-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الباديسيّة أمُّ النوفمبريّة لو تُنصفون!

الباديسيّة أمُّ النوفمبريّة لو تُنصفون!

إنّ كل مطلع على تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية بمكوناتها الرئيسة، يدرك دون عناء عمق البُعد الاستقلالي الثوري في رؤية وجهود العلماء الجزائريين، بقيادة رائد النهضة، الإمام عبد الحميد بن باديس، ليقف على حقيقة ما بينهما من اتصال وثيق، وإنْ أظهرت المناورات عكس ذلك أحيانًا، تحت إكراهات المضايقات الاستعمارية، والتي يثيرها جاحدون حجة مردودة، للنيل من مشروع حضاري أفلح في انتشال أمة من تحت ركام الاستيطان.

صحيح أنّ شعار “الباديسيّة النوفمبريّة” قد أخذ بعد حراك 22 فبراير مَنحًى سياسويّا، لكن ذلك لا يبرّر على الإطلاق غمْط “خير جمعية أخرجت للجزائريين” حقها التاريخي المعلوم، في غرس روح الاستقلال بوجدان الشعب، وتنشئة جيل متشبّع بروح الانتماء والهويّة، عبر مواجهة المشروع الاستعماري الرامي إلى القضاء على الكيان الجزائري معنويّا لإلحاقه ماديّا بفرنسا.

لنتفق أولاً أن الثورة الجزائرية لم تكن مجرد حرب تحرير للأرض من السيطرة الاستعمارية، لتحقيق مطالب اجتماعية ومادية وطموحات سياسية للاستقلال، بل كانت إرهاصًا واستجابة شعبية وطنية لتحقيق مشروع حضاري بنّاء، يحمل بوادر بعث أمة بكاملها، حاول الاستعمار جاهدا بكل الوسائل ومُجنِّدا كل الإمكانات لطمس شخصيتها التاريخية، كما يقول الباحث لصر الدين لعوج.

وحينئذ سيكون لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين القدح المعلّى والسبق الشاهد، فقد طرح الإمام بن باديس فكرة الكيان الجزائري خلال الثلاثينات، ما يثبت أن هدفهم البعيد كان سياسيّا، سواء أرادوا ذلك صراحة أم لم يريدوه، على حد تعبير شيخ المؤرخين، أبو القاسم سعد الله.

لقد انخرط الإصلاحيون في صراع ثقافي حضاري مصيري يمسّ مستقبل الجزائر السياسي، بالنظر إلى تعارض الدعاية العروبيّة الإسلامية المصاحبة لتعليمهم الحرّ ولأنشطتهم الإعلامية والدعوية مع هيمنة الثقافة الفرنسية التي يرتكز عليها النظام الاستعماري.

وحارب التيار الإصلاحي الفرْنسة والتنصير والخرافات والاندماج والتجنيس، مقابل تعميق انتماء الجزائر إلى العالم العربي والإسلامي وبث الإنتاج الثقافي المشرقيّ وتبنّي قضية فلسطين، على نقيض الموقف الفرنسي، ما جعل الجزائريين أكثر وعيًا بشخصيتهم الحضارية خارج الدائرة الفرنسيّة، وفق توصيف المؤرخ بشير ملاح.

ويكفي أن احتفال فرنسا بمئوية “غزْوها الجزائر وتشييع جنازة الإسلام فيها”، كما زعم أحد ساستها، كان السبب المباشر الأول لتأسيس جمعية العلماء، لتحصين المجتمع الجزائري ضدّ مخططات الإلغاء والمسخ.

وبرغم التوجه الديني والإصلاحي للجمعية وتظاهرها بأنه لا علاقة لها بالسياسة، فإننا نجدها في الواقع العملي تقوم بأعمال ظاهرها دينيّ وباطنها سياسيّ، بحيث كان تأثيرها إيجابيّا جدا في تغيير الذهنيات التي أصبحت أكثر تقبّلا واستعدادا لتلبية الدعوة السياسية الاستقلاليّة، والكلام للمؤرخ المرحوم أحسن بومالي.

وهو ما أقرّه المستشرق الفرنسي، جوزيف ديبارمي، عندما رأى سنة 1937 أن الجمعية قد “حددت أهدافها في إيقاظ الجزائريين من نومهم، لكي يطالبوا بحقوقهم ويأخذوا مكانهم في الحياة الكريمة”.

ولم يخرج المؤرخ الفرنسي، شارل أندري جوليان، عن نفس الموقف، حيث كان العلماء في نظره يعملون لتطهير الإسلام وتكوين كيان جزائري قائمًا على الثقافة العربية الإسلامية.

وفي أحد تقارير المسؤولين الفرنسيين، أوائل الخمسينات، جاء أن العلماء كانوا يمثلون أكبر الخطر على الفكرة الفرنسية في الجزائر، إذ أنّ شُعب جمعيتهم عبارة عن خلايا سياسية، والإسلام الذي يمارسونه هو مدرسة حقيقية للوطنية، حسب أبحاث سعد الله.

بل ذهب أكثر من ذلك قائلا إنّ الحركة الوطنية الجزائرية ظلت تعتمد على الدين إلى حد كبير طيلة العهد الاستعماري، فهو العمود الفقري في كل تحرك جهادي لها، ومهمة إحيائه هو ما اضطلعت به الجمعية المباركة.

وفي حديث لجريدة “لوموند” (عدد 8/11/1954)، قال ضابط فرنسي: “لقد استطعت منذ سنوات، وأنا اشتغل في منطقة الأوراس، أن أتبيّن العمل الذي قام به العلماء الذين كوّنتهم مدرسة قسنطينة (معهد ابن باديس)، إنهم روّجوا مذهبًا وطنيّا للإسلام، حتّى نجحوا في جعل المؤمنين يخجلون من التقاليد البالية وحفلاتها وفولكلورها، إنهم بذلك مهّدوا الطريق لأعوان حركة الانتصار للحريات الديمقراطية…”.

وبعيدا عن مزايدات الفضل في تفجير الثورة، أو رغبات آخرين في تصفية حسابات أيديولوجية مع أيّ طرف، فإنّ الخلاصة الموضوعية هو أنه إذا كان الجناح الثوري للحركة الوطنيّة قد رفع راية الاستقلال، بهدف إعادة الدولة الجزائرية إلى الوجود، فإن جمعية العلماء وضعت الأسس التي يقوم عليها هذا الاستقلال، وهو بعث الشعب الجزائري في إطاره العربي والإسلامي، وهي المرحلة الأصعب والأخطر، على رأي المؤرخ ناصر الدين سعيدوني.

 لقد فهمت الجمعية نداء التاريخ، فاستجابت لتحدي الواقع الاستعماري، لأنّ الاستقلال قد يأتي فارغا من محتواه في حالة بقاء أنظمة ولغة المستعمر، إذ لا تتطور الشعوب ولا تنمو خارج مقوماتها الحضارية، من إحساس بالماضي وأمل في المستقبل وانتماء إلى معتقد وثقافة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!