-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الاعتزازُ التّافِه

الاعتزازُ التّافِه

لا شك أنّ تفاهة الحُكم تورِّث تفاهة المحكوم، والعكس صحيح أيضا.

ومن مظاهر هذه التّفاهة إنتاج أسلوب الشّعبوية وتجنيد الرأي العام حول ظواهر سطحية بعضها ترفيهي وبعضها الآخر نفعيّ مؤقت لا يضمن مستقبلا ولا يؤسِّس لتنمية على المديين المتوسط والبعيد.

أصبح مثلا الفوز في مسابقة في كرة القدم إنجازا وطنيا، كما أصبح الإخفاق فيها شبيها بهزيمة في معركة مصيرية، والحقيقة أنّه في حالتي الفوز أو الإخفاق فإنّ النّتائج لا تتعدّى فرحة أو أسفا مؤقّتا لا صِلة ولا علاقة له بمصائر الناس المعيشية والتنموية.

إنّ إضفاء صفة العزّة والكرامة وإعطاء صبغة الوطنية والسّيادة على نتائج مسابقة رياضية هو تغطية على فشل في الحكامة، وإنّ استغلال الفوز أو الهزيمة في مثل هذه التظاهرات للتّعبير عن مدى قُرب الشعوب أو تنازعها أمرٌ في منتهى الخطورة والسّطحية خاصة ونحن نُعايش في كل مناسبة التّجنيد الإعلامي بل وأحيانا السّياسيَ والدّبلوماسيَ لتعميق هذه التّفاهة وجعلِها أمرا مصيريا في حياة البلاد.

لا يُقاس تطوّرُ الدّول والشعوب بعدد الكؤوس المُحصَّل عليها في المناسبات الرياضية وإلّا عُدّت أمريكا والصين من الدّول المتخلفة، ولكن المعيار في القيادة والسّيادة هو القدرات الاقتصادية والعسكرية والعلمية ومدى استغلال المعرفة العلمية الوطنية في خلق الثروة وامتلاك ناصية الثروة الصناعية والزراعية والثقافية، والارتقاء بالحياة الاجتماعية إلى مستوى العيش الآمن الكريم بسواعد وإرادة ذاتية حرّة ومستقلة.

وحين يبكي الرِّجال على نتيجة مباراة في كرة القدم ولا يحرِّكون ساكنا على أُمَّة تُذبح فاعلم أنّنا قد بلغنا ذروة الانحطاط والتّفاهة، وحينما تُجنَّدُ وسائل هائلة من الإمكانات وتُهدَرُ مبالغ كبرى من الأموال على مسابقة كروية في حين ترتفع نِسبُ البطالة وتسوء أحوال المؤسسات الصّحية والتّعليمية وتتوسَّع دائرة الإدمان على المُسْكرات والمخدرات وتتعطّل مشاريع التّصنيع وترتفع فاتورة مُستهلكات المعاش اليومي على الأغلبية الكبرى، حينما نشاهد كل هذا ونعايشه نزداد قناعة أنّ هناك توجُّها كيْدِيا لإدخال الشعوب في رواق من التّيه والتّفاهة حتى يستمر استغلالها وإذلالها وتهميش دورها في صناعة الحياة.

إنّ النّهضة الحضارية والتّنمية البشرية الشاملة تُبنى على القيم والمُثُل والمبادئ، وتُؤَطَّر بكفاءات علمية ومعرفية، يُكلّفون بإرادة شعوبهم الحُرّة بتسلُّم أمانة خدمتها، ويخضعون إلى محاسبتها ومراقبتها بحيث لا تكون السّلطة فيها إلّا أداة لجعل المصلحة العامة وخدمة الناس فوق كل اعتبار، وأنّ التّمكين للسّيادة لا يتحقق إلّا بالاستقلال الحقيقي في امتلاك ناصية تلبية الحاجات بالكفاءة والمعرفة العلمية والإرادة الوطنية.

والذي لا يأكل ممّا يزرع، ولا يلبس ممّا ينسج، ولا يأمن في نفسه ولا عِرضه ولا جسده ممّا لا يصنع لا يمكن أن يكون كامل السّيادة، وأنّ الهروب من تحقيق هذه الأولويات وصناعة وطنية سطحية في انتصارات كرة القدم أو ما شابهها خيانة للأمانة وعجز عن تحمّل المسؤولية.

لا يُقاس تطوّرُ الدّول والشعوب بعدد الكؤوس المُحصَّل عليها في المناسبات الرياضية وإلّا عُدّت أمريكا والصين من الدّول المتخلفة، ولكن المعيار في القيادة والسّيادة هو القدرات الاقتصادية والعسكرية والعلمية ومدى استغلال المعرفة العلمية الوطنية في خلق الثروة وامتلاك ناصية الثروة الصناعية والزراعية والثقافية، والارتقاء بالحياة الاجتماعية إلى مستوى العيش الآمن الكريم بسواعد وإرادة ذاتية حرّة ومستقلة.

إذا تحقّق ذلك كان الترفيه بعده نتاجا طبيعيا مستحقا، ومظهرا صادقا يعكس شرف الانتماء ويدفع للاعتزاز والافتخار والاحتفاء والاحتفال.

دخلنا كدول وشعوب متخلِّفة في متاهة التّفاهة إلى الحد الذي أصبحت فيه المشاركة في المنافسات الرياضية وسيلة تجييش لمشاعر الكراهية بل وأحيانا مجالا للتحريض والتآمر والانتقام، ووُظِّفت فيها وسائل كبيرة وكثيرة لصرف اهتمامات الشعوب إلى ما يضرها لا إلى ما ينفعها.

يئست شعوب العالم المتخلِّف من صناعة الحياة واندمجت كلّية في التّمكين للتّفاهة بعد أن حُرِمت من الحرية الخلّاقة في صناعة الحُكم الراشد والمجتمع المنتج الصانع لإعمار الأرض، وراحت تصرِف جهدها ومشاعرها في مدرَّجات الملاعب ونتائج المنافسات الكُروية وما شابهها.

عندما ترى جماهير واسعة من مختلف الأعمار من النساء والرجال يذرفون الدموع فرحا أو حزنا على فوز أو خسارة في مباراة رياضية في الوقت الذي يُباد إخوان لهم إبادة همجية متكررة ومستمرة في فلسطين مثلا تتأكد أنّنا نعيش تفاهة مُذِلّة وانحطاطا حضاريا يجب الإسراع في معالجته، وما لم نفعل ذلك خسرنا دنيانا وآخرتنا معا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!