-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التكفير والسياسية والعنف.. المقدمة والنتيجة؟ 2/2

التهامي مجوري
  • 2549
  • 3
التكفير والسياسية والعنف.. المقدمة والنتيجة؟ 2/2

وإذا كان الخلاف السياسي يمكن تجاوزه، بالمفاوضات والحوار والوساطات، فإن الخلاف بين السياسيين والعقائديين لا يمكن تخطيه بذلك؛ لأن كل منهما يمارس السياسة على طريقته الإقصائية، وليس بالبحث عن مواطن الاتفاق، كما هو الحال دائما بين المختلفين، يوظف المعتقد في مقارعة خصمه ومحاولته فضحه امام الجماهير والعالم.. فالجماعات التي تبنت التكفير في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وحملت السلاح في صراعاتها مع حكامها، انطلقت من حقائق نظرية وهي أن النظام تعامل معهم بلغة الكافر الذي لا حرمة عنده للدين. فالذي يسب الله من زبانية النظام، والدين والرسول صلى الله عليه وسلم ويمزق القرآن ويصر على ذلك نكاية في المتهم، لا يمكن أن يكون إلا كافرا، ومن ثم لا بد من عقد العزم على قتاله.

وحتى مصطلح الجاهلية الذي وضعه الشهيد لسيد قطب رحمه الله، وصفا للمجتمع الإسلامي المعاصر الذي لم يتخلص من هيمنة قيم الغرب، ولد في هذا الجو الصراعي كما أسلفنا، وكذلك نشأة جماعة المسلمين في مصر، التي سميت بعد قتلها للشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري، بجماعة التكفير والهجرة، وجماعة مروان حديد في سوريا أيضا وجماعة الإخوان بعد ذلك فيما عرف بقضية الكلية المدفعية في حلب، وجماعة جهيمان التي احتلت الحرم في عز موسم الحج في العربية السعودية، وجماعة بويعلي في الجزائر، كل هذه الجماعات نشأت في هذا الجو وسارت وفق منظور أن هذه الأنظمة القائمة أنظمة كافرة، كفرا عينيا او كفرا جماعية، حيث أن بعضهم يرى أن الحكام كفرة بأعيانهم، ومنهم من لا يرى ذلك، وإنما المجتمع كمجتمع هو الكافر وليس الأفراد، أي أن منظومة الحكم هي الكافرة؛ لأنها لا تحكم بما انزل الله، أما الأفراد لا يخرجون من دائرة الإيمان.

وهذا المنحى وإن لم يكن قويا بالأساس، وبقي ردحا من الزمن نخبويا، لا يؤمن به إلا من ذاق مرارة التعذيب في سجون الأنظمة المستبدة، إلا أنه سرعان ما انتشر وترعرع بسبب الاستبداد السياسي، الذي كان أشد إفسادا للمجتمعات الإسلامية، من هذه الأفكار المتطرفة، فتمدد الفكر التكفيري في المجتمعات الإسلامية، وانتشر كالنار في الهشيم كما يقال، لا سيما بعد الحرب الأفغانية، التي اوهمت الشباب المسلم الذي شارك في هذه الحرب بإمكانية إسقاط الأنظمة المستبد بقوة السلاح.

والنظم الاستبدادية أيضا لم تقصر في نعتها للمتمردين عنها وعن سلطتها بأبشع الأوصاف والاتهامات، بالعمالة والخيانة والخروج، وكل ذلك لا يقل بشاعة وتأثير سلبي، عن التكفير نفسه.

هكذا تطورت العلاقة بين التكفير بالعنف أو بمصطلح الجهاد في المجتمعات الإسلامية، إذ كانت علاقة تلازمية تفاعلية، لالتقائهما في حكم المرتد، الذي وصفوا به الحكام والأنظمة؛ لأن التكفير في المجتمعات المسلمة، تكفير لمسلم ارتد عن إسلامه، سواء كان هذا الارتداد فرديا فيكون التكفير عينيا، او كان ارتدادا جماعيا فيكون التكفير جماعيا، ولالتقاء الفريقين على منطق الاقصاء المستنجد بالمصطلح بدل الحوار والتفاهم، وسوريا في ثمانينيات القرن الماضي، وتجربة الجزائر بعد ذلك في الثمانينيات والتسعينيات وإلى اليوم، كل ذلك شاهد على طبيعة المشكلة والعجز عن تشخيصها.

لقد كتب الاستاذ جودت سعيد كتابه “مذهب ابن آدم الأول”، في سنة 1966، ولا أظن أن واحدا من مليون مسلم قرأه واستفاد منه خلال نصف قرن، بالعكس قرأت حوارا أجري مع عمر عبد الرحمن قال فيه عندما عرض عليه قول ابن آدم (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة 28]، فقال الشيخ انا لست ملزما بمذهب ابن آدم. وكذلك ضابط المخابرات السوري الذي قال للأستاذ جودت وهو يدافع عن نفسه قائلا أنا رجل سلم وداعية لاعنف، فرد عليه قائلا كلكم سواء هم يريدون قتلنا بسرعة وأنت تريد قتلنا ببطء.

إن واقع العالم الإسلامي اليوم، في امسِّ الحاجة إلى تشخيص ظاهرة التكفير ليس لمحاربتها فحسب، أو للقضاء على التكفيريين كما يحلو للبعض، وإنما لاستئصال فكرة خاطئة، لا سيما ان هذه الفكرة الخاطئة، نتائجها الواضحة هي أن معتنقيها ومحاربيهم ضحايا لنظام دولي أكبر منهم جميعا، والمستفيد من زهق الأرواح التي تسقط هو الغرب وليس النظام السياسي في العالم الإسلامي أو الجماعات المتمردة عنه، ومن ثم فإن الذين يخوضون المعارك من “التكفيريين” وخصومهم، هم في النهاية ضحايا الغرب، ومعاركهم كلها معارك الرابح فيها خاسر.

وأول تشخيص لهذه الظاهرة في تقديري هو، هل التكفير الذي هو اليوم في الساحة الإسلامية مشرقا ومغربا ويمارس طقوسه “القتالية”، أهو مقدمة أم نتيجة؟

إن مصطلح كفر او تكفير كما ذكرنا مصطلح شرعي يعبر عن مضمون تنبني عليه جملة من الحقوق والواجبات الاجتماعية والسياسية، ولكنه حُرِّف عن مساره فاستعمل في غير ما وضع له، وهذا الإستعمال كان مقدمة عندما استعمل لأول مرة في تبرير الخروج والقتال، وذلك عندما سنه الخوارج في خروجهم عن جماعة المسلمين، فأضحى بمثابة القاعدة لكل من يريد الخروج عن الجماعة، ولكن بحكم ان هذا التبرير لم يرتق إلى مستوى القاعدة الصلبة التي تصلح مرجعا وحَكَما، بين الحكام وشعوبهم، لم يرتضيه المسلمون حكما في خلافاتهم السياسية، ولولا فعل الاستبداد الذي كان أقوى في إشعال نيران الفتنة وتأجيجها، من التنظير العلمي لها، لما عاد التكفير إلى الساحة السياسية الإسلامية.

والدارس للظاهرة وتطورها في العالم الإسلامي، يلاحظ ان أثر الظلم الذي سلط على الناس في اعتناقهم لعقيدة التكفير أكثر من اقتناعهم النظري بكفر هذه الجهة أو تلك؛ بل إن بعض الذين مارسوا مقاتلة الأنظمة من بعض الحركات، لم يقاتلوها بسبب الكفر وإنما قاتلوها محاربة  لظلمها.

وفي اعتقادي ان التكفير الآن كمبدأ ومقدمة، كما كان على عهد الخوارج لا وجود له، وإنما الموجود هو التكفير الذي نشأ بسبب الظلم والاستبداد مع الاصطدام الذي وقع بين الحركة الإسلامية والأنظمة المستبدة، ثم تطور بعد ذلك في ساحات القتال بأفغانستان في تنظيمات متعددة منها “ملة إبراهيم” ثم تنظيم القاعدة ومشتقاته بعد ذلك، ومنها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”.

يروي أهل السيرة أن رجلين من العرب أسلما بعد معاهدة صلح الحديبية، وهما أبو بصير وأبو جندل، فحرما من اللحاق بجماعة المسلمين وحلف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بسبب المعاهدة التي تنص على أن من يدخل في حلف محمد يرده لقريش، ومن يدخل في حلف قريش لا يرده محمد إليهم، فهرب الرجلان إلى الجبال ولحق بهما سبعون رجلا فشكلوا قوة ثالثة وأصبحوا يقطعون الطريق على أهل مكة فتأذت منهم قريش؛ لأنهم أصبحوا يشكلون قوة،  ليست منهم، ولا سلطان لخصمهم عليها.

فهؤلاء المحرومون من حقهم في الاختيار، لم يختاروا طريقهم كمبدإ، وإنما هم عبارة عن نتيجة غير طبيعية لوضع غير طبيعي، فزالوا بزوال المعاهدة الظالمة؛ بل ربما كانوا سببا في إبطالها.

وما كان نتيجة لا نقصد بتفسيره تبريره او إقراره، وإنما نقصد تفهمه في إطاره؛ لأن طبيعته يمكن تكييفها وامتصاصها، وتوجيهها الوجهة السليمة، التي تخدم المجتمع ومؤسسات الدولة، بالإصلاح السياسي المحلي والاقليمي، وبتجاوز الخلافات الجزئية إلى القضايا الكلية الجامعة، وبالعودة بالأمة إلى الأسس الناظمة للفكر الإسلامي، وليس الوقوف عند جزئياتها.

والأسس الناظمة للفكر الإسلامي، المتعلقة بالعلاقات الإنسانية عموما، ومنها العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي، التي يمكن أن تمثل القاعدة الصلبة، يمكن إيجازها فيما يلي:

1. عدم الإكراه في الدين (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة 256]

2. عبادة الله، وضمان الحريات (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران 64] 

3. البر والقسط إلى المخالفين ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة 8]

4. عموم الكرامة الإنسانية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) [الإسراء 70].

إن مصطلح التكفير اليوم توظفه المخابرات المركزية الأمريكية في محاربة المد الإسلامي في العالم وإشاعة الفوضى فيه، أكثر مما يحقق من مكاسب تهدف إليها الحركات المسلحة نفسها، فتنظيم القاعدة ومشتقاته، يعلنون عن سبب تكفيرهم للأنظمة والأفراد ويقاتلون من أجل إسقاط الأنظمة الفاسدة وكسر شوكة الغرب وغطرسته، هم في الحقيقة من هذه الناحية يعبرون عن غاية لا يختلف فيها إثنان بالعالم الإسلامي، ولكن المنهجية المتخذة في ذلك سواء بالتكفير أو التفجير، لا تخدم المجتمع الإسلامي؛ بل لا تخدم إلا الغرب، الذي يسعده ولا يضره ان يبيد المسلم المسلم، أو يثور الشعب على نظامه أو يبيد النظام شعبه؛ بل يتدخل ماديا ومعنويا وبالقول والفعل، ويوجه الأحداث كما يريد لها هو أن تكون، بهذه الصفة او تلك، ولذلك كان لزاما أن تلتقي منهجية “الفوضى الخلاقة” بـ”إدارة التوحش”.

وللكلام هن هاتين المنهجيتين حديث آخر طويل، نرجئه لمناسبة لاحقة إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • Carawan

    الإختلاف نوعان: جائز ومحرم..لكن يهمنا الآن أن نعرف عن الإختلاف المحرم؛فكيف وصل إلينا محرم؟جوابي هو اختلاف البشر ترجع أسبابه إلى ثلاثة لا رابع له:1-يرجع سببه إلى الدين.2-يرجع سببه إلى الدنيا.3-يرجع سببه إلى النفس..أما ما يرجع إلى الدين فهو ناتج لانحراف من جهتين: انحراف من جهة الفهم كالخوارج انحرفوا في فهم النصوص الشرعية مع الإيمان بإثباتها..وانحراف من جهة الأصل كالشيعة الشنيعة انحرفوا عن دين الإسلام واختراعوا دين جديد يبطل كل ما ثبت في القرآن والسنة.وهذا الإختلاف بسببه انتشر فكر التكفير في الأمة.

  • بدون اسم

    إن المجتمع الاسلامي اليوم و ما يسوده من فوضى خلاقة تسير عن بعد من طرف المخابر الغربية و مساهمة أبنائها بغباوتهم و جهلهم المطبق بتقنية "الصراع الفكري" التي ما احتدمت يوما كما هي عليه اليوم؟ لذا تجدهم -أبناء المجتمعات الاسلامية- يسارعون لتنفيذ خططه الخبيثة بعلمه و جهلهم و غباوتهم كأنهم صواريخ موجهة؟

  • Brahim

    يا استاذ اذا انتم تريدون اصلاح هذه الامة والمشكل الاساسي واضح هو تتقديس بعض الائمة المذاهب و التابعين على كتاب الله و هل الائمة معصومين من الخطا تعصبا او جهلا او تجاهلا كيف الله تعالى حذرنا من اكذوبة اليهود الذين قالوا لن تمسنا النار الا اياما معدودة نحن اليوم نقول مثلهم بل اكثر هي عقيدتنا الراسخة و تسببت لنا هذه الاكذوبة الى تحطيم امتنا الاسلامية واصبح كل شيئ مباح القتل ووو لان اخر المطاف هي االجنة مهما كان عملنا حسب افترائهم و كذبهم على الله و هل نبقى على حالنا الى يوم الدين