-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الاستهلاك وصناعة الثروة.. من البيتكوين إلى المؤثرين وبيع النجوم!

د. عمر هارون
  • 483
  • 0
الاستهلاك وصناعة الثروة.. من البيتكوين إلى المؤثرين وبيع النجوم!

في عالم سيصل سكانه في 2029 إلى 8.3 مليار نسمة، لا يهم كثيرا ما أنت بصدد إنتاجه وتقديمه ما دام هناك من يدفع ليحصل عليه، فما تراه أنت غير مهم أو تافهًا قد يراه البعض الآخر ضرورة وحتمية، إنّ العولمة حوّلت علاقتنا البشرية التي كانت قائمة على الأخلاق إلى علاقة إستهلاكية بحتة، تقاس فيها أهمية الإنسان بقدرته على تحقيق أكبر قدر من إشباع رغباته ونزواته وشهواته.. نعم إن الهمّ الوحيد للبشرية اليوم هو الإستهلاك، وهذا ما جعل مفهوم الحصول على المال الذي كان إلى وقت قريب مرتبطا بالصناعة أو التجارة أو تقديم الخدمات يتحول إلى عملية هلامية لا تكاد تكون مفهومة من أغلبنا نظرا لإرتباطها بعمليات بعضها بسيط حد التفاهة وبعضها معقد حد النبوغ.

البيتكوين بين السراب أو السحاب
تخيل أنك تملك مالًا تساهم في إنتاجه لجهة مجهولة من دون أن تعلم لماذا أنتج ولا النشاط الذي تقوم به من أجل إنتاجه؟ والحديث هنا عن أشهر عملة رقمية في العالم وهي بيتكوين، هذه العملة التي وُجدت في 2009 على يد شخص مجهول، وتبُنى هذه العملة على وجود 21 مليون وحدة تُصكُّ وفق جدول وُضع في بدايتها من خلال شبكة الند للند (p2p) بلا مسؤول أو سلطة حاكمة، وتقوم الشبكة كل 10 دقائق بتحديث وفق التحولات الجديدة التي تتم من خلال عملية تسمى “التعدين”، والتعدين هو حل معادلة رياضية معقدة غير معروفة تحتاج إلى طاقة كبيرة وكمبيوتر جد متطور، وحلها يضيف إلى حسابك الذي تتحكم فيه من خلال مفتاح رقمي عددا من العملات المشفرة.
إنَّ أهم قاعدة موجودة في البيتكوين هي قاعدة التنصيف والتي تجعل عائدات عملية التعدين تتراجع كل 04 سنوات، ففي 04 سنوات الأولى كانت تصدر 50 وحدة كل عشر دقائق، بعدها أصبحت 25، وصولا إلى 12.5، وحسابيا وما دمنا في 2024 فإنها الآن تقدّم 6.25 وحدة خلال 10 دقائق لتصبح في حدود 2028 تعادل3.125 وحدة خلال كل 10 دقائق، ومنه فحسابيا إلى حد الآن تم إنتاج نحو 19 مليون بيتكوين ولن يبقى إلا نحو 2 مليون ستُنتَج في القرن القادم.
إذا كنت تعتقد أنَّ ما قرأت يعدُّ أمرا غريبا فعليك أن تعلم أن سعر البيتكوين تجاوز حاجز الـ75 ألف دولار مع توقعات بإمكانية وصوله إلى 100 ألف دولار، مع واقع قد يجعله ينزل تحت 50 ألف دولار، والأغرب من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية أطلقت صناديق استثمارية لتتبُّع هذه العملة جذبت 12 مليار دولار كمرحلة أولى من التدفقات النقدية، لتتبعها هونغ كونغ بإطلاق أول سوق في آسيا لتداول العملات الرقمية في 30 أفريل الماضي، ولكم أن تتخيلوا كيف لعملة لا يُعلم لها أصلٌ ولا فصل ولا مصدر وكان ثمنها حين إستحداثها لا يتجاوز الدولار تصبح كما هي الآن؟ وحديثُنا عن هذه العملة يعدّ الشجرة التي تغطي غابة من العملات المشفرة التي استُحدثت وتتنافس في سوق يرغب كل داخل إليها في الوصول إلى الثراء الفاحش السريع بمنطلق يجعل الطمع هو من يسيّر كل قراراتهم.

صناعة المؤثرين.. حين يبزغ الصنم
إن سوق المؤثرين، حسب آخر التقارير المالية، قفز بشكل غير متوقع من 1.6 مليار دولار خلال سنة 2016 إلى 21.1 مليار دولار خلال سنة 2023، وهو ما يعني أن سوق التسويق تحوَّل بشكل رهيب من التسويق الالكتروني والرقمي الذي كان يكتسح العالم إلى التسويق من خلال المؤثرين مع ما يحمله ذلك من تخوُّفات تمس كل ما يتعلق بالجودة والمصداقية والقدرة على حماية المستهلِك من الحملات والمعلومات المضللة، بل أن العديد من الحكومات بعد تفطُّنها لقوة هذه الفئة، حاول استغلالها بطرق مختلفة تتراوح بين فرض ضرائب ورسوم على مداخيلهم وتحويلهم إلى أدوات تأثير سياسي، لتصل بعض البلدان إلى تقديم إقامة خاصة لهم شريطة الالتزام اتجاه البلد المستضيف وتقديم مجموعة من الخدمات له تتراوح بين الترويج السياسي وتبييض صورة هذا البلد، وهو نموذجٌ لم نتعوَّد عليه محليا ولا عالميا، كما أن منصات التواصل الاجتماعي أضحت ملاذا آمنا لكل راغب في تحقيق حلم الثروة السريعة، كيف لا ومنصة مثل تيك توك تقدِّم نسخة خاصة (نسخة بيتا) تجعلك قادرا على كسب المال بمجرد بقائك فيها ومشاهدة محتواها مدّة من الزمن.

بيع النجوم والهواء وأشياء أخرى
العديد من المشاريع التي قد لا يتقبّلها عقل لكنها وجدت من يدفع النقود فيها، منذ مدة ليست بالبعيدة ظهرت مؤسسة في فضاءات الترويج الرقمية تدعى established titles ، وكانت فكرة المؤسسة أنها تملك قطعة أرض وتريد تقسيمها وبيعها لمن يريد أن يشتري، ويمكن للمشتري أن يشتري مساحات صغيرة قد لا تتجاوز المتر المربع، ولكن الهدف من الشراء لمن يملك قطعة الأرض في حد ذاتها بل الوصول إلى لقب لورد (lord) بالنسبة للرجال وليدي (lady) للنساء، إذ أن التقاليد الاسكتلندية تعطي هذا اللقب لكن من يمتلك قطعة من الأرض، وكانت المؤسسة ترسل لكل من يشتري منها شهادة تثبت أنه توشَّح بلقب اللورد أو الليدي، وطبعا مع الوقت تم إكتشاف أن هذه القضية مجرد تحايل على أصحاب العقول الصغيرة، تماما كقضية بيع النجوم في السماء لمن يريد أن يشتريها أو بيع هواء في قارورات، وهو منتج حقيقي ظهر وتم تداوله في العديد من الدول إذ تم تعبئة هواء الدول الاسكندنافية المعروف بنقاوته وبيعه في الصين، وقد وصل سعر القارورة إلى حدود 150 دولار.

المتجولون في مواقع التجارة الالكترونية العالمية سيجدون آلاف المنتجات والخدمات غير المنطقية ولا المفيدة لكن لها سوقا وتجد من يشتريها، جهلا وغباءً أو زيادة في الترف ومبالغة في الثقافة الاستهلاكية التي أصبحت المنهج الذي يحكم العالم اليوم ويغطي ما أصبح يعرف بـ”ما بعد العولمة” و”ما بعد الحداثة”، فكل شيء قابل للبيع وكل شيء قابل للاستهلاك ولا مجال للمبادئ والأخلاق.

والمتجولون في مواقع التجارة الالكترونية العالمية سيجدون آلاف المنتجات والخدمات غير المنطقية ولا المفيدة لكن لها سوقا وتجد من يشتريها، جهلا وغباءً أو زيادة في الترف ومبالغة في الثقافة الاستهلاكية التي أصبحت المنهج الذي يحكم العالم اليوم ويغطي ما أصبح يعرف بـ”ما بعد العولمة” و”ما بعد الحداثة”، فكل شيء قابل للبيع وكل شيء قابل للاستهلاك ولا مجال للمبادئ والأخلاق.

نهم الاستهلاك الفكري
لم يعد بالإمكان في الزمن الحاضر الوقوف عند مسلّمات فكرية واضحة كانت تبدو لنا إلى وقت قريب بسيطة تماما كعملية عدّ أصابع اليد، فتحوَّل الأمر إلى فرض أمر واقع يجعل الأصابع الخمسة لليد الواحدة حالة عدم تعيين، ونجد هذا في ما يُروَّج له من منطق حداثي يُقفَز فيه على المصطلحات والمعاني وتوغل فيه أطرافٌ غير معروفة في تناول مواضيع الدين والجنس والمثلية، وتجري فيه التغطية عن القضايا العادلة والمصيرية، وتُحطَّم فيه القدوات، وتُطحن فيه الشعوب والأمم، وتُلوَّث الفطرة السوية، فيتحول الدفاع عن النفس إلى جريمة وقتل الأطفال إلى وسيلة لإثبات الإنسانية، حتى بدأ البشر يفقدون آدميتهم لصالح الآلة، ودخل العالم في صراع جديد مع ذكاء اصطناعي سرعان ما قد يحدّ من قدرة البشر على التحكم في مصيرهم، تماما كما فقد البشر في الكثير من مناطق العالم القدرة على الحفاظ على بقائهم كبشر بعد أن حُطِّمت الأسرة ومنظومة الزواج ليحل محلها منظوماتٌ أخرى لا علاقة لها بالآدمية، صحيحٌ أن عدد البشر في تزايد مستمر لكن الأكيد أن المناطق التي فيها هذه الزيادات هي الأبعد عن الوجه المجرم للحضارة المادية في كل من الهند بـ1.5 مليار نسمة والصين بـ1.4 مليار نسمة.
كلُّنا استهدفته المنظومة الرأسمالية التي لا يهمها إلا أن نستهلك بأبشع طريقة ممكنة مهما كان مستوى دخلنا، فالأغنياء يستهلكون البيتكوين والفقراء يشترون النجوم في السماء ولكم القدرة على القياس، هذا النموذج الذي جعلنا لا نتحكّم في أنفسنا ما دمنا قد أصبحنا رقما في معادلتهم، وإن أردت أن تنفي ما أقول أعِد ترتيب استهلاكك اليومي مع نمط حياتك وحاول أن تحسب كم تفقد من مال بسبب ارتباطك بالنموذج الاستهلاكي الجديد الذي أنت مجبَرٌ عليه من دون أن تعرف سببا لذلك، فقط كلما هممت بإنفاق اسأل نفسك: لماذا سأنفق؟ لتعلم هل جرى اختراقُك أم لا؟!.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!