-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البرلمان الذي أتمنى بعد انتخابات 12 جوان

البرلمان الذي أتمنى بعد انتخابات 12 جوان

من خلال اطلاعي على تاريخ بعض التجارب البرلمانية العربية التي شهدت صحوة ديمقراطية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي كمصر وسورية والكويت، أذكر أن المترشحين للبرلمان فيها كانوا يُختَارون من خيرة الأساتذة والدكاترة والباحثين من فقهاء الشريعة الإسلامية والقانون ولاسيما القانون الدستوري، ولم يكن أحدٌ يجرؤ على التفكير في الترشح لمنصب نائب في البرلمان كحال هذا الزمان المقلوب، إلاّ للشخصيات السياسية المتمرسة في العمل السياسي والحزبي والجمعي والنقابي والنضالي السلمي، وذلك قبل أن يتلوث العمل البرلماني بلوثة ترشح أصحاب النفوذ أو من رجال المال والأعمال كما يدّعون.

وقد كان النائب في البرلمان يقدم برنامجا انتخابيا عالي الطراز والمستوى، يتضمن رؤيته للمهمة البرلمانية، ويعكس فلسفته الشخصية أو الحزبية للسياسات العامة للبلاد في جميع ميادين ومناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والتربوية والتعليمية والصحية والإستراتيجية.. فيقدّم مشروعا مختصرا يعرض فيه الخطوط العريضة لمهمته كنائب سيُشرِّع للأمة ويسنُّ لها القوانين، وهي أخطر وأهم مهمة ووظيفة يجب أن يضطلع بها ويقوم بها خير قيام، لأن مهمة التشريع في الإسلام لا توكل إلا لأكابر العلماء وخيرة الفقهاء.. فليس يصلح لهذه المهمة التقنينية إلا من كان عالما موسوعيا في مختلف التخصصات العلمية والمعرفية، لكون التقنين والتشريع هو نيابة عن الله سبحانه وتعالى وعن الأنبياء والمرسلين في ضبط مسارات وخطوط طريق قانونية سوية لقيادة الأمة نحو حياض الخير والتقدم وشواطئ الأمان وغايات النهضة والرِّفعة بين الأمم.. وليس هو جلوسٌ على أريكة وثيرة وملء الكراسي الشاغرة بغير وعي حقيقي لمناطات وخطورة وعواقب هذه المهمة الأخلاقية والدينية الكبرى.. يجب أن يكون هامش الخطإ فيها ضئيلا جدا، ويجب أن يكون جانب الإحاطة والشمولية والفعالية في ما يصدر عنها محكما ومنضبطا، لأنّ له علاقةً وطيدة بحاضر الأمة ومستقبلها..

وقبل أن أضرب لكم أمثلة عن خطايا وزلات بعض البرلمانات السابقة في الجزائر أودّ فقط أن أنبه إلى خطورة مهمة التشريع والتقنين ثانية، لأنها أعلى مراتب الفهم بين العلماء، ولأن القانون الذي يبدو لنا قد صِيغ في عشرين أو ثلاثين كلمة منضبطة غير قابلة للتأويل الغامض أو التفسير المخلّ هو انعكاسٌ حقيقي لفلسفات معرفية متنوعة ومتشابكة، فكل قانون هو عبارة عن أرضيات فكرية ومعرفية وفلسفات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية وتاريخية ولغوية وإيديولوجية … يتضمنها ويحتويها نص ذاك القانون، ولا يدركها سوى أهل الاختصاص من فقهاء الشريعة والقانون، الذين يعرفون كيفية إنضاج القوانين، كما يعرفون الجيد والدقيق والمنضبط منها عن المُغرض أو المتسرِّع والضحل.

ولعلني قبل أن أضرب لكم أمثلة عن قوانين صيغت من قبل برلمانيين لم يعوا خطورة مهمتهم البرلمانية، وبالتالي استطاعت لوبيات الفساد عموما تمريرها في غفلة أولئك البرلمانيين الغافلين أو المتآمرين.. أو الذين كان مستواهم الدراسي والعلمي والتوعوي والنضالي لا يتعدى كعب أقدامهم.. أودُّ أن أنبه البرلمانيين الفائزين إلى أن أخطر وأهم مشروع يمرَّر في البرلمان هو مشروع قانون الميزانية والميزانية التكميلية، أو ما يسمى بقانون المالية لعام 2021م أو 2022م أو.. ففيه تنعكس سياسة ورؤية وتوجه السلطة القائمة، وتبدو خلفيات الجماعات الضاغطة والحاكمة، وخفايا ومزايا الفئات المتحكمة في مفاصل ومقاتل الشعب، ومدى المكاسب المراد تحقيقها بشكل قانوني ورسمي دون أن يتفطن البرلمانيون إلى أسرارها والمنتفعين والمستفيدين الحقيقيين منها، بل يوافقون عليها دون علم ومعرفة بعلم الاقتصاد والسياسات المالية والاقتصادية ونحوها.. ويرفعون أيديهم للتصويت عليها وفيها –للأسف الشديد- حتفهم وحتف هذا الشعب الذي انتخبهم.

وإليكم بعضا من خفايا وأسرار وغايات ومقاصد هذه القوانين، فقانون المالية السابق احتوى مادة تنص على تحديد مدة بقاء السفن والحاويات رابضة بالموانئ بمائة وثمانين يوما، بعد أن كانت في القانون السابق تُقدَّر بتسعين يوما، وكانت النية تقليصها إلى النصف أي خمسة وأربعون يوما، ولكن نافذين ومنتفعين ولوبيات فساد رفعتها وزادت في مدتها كي تُحصّل على تعويضات من خزينة الدولة الجزائرية على حساب الفقراء لتدخل في جيوبها وحساباتها، ولكونها تدير شركات نقل خاصة تتحكم في نقل بضائع الجزائريين.. وفي ضوئها عُزل وزيرُ النقل السابق حسبما صرحت به الصحف الوطنية لعقد صفقة استيراد مواد وأواني لطائرات الخطوط الجوية الجزائرية.. وأُعيد النظر في هذا القانون الذي يخدم فئة نافذة في دواليب النظام.

وقانون توظيف جميع الخرِّيجين الجزائريين من كافة التخصصات في مراحل التعليم الذي دعت إليه وزيرة التربية السابقة نورية بن غبريط رمعون، فوظفت كل من يحمل شهادة جامعية حتى تخصصات البيولوجيا والغابات وغيرها.. ممن لا يحسِنون لا العربية ولا الفرنسية أصلا، لأن تكوينهم الجامعي الهجين أعرفه ومطّلعٌ عليه جيدا، فانحطّ مستوى التعليم بانحطاط مستوى الموظفين والأساتذة الجدد، وصارت وزيرة التربية السابقة في ضوء هذه الوضعية الشاذة والأمر الواقع تطالب باستعمال اللهجة العامية لتسهيل عملية التدريس على التلاميذ والمعلمين الجدد الضعاف التكوين، بغية محاربة العربية الفصحى بشكل سري لا علني، وكان من الصعب عليها مواجهة الأمة في أحد ثوابتها، ولذا لجأت هي ومن معها إلى هذه الحيلة، والتي ظنها الكثير من البرلمانيين الغافلين والمترعين بعبق الحصانة البرلمانية وتخمة الثلاثين مليونا والسفريات للخارج.. أنها ستحل مشكلة البطالة، وهي –للأسف الشديد- تريد ضرب اللغة العربية الفصحى من مقاتلها بأيدي البرلمانيين غير المطّلعين..

ومثله قانون بيع أملاك الأمة الجزائرية بالدينار الرمزي في عهد الراحل الشاذلي بن جديد، الذي شكّل بداية لوبيات المال الفاسد.. ومثله القانون الجائر الخاصّ بتقاعد الإطارات العليا في الدولة، الذي يفرِّق بين الجزائريين دستوريا، ويجعل الإطارَ العالي يستفيد في حياته الوظيفية من كافة الامتيازات، كما يستفيد منها كاملة بعد انتهاء خدمته ويخرج بتقاعد خارج التصنيف.. وهذا القانون الجائر والمخالف لمبدأ دستوري في مساواة الشعب الجزائري في الحقوق والواجبات.. والذي كان أجدر بالبرلمانيين الوقوف في وجهه وتعديله أو رفضه ومعارضته.. لا رفع الأيدي والموافقة عليه..

مع الإشارة إلى القانون المتسرِّع وغير الناضج القاضي بسجن أي مواطن يحتجُّ على سوء استقبال مريضه أو يُبدي تذمُّره من وضعية المستشفيات والممرضين والأطباء والعاملين السيئين جدا في المستشفيات الجزائرية التي نعرفها ونعرف بعضنا جيدا، حاشى البعض القليل منهم، والسؤال المطروح هنا هو: أيُعقل أن يأتي مواطنٌ مهموم مريض إلى المستشفى ويبقى الساعات الطوال والأطباء والممرضون والعمال يعبثون غير مكترثين به، ثم إن احتجّ المسكين كان جزاؤه السجن والغرامة المالية؟ متناسين أن الطبيب والممرِّض رسول سلام، فكلمته الطيبة وابتسامته الصادقة والبشوشة نصف العلاج لو درى، ولو عرف قيمته وظيفته لما احتاج لمثل هذا القانون الجائر الذي صرف الناس عن المستشفيات خشية هذا القانون الذي صادق عليه البرلمانيون غير المأسوف على رحيلهم من خارطة الشعب.

وغيره من القوانين المتسرِّعة وغير الناضجة التي صادق عليها البرلمانيون غير المأسوف على انطفاء ذكرهم، كقانون مكافحة العصابات في الأحياء وقانون مكافحة خطاب الكراهية والتمييز، فهما قانونان غير ناضجين، وكانا بحاجة إلى قراءة وتحليل وفهم وتعمُّق في جوانب الظاهرة التي سيعالجانها، فقانون مكافحة العصابات كان أجدر به أن يوكل لعلماء النفس والاجتماع والتربية والتعليم والشؤون الدينية الأعلم بخفايا وحقيقة الأجيال الذين تربّوا في ظل انفلات أخلاقي وتربوي وديني طيلة عقدين أو أكثر، وعلاج المشكلات لا يكون بالقوانين الصماء وإنما يكون بالتعرف على أسباب المشكلات والظواهر وتوفير الحلول السريعة والناجع لها، لا بإصدار القوانين المتسرعة.

وكذلك الأمر بالنسبة لقانون محاربة خطاب الكراهية الذي صادق عليه البرلمانيون غير المأسوف على رحيلهم، هذا القانون الذي كان الأجدر به أن يُعطى للمفكرين والباحثين والفلاسفة وأساتذة الجامعة وللفقهاء والمفتين والمؤرخين والكتَّاب الجديرين بمعالجة المسائل الفكرية والتاريخية ومسائل الرأي وحرية التعبير.. لا أن يكون مسرحه المحاكم والبرلمانات..

وأخيرا.. وبعجالة: إنها رسالة أخوية موجَّهة للثلاثة والعشرين ألف مترشح لهذا المنصب الحسَّاس والخطير، وللناجحين والفائزين منهم بالمنصب النيابي الخطير.. بأن لا يكونوا كالبائسين من الذين سبقوهم إلى قبة البرلمان.. لأن الله وصفحات التاريخ وقوى الأمة الحية لا ترحم.. أللهم اشهد أني بلغت..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
11
  • أبو تمام

    يبدو أننا لن نر أمنيتنا تتحقق في ظل نظام هؤلاء رجاله..

  • أبو تمام

    هل تسمع من أحد أو تحس لهم ركزا؟؟ في أزمة الحرائق؟؟ ولو بالتصريحات والاحتجاجات..

  • المتنبي

    بدأت حملة تجديد القوانين.. لنرى عظمة هذا البرلمان؟؟؟؟

  • يوغرطة

    بادئ ذي بدء اتمني ان يصادق ويمرر البرلمان الجزائر الجديد قانون تجريم الاستعمار الفرنسي وفاءا واخلاصا لشهدائنا الابرار وللثورة وللشعب الجزائري الذي ذاق مرارة وفظاعة وجرائم ومجازر الاستظمار الفرنسي ببلادنا ابان الاحتلال والذي دام 132 سنة (واستشهاد اكثر من 20 مليون جزائري علي ايدي جنرالات وظباط فرنسا الدمويين الارهابيين النازيين بيجار وشال وموريس وديغول ...). تحيا الجزائر وشعباوجيشا شعبيا

  • سميرة

    و يبقى البرلمان الذي نتمنى و تتمنى يا دكتور حبيس امنيات لن تتحول الى حقيقة الا اذا تم تنظيف و تطهير مقاعد البرلمان و دعوة من هم كفؤ للجلوس عليها... نحن بحاجة الى اعصار يجتاح هذا المجلس فيزلزله... و الى طوفان يغسل الفساد و العفن الذي يملا المكان ...

  • ريم

    نناشدك بالله ان تترشح للرئاسة و أن ترفع هذه الأمة من المستنقع الذي ولغت فيه .. نناشدك ان تأخذ بيدنا للنور الذي تراه دكتوور

  • دقيقة صمت على الصكوك الذي ذهبت ولم تعد

    لغة لا تهم الفصاحة بقدر الالتزام بحل برلمان قبل لنشائه هذا المطلب شعب غاضب وفقط.

  • الهامل

    عن عين الكفاءة واي كفاءة ما وقع في عهد بوتفليقة شؤم وسوء طالع لكن يجب تحديد نوايا الانسلاخ من المال العام وهل يكمن ذلك في رداءة الراتب ومشقة الوصول الى النماء بشتى انواعه او تعطيل حركة المال واعطاء الحكومة الحق في وضع دستور من شأنه خلق عواقب وخيمة لانعاش مناخ ملوث نعيش فيه بوجوه رديئة

  • ضع نقاط لملا الفراغ ....من يسمعك

    انت خارج مجال التخصص لان الذي حدث ويحدث لا يحتاج سرد ولا اظهار الحقيقة وطلب من اي كان الرجوع في دجل

  • ابن تومرت

    تمنيت لو كان العمل البرلماني بالمجان وبالتطوع.. لكن السلطة لا تريد المتطوعين.. أللهم إليك المشتكى..

  • سهيلة خليف

    بارك الله فيك يا استاذ مقال مميز ولقد عبرت على مايجول في الاعماق لأننا تعبنا من المهازل