغية، توجب استعمال الطريقة القاصدة، التي يراد بها تخصيص منهاج ووقت وأستاذ واختبار خاص، أما الطريقة العرضية التي يريدون بها عدم تخصيص منهاج وأستاذ ووقت، وإنما تتم من طريق المشافهة التواصلية التي تتم بين الأستاذ والتلاميذ، فهذه الطريقة تتناسب مع المجتمعات التي تستعمل لغاتها في التدريس والحياة العملية معا، مما يسمى لغة الأم، وأصحاب هذا الرأي معروفون منذ منتصف القرن الماضي، وكان أساتذتهم (سلامة موسى وسعيد عقل وغيرهما)، قد دعوا في أول الأمر إلى استعمال اللهجات العامية في التدريس، لغاية تهديم اللغة العربية والاستعاضة عنها بلغات أجنبية، لأن اللغة، أيّ لغة، إذا اندثرت قواعدها النحوية والصرفية والبلاغية والإملائية، فإن مصيرها هو الزوال من الوجود، مثلما فعلوه باللغة اللاتينية حينما استبدلوها باللغات الأوروبية القومية، وهذا ما يراد للعربية، فلما فشلوا في تمرير مشروع العامية دعوا إلى التخلي عن تعليم القواعد النحوية والصرفية والبلاغية، لتحقيق هدفهم المذموم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!