-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التعاون العلمي في مهبّ الريح

التعاون العلمي في مهبّ الريح

الوقت لم يعد وقت الكشف عن وضعيات الكيل بمكيالين من قبل الغرب “الديموقراطي” الداعي في كل المحافل إلى دعم الحريات في دول العالم الثالث، فكثير من القرارات والممارسات الصادرة عن رجال العلم ومؤسساته كانت مكشوفة للعيان منذ عقود، وربما قرون، وازدادت وضوحا اليوم خلال الحرب الروسية الأوكرانية، إذ اصطف الباحثون والعلماء في الدول الغربية وفق رؤى حكوماتهم، عدا البعض منهم الذين لم تكن لهم الجرأة الكافية لرفع أصواتهم عالية ضد قرارات هيئاتهم العلمية. فأين حرية النقد؟ وأين تكريس حرية الرأي المزعومة لرجال العلم؟

موقفٌ ألماني
كنا أشرنا في فاتح مارس ضمن مقال بعنوان “السياسةُ الملوِّثةُ للعلمِ” كيف تعامل الاتحاد الدولي للرياضيات الذي يعقد مؤتمره مرة كل 4 سنوات مع تحضيرات المؤتمر المزمع عقده في جويلية القادم في روسيا. فقد قاطع كلَّ نشاط علمي في هذا البلد، وتبعته بعد ذلك العديد من الهيئات العلمية عبر العالم في مقاطعة العلماء والهيئات العلمية الروسية… لا لسبب سوى لنشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا.
هذا، على سبيل المثال، المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي (CNRS) الذي ذاع صيته على المستوى العالمي في مجال البحث العلمي، وهو يوظف خيرة الباحثين في العالم البالغ عددهم نحو 11 ألف باحث، ينعق مثل غيره من المؤسسات العلمية الغربية. يقول هذا المركز في بيانه الصادر في مطلع شهر مارس متحدثا عن الحرب الروسية الأوكرانية: “من غير المقبول أن يندلع مثل هذا الصراع خلال القرن الحادي والعشرين داخل الأراضي الأوروبية”. وكأنه يقول إنه لا مانع أن تنشب مثل هذه الحروب مثلا في ليبيا أو الفليبين أو الهندوراس مادامت تلك البلدان ليست أوروبية! ثم يوظف البيان الأخلاقَ العلمية بقوله “العلم ليس له حدود، ولكن القيم التي تمتلكها جميع المجتمعات العلمية وتتقاسمها لا يمكن أن تتسامح مع هذه الحرب”. وكأنه يقول إن التسامح يجوز مع حروب أخرى… إلا هذه فلا!
وبعد التعبير عن تعاطفه مع الباحثين والطلبة الأوكرانيين والترحيب بمساعدتهم، يقول إعلان المركز: “يعلق المركز القومي للبحث العلمي جميع أشكال التعاون العلمي الجديدة مع روسيا، كما يلغي جميع التظاهرات والنشاطات العلمية المستقبلية التي تشارك فيها روسيا. ويمكن للباحثين الروس العاملين في المخابر الفرنسية مواصلة أنشطتهم”… وكأنه يقول إنه كان من واجب هؤلاء الروس أن يغادروا فرنسا، وها نحن نتسامح معهم!
كما تعالت أصواتٌ كثيرة من هذا القبيل، ومع ذلك أصدر رئيسَا مؤسستين ألمانيتين للتعليم العالي بيانًا يدين “القومية والإقصاء” ويدعو إلى “الانفتاح والتسامح”، وهما رئيس مؤتمر رؤساء الجامعات الألمانية (HRK) ورئيس خدمة التبادل الأكاديمي الألماني (DAAD). وجاء في التصريح أن الجامعات “أماكن لا مجال فيها لكراهية الأجانب والقومية والإقصاء”. وأضاف أن اختلاف وجهات النظر وتعدد الآراء والتبادل الدولي وضع “يندرج في إطار أسس البحث والتدريس في جامعاتنا”. واسترسل البيان موضحا أنه في جو الصراع الوحشي المروِّع الدائر في أوروبا، فإن الجامعات مدعوّة للوقوف متّحدة من أجل هذه القيم… مع وجوب الإدراك الجيد لضرورة التمييز بين الحكومة الروسية وحال الطلاب والباحثين الروس.
وفي الأخير تعهّد الرئيسان بدعم المؤسسات التي تكافح كراهية الأجانب والتعصُّب، ووعدا بدعم جهود الجامعات نحو التعاضد السلمي في رحاب مؤسسات التعليم العالي. وبالموازاة مع ذلك، حذّر رئيس جامعة كيمنتس (Chemnitz) الألمانية التي تأسست عام 1836، من نبذ الطلاب الروس والبيلاروسيين، مؤكِّدًا في رسالة مفتوحة أنهم يستحقون الدعم لأنهم لا يتحمّلون مسؤولية هجوم روسيا على أوكرانيا. ورغم هذه النداءات، فقد تم استبعاد عددٍ من الخريجين الروس من برنامج أكاديمي في ألمانيا. والغريب أن هذا الاستبعاد تم بناء على تصويت الأغلبية المشكِّلة من عدة أحزاب سياسية.

رؤساء الجامعات الروسية
وفي المقابل، وفي اليوم الذي أعلنت فيه المفوّضية الأوروبية تعليق التعاون العلمي مع روسيا، أصدر اتحاد رؤساء الجامعات الروسية بيانًا شديد اللهجة ردا على البيانات الصادرة عن الهيئات العلمية الغربية المختلفة. وجاء البيان مؤيدا لقرار الحكومة الروسية إزاء أوكرانيا، وأكد التزام موقّعيه بـ”غرس الروح الوطنية في نفوس الشباب الروسي”. ثم أشار إلى أن غزو أوكرانيا هو “عملية عسكرية خاصة” مطلوبة لـ”تحقيق نزع السلاح من أوكرانيا” بهدف حماية روسيا من “التهديدات العسكرية المتزايدة”. ولم يتردد الموقّعون في التصريح بأنه “من المهم للغاية هذه الأيام أن ندعم بلدنا، وجيشنا الذي يدافع عن أمننا”.
ويضيف البيان أن الجامعات الروسية كانت دائمًا العمود الفقري للدولة، وأن الهدف الأول هو خدمة روسيا وتطوير إمكاناتها الفكرية. ويرى رؤساء الجامعات الروسية أن عليهم الآن، أكثر من أي وقت مضى، إبراز الثقة والمرونة في مواجهة الهجمات الاقتصادية والمعلوماتية والالتفاف حول السلطة في البلاد لتعزيز الروح المتفائلة وغرس الروح الوطنية بين الطلبة…
وبهذا الخصوص عقّب الأمين العام لنقابة الجامعات الأوروبية المُركِّزة على البحث العلمي قائلا إن “اتحاد رؤساء الجامعات الروسية يخطئ كثيرا بشأن أوكرانيا: لا يمكن أن يكون دور الجامعات هو غرس الروح الوطنية، إذ أدت مثل هذه التصريحات عبر التاريخ دائمًا إلى كوارث”!
نلاحظ أن رؤساء الجامعات الروسية يرون أنه ينبغي لجامعاتهم أن “لا تقطع علاقاتها الدولية التي نُسجت على مدى عقود، وأن على الروس السعي إلى إقناع الشركاء الغربيين بالحاجة إلى مواصلة العمل معًا للبحث عن حلول للتحديات العالمية، وهذا باسم الحفاظ على التراث العلمي العالمي.”
أما رأي العلماء والباحثين في روسيا إزاء الحرب فنجد من بينهم نحو 80 عضوا في أكاديمية العلوم الروسية قد وقعوا على رسالة مفتوحة معربين فيها عن احتجاجهم الشديد ضد “الأعمال العدائية التي شنتها القوات المسلحة الروسية على أراضي أوكرانيا” ووقع هذه الرسالة أيضا 7 آلاف روسي من رجال العلم. فهل هناك في بلاد الغرب من الجامعيين من قاموا بعمل مماثل معارض لرأي حكوماتهم؟!
وهكذا، أدت السياسة الغربية في مجال التعاون العلمي، بدعوى معاقبة السلطات الروسية، إلى قرارات غريبة مثل إلغاء جميع المؤتمرات العلمية الأكاديمية الدولية التي كان من المقرر عقدها في روسيا، كما حُرم العلماء الروس أيضًا من نشر أبحاثهم في كبريات المجلات الأكاديمية الغربية التي نشرت أعمالهم بانتظام في الماضي. والقادم من التناقضات أسوأ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • فيصل

    الكل يعلم علو كعب العلماء الروس و الخاسر هم الغرب