-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الاستثنائية السّلبية

الاستثنائية السّلبية

الاستثناء هو انفلاتٌ من طوق القاعدة الكلية والجامعة الموضوعة أو التي تعارف عليها الناس. وفي الدرس النحوي هو إخراج الاسم الواقع بعد أداة الاستثناء من حكم الاسم الواقع قبلها. إذن، فالاستثناء هو حالة من الشذوذ المتميز الواقع على يمين أو شمال القاعدة، وهو مرفَقٌ بالإقصاء والإبعاد. والحالات الاستثنائية هي دوما حالاتٌ نادر أو قليلة. فلا يجوز أن يكبر المستثنى ويزيد عن المستثنى منه، ويتجاوزه عدا وحسابا.

تكون الاستثنائية إيجابية ومشرِّفة في الخلق حين يتعاطون مع الأمور بطريقة خارقة فيها الإعجاب والإعجاز، ويحققون نجاحات باهرة، ويعتلون القمم الشاهقة في أي ميدان من ميادين الحياة كالدراسة والمال والرياضة والفن والسياسة، ويصلون إلى أعلى مراتب النجومية الفريدة المبهرة. وممن تحدّثوا بإسهاب عن هذا النوع من الاستثنائية الصحفي البريطاني اللامع “مالكولم جلادويل” صاحب المؤلفات الأكثر مبيعا والأوسع انقرائية والتي منها كتابه: “الاستثنائيون” الذي يليق أن يطلع عليه أو على بعض صفحاته المربّون والتربويون والآباء والأمهات اعتبارا لقيمته.

لن أتحدث على امتداد سطوري المتواضعة اللاحقة عن الاستثنائية الإيجابية وما ترسمه من مخططات وطرائق ووسائل مساعدة على التفوق والنجاح، وإنما سيدور حديثي حول: “الاستثنائية السلبية” التي لا اعتبرها مخالفة أو معاكسة كليا لنظيرتها الأخرى. واعترف أنني توقفت طويلا في طريق البحث عن مصطلح جامع يعبّر عن فكرتي، فلم اهتد سوى إلى “الاستثنائية السلبية”. ومن المحتمل أن يكون استعماله مؤقتا لو أجد بديلا تعويضيا يضمن حمل مؤونة التعبيرية التي أريدها بدقة أكبر وصواب أشمل وأكمل.

تعبِّر “الاستثنائية السلبية” عن حالات سلوكية منفردة تُظهرها نسبة من الأفراد بين الحين والحين كلما أحاطت بهم ظروف إبراز هذا السلوكات الشاذة في تعاملهم مع غيرهم. وتأخذ صورة النوبة المباغتة والمندفعة فجأة. والاستثنائيون السلبيون موجودون في كل فئات وطبقات المجتمع. ومن يملك حدَّة الملاحظة ودقة المتابعة يستطيع أن يكتشفهم بسرعة. فهم موجودون في العائلة وفي المجتمع المدرسي بين المتعلمين والمدرِّسين والإداريين، وفي الشوارع والأسواق والمقاهي والملاعب. وهم حاضرون بين رجالات ونساء النخبة المثقفين والمشتغلين بالسياسة، وفيهم الأغنياء والفقراء، وفيهم الصغار والشباب والكهول والشيوخ. وعندما نستعرض بعض الحالات لاحقا سيتمكن كل واحد من معرفة عدد من النسخ المطابقة أو المماثلة للعيِّنة المقدَّمة مع تسجيل التفاوتات والاختلافات.

لا نعرف بالتحديد والتدقيق نسبة الاستثنائيين السلبيين، ولكنَّ تقديرات بعض من تحاورت معهم في شأنهم والعاملين في أوساط اجتماعية كثيفة يقدرها بنسبة عشرة بالمائة (10%). وهي نسبة ذات أثر بارز في تعكير هدوء الكتلة التي ينتمون إليها وإفساد انسجامها وتعاونها وتفاعلها؛ إذ يقفون حجارة عثرة في تدرّجها، ويعرقلون تقدمها وتطورها، ويسرقون من وقتها نصيبا يصرف هدرا ويضيع بلا طائل ولا مردود. ومنهم من دخلوا بفضل هذه الصفة في عداد من جاؤوا بالنوادر المخالفة للقياس.

إن إخراج الحديث من سياقه والرمي به في سياق آخر مغاير لسياقه الأصلي وبعيد عنه هو من أنصع مظاهر الاستثنائية السلبية التي نصادفها في الفضاء الأزرق. فما أن يكتب أحدنا منشورا واضحا لا لبس فيه حتى يقابله من يأتيه من الخلف، ويقرأه قراءة منحرفة عن القصد. وإن ناقشه صاحب المنشور في مضمون تعليقه غضب واستشاط، وخرج إلى طور انفعالي تهيج معه أعصابه، وقذف بما هو أفظ وأغلظ.

من الاستثنائيين السلبيين من يقيمون قواعدَ خاصة يحتكمون إليها، ولا يتورعون من تفاهتها وخطئها وسفالتها. وقد روى لي أحد المربين كيف جاءه متعلمٌ يشكوه سرقة قلمه في لحظة غفلة منه، وأنه عرف من مدَّ يده للسطو على مقلمته. ولما نودي عن التلميذ السارق، اعترف بوجود القلم بين يديه، ولكنه أنكر أن يكون قد سرقه، وزعم أنه وجده مرميا على الأرض في المكان الذي يجلس فيه زميله. ولما طلب منه أن يعيد القلم إلى مالكه، رفض رفضا قاطعا، وحجته أن كل ما يصادفه على الأرض ويلتقطه يدخل في عداد ملكيته الخاصة التي لا يمكن أن يتنازل عنها. ولسنا ندري، لو وجد بطاقة تعريف أحد الأشخاص مرمية، فهل يمتنع عن ردها إلى صاحبها ويعتبرها من وثائقه؟!.

لا يقدِّر الاستثنائيون السلبيون العواقب، ولا يعيرون أدنى حساب للمآلات والنهايات في تصرفاتهم العفوية المطلقة التي يصعب كبحها لقطعها أو للتخفيف منها. ولا يحسبون لخروجهم عن المألوف المشرَّع حتى في القوانين المتعارف عليها أي حساب، ولا يستحون من الوقوع في أطرف المواقف التي تُضحك أحيانا. ونجد من بين الرجال الكبار من لا يدرك فداحة تصرفه، وجسامة غلطات حديثه حتى في الرسميات، ولا يهمه إن كسر التقاليد، وسقط متعثرا بشطحاته التي تثير السجال والجدال، وقد تصل حتى إلى حدود التهكُّم والسخرية منه. وما يزال التاريخ يروي لنا حادثة حذاء الرئيس السوفياتي الأسبق نيكيتا خوروتشوف أثناء الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في نيويورك يوم الثاني عشر أكتوبر 1960م، لما نزعه من رجله، وشرع بالضرب به بطريقة مسرحية على طاولة الوفد السوفياتي اعتراضا على خطاب رئيس الوفد الفليبيني الذي انتقد فيه السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا، ووصفها بـ”السياسة الاستعمارية”. ومن بين المُزح التهكمية التي سُمعت حينها أنَّ رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان سخر من مشهد الطرق بالحذاء من طرف خروتشوف الذي اهتزت أعصابه اهتزازا عنيفا، واستولت عليه موجة الغضب الهستيرية، وعلق قائلا: (هل يمكنكم ترجمة ذلك من فضلكم؟). وأما الفاعل فلم يتحرج ولم يخجل من فعلته. واعتُبرت هذه السقطة وصمة عار في الديبلوماسية السوفياتية التي حاولت شطب هذه الحادثة من أرشيفها، وتمزيق صفحتها، وإخفائها من ذاكرة الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن يقرأ سيرة نيكيتا غورباتشوف يعثر على مواقف عديدة شاذة خاصة أثناء زياراته للدول.

لا نعرف بالتحديد والتدقيق نسبة الاستثنائيين السلبيين، ولكنَّ تقديرات بعض من تحاورت معهم في شأنهم والعاملين في أوساط اجتماعية كثيفة يقدرها بنسبة عشرة بالمائة (10%). وهي نسبة ذات أثر بارز في تعكير هدوء الكتلة التي ينتمون إليها وإفساد انسجامها وتعاونها وتفاعلها؛ إذ يقفون حجارة عثرة في تدرّجها، ويعرقلون تقدمها وتطورها، ويسرقون من وقتها نصيبا يصرف هدرا ويضيع بلا طائل ولا مردود.

قد تقف خلف الاستثنائية السلبية سماتٌ شخصية كالغُرور والعنجهية والتعالي واحتقار الآخر والجهل والحمق. وما تزال دفات كتب التاريخ بقديمه وحديثه ومعاصره تحفظ لنا أخبار شخصيات وقادة وساسة مرموقين وقفوا مواقف مخجلة. ولعلنا نقرأ في تصرُّفات الرئيس الأمريكي السابق التي رافقته حتى آخر يوم من حكمه ما يغني عن ذكر أمثلة عن الاستثنائية السلبية عند السياسيين.

يعدُّ الاستثنائيون السلبيون في المجتمع المدرسي زمرة مؤثرة في تكدير وتعفين هدوء الأقسام وفي إشعال فتيل المشادات في الأفنية في كل الأوقات. وهم يُحسنون استغلال الفرص لإشاعة الجلبة والفوضى في الفصول الدراسية التي يُفترض أن تسير في كنف الهدوء المطلق. وتعدُّ تصرفاتهم العشوائية من مخربات الدروس ومن معطلات التدرج مع مراحلها. ومثل هذه التصرفات الغريبة لا تأتي من المتعلمين فحسب، وإنما قد تصدر من بعض الأساتذة والمعلمين ولو عفويا.

لا يُظهر الاستثنائيون السلبيون أعراضا مرضية تبرِّر تصرفاتهم، وإنما هم في الغالب أشخاص أسوياء وأصحاء، ومن بينهم من لا ينقصه الذكاء والفطنة. ولعل طرائق التفكير وأساليب القيام بالأفعال وردود الأفعال لا تصدر منهم وفق ما يقبله المنطق الذي يعصم الذهن من الوقوع في الزلل وفي أخطاء التفكير. ولئن كان التفكير عند الناس العاديين يدور كما تدور عقارب الساعة، فإن تفكيرهم يخالف هذا الدوران من غير سبب واضح. وقد نجد في القصة التي علقت في ذهن  سقراط منذ صغره طريقة من طرائق تفكير الاستثنائيين السلبيين، وهي القصة التي رواها بقوله: (عندما كنت صغيرا كنت لا أحب الاستيقاظ باكرا، وكانت أمي تكره هذا التصرف مني لأنها كانت تحلم أن تراني يوماً مهندسا. وفي يوم ذهبت أمي معي إلى المعلمة وكانت قد اتفقت معها على أن تسرد لي فوائد الاستيقاظ مبكرا… المعلمة: سقراط سوف أقص عليك قصة جميلة وتقول لي ماذا استفدتَ منها… سقراط : حسناً… المعلمة: كان هناك عصفوران أحدهما استيقظ باكرا وأكل من الحشرات وأطعم صغاره، والثاني استيقظ متأخرا فلم يجد ما يأكل… المعلمة تسأل: ماذا استفدت من القصة يا سقراط؟… سقراط: إن الحشرات التي تستيقظ مبكرا تأكلها العصافير).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!