-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التعدُّدية اللغوية ليست طريق النهضة الحقيقي

التعدُّدية اللغوية ليست طريق النهضة الحقيقي

لا أدري –والله- أيعي أولو الأمر وعيا رساليا ووطنيا وسياسيا وثقافيا فداحة الخطب والرزية في مسألة الخدمة المجانية التي يقدمونها بكل تفانٍ وبُلَهْنِيَّةٍ لخيار التعددية اللغوية في المدرسة الجزائرية المنكوبة، والمكوَّنة من أمشاج تلك الخلطة اللغوية الهجينة (الفرنسية، الإنجليزية، العربية)، التي نُكبتْ بها الأجيال الجزائرية نكبة لغوية وثقافية وحضارية وعمرانية ورسالية بالغة النتائج والتأثير والتدمير.. منذ أكثر من قرنين أسودين خليا على احتلال الجزائر وإخضاعها للهيمنة اللغوية والدينية والثقافية المسيحية الوثنية إلى اليوم 1830-2021م، تلك الهيمنة الاستعمارية التي عملت بكل ما تملك من أسلحة تدمير ثقافي ولغوي شامل، وما أعدَّته من خطط ومشاريع وبرامج وخَدَمَةٍ متحمسين وحاقدين على التنكيل بلغتها وثقافتها وحضارتها ورسالتها الوجودية والدعوية في العالم إلى اليوم؟

وهل هم واعون تمام الوعي حدود وحصانة خندقهم الوطني التأثيري، ودورهم التربوي والتعليمي والتوجيهي في مسألة التعددية اللغوية وخدمة لغات وثقافات ومدنيات عجوزتيْ الاستعمار فرنسا وبريطانيا؟ وهل هم فاقهون فقها وطنيا حقيقيا لطبيعة ونوعية الموضع الحضاري والموقع الرسالي الذي يجب أن يدركوا به إدراكا وجوديا ومصيريا -بحكم مسؤولياتهم السياسية والأمنية والوطنية- خطورة ما هم مصرُّون عليه من جنايات تاريخية وثقافية وحضارية ولغوية ورسالية ودينية في حق الأجيال الجزائرية البريئة، وهم سادرون على منهج العَمِيَّةِ الجاهلية في خدمة لغات القوى الاستعمارية من جهة، وتهوين مكانة وقدر وفاعلية اللغة العربية التي انتقاها المولى تبارك وتعالى لختم رسالاته السماوية من جهة ثانية؟

وقد يتساءل قارئٌ فقيهٌ روحا وقلبا ووجدانا، ونبيهٌ بيانا ولفظا وتعبيرا..عن سبب هذه القسوة اللغوية والفظاظة اللفظية التي استعملها ولجأ إليها الكاتبُ في عرض ووصف وتشخيص وتصوير خطورة وكارثية هذه الظاهرة اللغوية الغريبة وغير الطبيعية، والتي طال أمدها وران أسنها ونتنها وليلها الاستعماري المظلم على قداسة اللغة العربية ومكانتها الرسالية الربانية والإسلامية الخالدة لأكثر من ستين عاما بعد اندلاع الثورة التحريرية 1954م المباركة، التي كان من بين مطالبها الرئيسية إعادة الاعتبار والمكانة للغة العربية المهانة من قبل الاستعمار الفرنسي وأزلامه الخونة؟

ولنا أن نتساءل مع كل وطني وجزائري غيور –ومن حقنا التساؤل والاستغراب بل الاحتجاج الشديد- جملة من التساؤلات الممزوجة بالروح الوطنية الخالصة، كما يتساءل كل محبٍّ لوطنه ومصلحة أمته وشعبه بمن فيهم عجوزتي الاستعمار فرنسا وبريطانيا اللتين نسهر –للأسف الشديد- على خدمة لغتيهما خدمة مجانية؟ وعلينا أن نتساءل بعقل تحليلي علمي ومنهجي محايد يبحث عن الحقيقة المطلقة والفائدة فقط، قائلين:

أين هي هذه المكانة المحترمة التي تتمتع بها اللغة العربية في المنظومة السلطوية الجزائرية؟

وأين هي مكانة اللغة العربية في المنظومة التعليمية المدرسية (الابتدائي، المتوسط، الثانوي) والجامعية والبحث المتخصص في الوزارات والإدارات والدواوين ونحوها..؟

وأين هي مكانتها في الفضاء الاقتصادي وعالم المال والأعمال والنقل والصناعة والتجارة والإعلام والعلاقات الدولية والبنوك والمصارف والطيران.. وغيرها من مجالات وميادين الحياة؟

ولست مضطرا هنا لأتعب نفسي للحديث والاستدلال عن مكانتها المحتشمة والمتدنية والبعيدة عن تصدّر النشاطات والفعاليات والمجالس والقرارات المصيرية للأمة، كي تكون وسيلة التعامل الأولى والأساسية في هياكل ودواوين الأمة.. ويكفي أن نعلم ونتذكّر جميعا أن قانون تعميم استعمال اللغة الوطنية الذي وافق عليه البرلمان الذي كان يترأسه الراحل المجاهد الكبير (رابح بيطاط) والذي كان يضم في عضويته خيرة الرجال الذين تربّينا على أيديهم من أمثال الشيخ العلامة الشاعر (محمد الشبوكي ت 2005م) صاحب نشيد (جزائرنا يا بلاد الجدود * نهضنا نحطم عنك القيود) قد أُوقف في ليل بهيم مظلم بأيدي جزائرية يوم 15/01/1992م، وفي ذلك تفاصيل كثيرة ليس المقام مقامها الآن. بل حديثي كله سينصبُّ بشكل رئيسي على خطورة التعددية اللغوية -والخدمة المجانية أو المستأجرة- للغات الاستعماروآثارها التدميرية على تكوين وتربية وتثقيف وإعداد الأجيال الجزائرية الممزقة والهزيلة وطنيا وروحيا ودينيا ولغويا وثقافيا وفكريا وتربويا وأخلاقيا..

إن كل ما نعانيه من مشكلات وأزمات وكوارث وجرائم تعود بالأساس إلى إهمالنا وتخلينا بجهل أم بتآمر على اللغة الأصلية التي هي عماد ومحتوى وعصب الحياة ووعاء الفكر والثقافة والوجدان والروح واللسان والخلق والسلوك والوطنية الخالصة..

ولعلنا نقدم لكم مثالا سريعا تتخيلون من خلاله –إن كانت لكم رؤية تاريخية لغوية وطنية- عمق الرزية التي تتسببون فيها بخدمة لغات الاستعمار، وهي مشكلة (الحرقة) أو ما تسمى في الأدبيات القانونية بـ(الهجرة غير الشرعية)، وإن كان مصطلح الهجرة مصطلحٌ شرعي أُقحِم خطأً في هذا الموضع.. فلولا التهوين من شأن اللغة العربية أمام اللغات الأجنبية لما تربّت الأجيال على الخضوع والركوع والقابلية لخاصية الاستركاب والاستذلال عن طريق ومنهج وبيداغوجية  استئناس الحرف والزي واللحن والنغم والنسق والنمط والصوت والمعنى.. الأجنبي.

والمتتبع لمدارس تعليم اللغات الأجنبية المزروعة كالفطر في المدن والقرى يرى استماتة الأجيال في التسجيل فيها ومتابعة دراساتها اللغوية فيها، كي يتمكن ابننا المسلوب روحيا وعقليا ووجدانيا أو بنتنا المسكينة من إحدى اللغات الأجنبية، لأنها –للأسف الشديد- ستكون طريقه وطريقها نحو النزوح والاغتراب –الهجرة أو الحرقة- باتجاه أوربا أو كندا أو استراليا أو أمريكا.. ومن لم يستطع الهجرة الشرعية يلجأ لغيرها..

والمحلل لخطورة التعددية اللغوية كما تقضي وتقرر خلاصات الدراسات اللغوية واللسانية والأدبية والدينية الحضارية المتخصصة أيضا يتبيّن منها المخاطر الآتية:

1– خطورة التنشئة والتنمية الثقافية والاجتماعية غير السوية، إذ بينت الكثير من الدراسات والأبحاث التربوية والنفسية والدينية أيضا التي قامت في شأن دراسة أحوال الأطفال والفتيان والشباب المراهقين الذين يتلقون تكوينا وتنمية لغوية وتربوية وثقافية متعددة وموزعة على العديد من اللغات في سن مبكرة، أن الطفل لا يستطيع أن يتمكن من مبادئ لغته الأم ومن قيم ثقافته الأصيلة وتعاليم دينه، إلاّ بعد تلقيه تكوينا لغويا مكثفا حتى يبلغ سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشر، أي بعد نهاية مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية وولوج المرحلة المتوسطة، إذ يبدأ شخصه في التبرعُم والتكوّن حول محاور لغته وثقافته وقيم دينه الأم، ومن بعد هذه المرحلة تستطيع نسبة غير كبيرة من الأطفال والفتيان والفتيات تكوين ملَكة الاستعداد للانفتاح على تعلم لغة أخرى بشكل تدريجي ومرحلي، وعلى تفاوت بين قدرات وملّكات ورغبات وميول المتعلمين، بل ثمة من لا يستطيع أن يكتمل نموه اللغوي إلاّ بعد نهاية مرحلة التعليم المتوسط أي في سن السادسة عشر من العمر..

إذن كيف بنا ونحن نخلط على تلك البراءة لسانهم ووجدانهم وروحهم وثقافتهم وفكرهم وقيمهم.. في السنة الثالثة من التعليم الابتدائي وهم ما يزالون في سن الثامنة من العمر؟ وكيف يُقدِم عاقلون على اقتراف ذنب وجرم عظيم في حق الأجيال الجزائرية بهذه الجرأة والتوحش الحضاري، فيبلبلون عليهم باطنهم وعالمهم النفسي والوجداني، وهم يفصلونهم منذ نعومة أظفارهم عن محضنهم الجزائري الأصيل الذي لم يتلقوا منه بعد الزادَ الديني والثقافي الكافي لحساب محاضن المستعمرين بوعي أم من دون وعي؟ هؤلاء المستعمرون الذين ينتظرونه على الشواطئ والمطارات والموانئ والحدود، بل في السفارات والقنصليات التي يصطفُّ أمام بواباتها أبناؤنا المستلبون بأيدينا كي نقدِّمهم طعاما مهيَّئا لعجائز الاستعمار لاستخدامهم في نهضتهم وفي إحياء موات مجتمعاتهم الآفلة الباردة؟

2- الخطورة التربوية، إذ يتوزع وينتظم وتنقسم مكونات الطفل العقلية والنفسية والروحية والسلوكية والوجدانية إلى ثلاثة مناهج تربوية وتعليمية ولغوية وثقافية وصوتية، وحيث تختلف وتتباين وتتنوع القيم الفرنسية والإنجليزية والعربية اختلافا بيناً ومحوريا، وتختلط هذه القيم التي يتلقاها الطفل عبر اللغة ويحتار في أيها يختار ويفضِّل، وبالتالي فلا تستقر في نفسيته سوى تلك اللغة التي تجد لها تعزيزاتٍ واقعية وإعلامية وثقافية غالبة، وتنتهي تلقائيا لحساب ثقافة اللغتين المهيمنتين على حقول المعرفة والثقافة والفن والإعلام وسوق الشغل وضمان المستقبل الغامض في وطنهم الجريح والمثمول والبطيء الخطى.. ونحوها..

3– الخطورة اللغوية التعليمية، إذ يختلف تركيب الجمل الثلاث، فالفرنسية تنتمي إلى حقل اللغات اللاتينية، وبناء جملتها يختلف عن بناء الجملة الإنجليزية التي تنتمي إلى حقل اللغات الأنجلو ساكسونية، فيما تختلف اللغة العربية إطلاقا عنهما لانتمائها إلى حقل اللغات السامية، وهي لغة حيوية وحركية تتميز بخواص الاشتقاق والنحت والتوليد، على العكس منهما، إذْ تعتبران من اللغات الغروية أو اللصقية، وأهلُ فقه اللغة واللسانيات يعرفون تباينات هذا الحقل اللغوي حق فهمه، ويعلمون خطورته على البناء اللغوي والفكري للطفل خصوصا والأجيال عموما.

4– خطورة محمولاتها الفكرية الثقافية والحضارية والأخلاقية والدينية والروحية.. وهذه أخطرها ونتيجتها المنطقية.. إذ نشأت في ظل هذه السياسة التعليمية الهوجاء والتربوية الرعناء أجيالٌ ممزَّقة وهزيلة وفارغة من روحها ووطنيتها وأصالتها ودينها لحساب الآخر القوي الممتلئ وعودا، والمفعم بحلِّ مشاكل الشباب المختلفة، والقادر على توفير الشغل والحياة الكريمة لقاء خدمة المدنية الغربية التي برعت المؤسسات والأجهزة الوطنية واستماتت في سبيل إعداد هذا الفرد المسلوخ وطنيا، والمهيَّأ للارتماء تحت أقدام عروض الهجرة المغرية للقارات الخمس التي احتلتها القوى الاستعمارية الكبرى وعجزت عن تأهيلها وتعميرها بعد أن فككت ونهبت ومزقت الكيان الإسلامي لحساب أعداء الجزائر والعروبة والإسلام..

فإلى متى تبقون في خدمة الاستعمار ولغته وثقافته ومدنيته؟ وإلى متى تبقون في تخضيع وتهيئة الأجيال الجزائرية العربية المسلمة كي يكونوا روحا ووقودا ومددا حقيقيا يتدفق في شرايين المدنيات الاستعمارية الظالمة؟

أرجو أن تفهموا الرسالة، وأن تعوا الدرس، وتعودوا لأنفسكم وتبصروا بأنكم تنكَّبتم منذ سبعة عقود عن طريق النهضة الحقيقي؛ فالنهضة الحقيقية طريقها بتعلّم وإحياء اللغة الأم، لا بخدمة لغات عجوزتي الاستعمار فرنسا وبريطانيا الظالمتين، وللحديث بقية في أفضل السبل والمناهج العلمية للتمكّن من تعلم لغة أو لغات أخرى، ولكن قبل هذا وذلك: أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • رسالة لعملاء فرنسا الانفصاليين

    نعم، مع التعليق السابق: اتركوا يا أبناء فرنسا التلاميذ يختارون اللغة التي يريدونها، هل هي الفرنسية المتخلفة أم الانجليزية العالمية؟ أكيد الانجليزية، لكن الوصاية الفرنكوعلمانية تأبى إلا أن تجعل الجزائر مولدا للعقول الفرنسية والبقية نحو الجهل والتخلف وشهادات الكلام والمستوى تحت الصفر.

  • ثانينه

    اتركوا التلاميد يختارون اللغه التي يريدونها......